نوافذ

درسٌ لا نتعلّمُهُ في المدرسة!

اليمامة كوسى

هناك مواقف في حياةِ المرءُ تقفُ فيها عقاربُ الساعةِ لبعض الوقت غير راغبةٍ بالاستعجال، تستدعي أثناءَها أقلامَ الذاكرةِ وأوراقِها وتجلسُ بهدوء على مقعدٍ مريح لتدوّن الحكاية.

 

أذكرُ أنّني كنتُ في الصفّ الثاني الابتدائي عندما واجهتُ أوّل مشكلة حقيقيّة لم أتمكّن من حلّها بمفردي، المشكلة بدأت في الاستراحة الثانية بين الدروس والتي كنّا نسميها ” الفُرصة”، كنتُ أهُمُّ بإخراجِ طعامي الذي أكلتُ نصفهُ في الفرصة الأولى وإذ بيدٍ تمتدّ إلى كيس النايلون الشفاف وتنتشلهُ منّي بسرعةٍ خاطفة لم يكن في مقدوري معها أن أفعل شيئاً سوى أن ألاحق صاحبها ذي البدلة الكحليّة بعينيّ وهو يركض بأقصى ما يستطيع إلى أن اختفى بين الزحام.

امتعضتُ يومها للوهلة الأولى لأنني كرهتُ شعور أن يأخذَ أحدهم شيئاً ما  يخصّني بالقوّة، إلا أنني لم ألبث أن أزحتُ تلك الفكرة جانباً واستبدلتها بأُخرى أراحتني:  “صحتين عقلبه، أكيد بكون جوعان”.

عدتُ إلى المنزل دون أن يشغلني ما حدث، حتّى أنني وفي غمرة الأحاديث التي كنتُ أسردها لأهلي عند عودتي كما هي العادة نسيتُ أن أذكر لهم ذلك.

في اليوم التالي تكرّر الأمر ذاته، لكن في الفرصة الأولى، وقد عرفتُ من صديقتي بأنّهُ نفس الولد الذي سرق مني طعامي في اليوم السابق، أذكرُ أنها  قالت لي وقتها عبارة لا زالت في مسمعي إلى الآن: “بتعرفي لو كنت محلك؛ كنت خليت بابا يجي يهدّ المدرسة فوق راسه”.

سخرتُ كثيراً بيني وبين نفسي من العنف غير المبرر الذي فاجأتني به، إلّا أنّني لم أُعلّق على الأمر.

لم أكن من النوع الذي يحبّ أن يستنجد بأهله عند أيّ حدث طالما أنني قادرة على تدبّر أمري. ولأنّ صديقتي تعلم ذلك جيّداً قالت لي:” عالأقلّ يعني قولي لآنسة الباحة!” .

استجبتُ لمشورتها وأخبرتُ المُعلّمة المسؤولة عن الانضباط التي كانت تتمشّى في الباحة مع مجموعة معلمات وقد بدا أنّهنّ منشغلات بعدّة أحاديث مصيريّة، طلبَت مني أن أُسجّل اسمه على ورقة أعطتني إيّاها لأجل أن تعاقبهُ لاحقاً.

تشكّرتها جزيل الشكر على حلّها الرائع ذاك وأنا أقول لنفسي: “يعني قصدها بكرا قبل ما يسرقلي ياهن بقله لو سمحت ممكن بالأول تقلي شو اسمك! “.

في اليوم التالي عاد صاحبنا العزيز وانتشل مني طعامي بخفّة يده المعتادة، إلا أنني كنت قد أخرجت تفاحتي ووضعتها بيدي فلم يستطع أخذها.

بلغَ بي الانزعاجُ حينها أشدّهُ، فذلك السّارق ذي البدلة الكحليّة يستغلّ مسامحتي له ويقوم بسرقة طعامي للمرّة الثالثة على التوالي، فما كان منّي إلّا أن رميتهُ بالتفاحة التي كانت بيدي بكلّ ما مدّني به غضبي من قوّة، فالتفتَ إلى الوراء بعد أن وضعَ يدهُ خلف رأسه مكان إصابة التفاحة وابتسامةٌ مُستفزّةٌ لمعَت في وجهه من بعيد وهو يركض.

كان المشهدُ كوميديّاً بامتياز، إصابتهُ في رأسه تماماً ولا مبالاته التي عبّر عنها بتلك الابتسامة الساخرة، كلّ ذلك كفيلٌ بجعلي أضحك إلى الآن كلما استذكرت الموقف، إلّا أنّ الأمرُ الأشدّ إضحاكاً والذي لا زالت تُذكّرني به صديقتي هو أنّني قضمتُ قضمة من التفاحة قبل أن أرميه بها. وللحقيقة – هي وأنا- لا نزال عاجزات عن معرفة لماذا قد أكون فعلتُ ذلك، وماذا كنتُ أُفكّر حينها!

عدتُ إلى المنزل يومها وأنا أشعرُ بانزعاج فاقَ شعوري بالجوع بأضعاف، وعلمتُ بأنّ الوضع أصبح خارجاً عن السيطرة، ومُهدِّداً صريحاً للأمن القومي النفسي والغذائي الخاص بي، لذا قرّرتُ الاستعانة بأبي.

بعد أن شرحتُ له ما حدث بالتفصيل، لم يخبرني بأنّهُ سيأتي إلى المدرسة أو أنّهُ سيتصل بالمديرة أو بمعلّمة الصفّ، لكنّه أشار إليّ بما عليّ أن أفعله.

نزلتُ إلى الفرصة الأولى وأنا أجول بنظري في كل الأرجاء وأنتظرُ مجيئه، لم يتأخّر عن موعده لكنّه في هذه المرّة سحب مني الكيس سريعاً من دون أن يركض، بل ظلّ واقفاً أمامي ينظرُ إلى ما أحملهُ بيدي الأخرى متعجّباً. ابتسمتُ وقلتُ له بهدوء: “ماما ضبتلي سندويشتين وموزتين هالمرّة لحتى نآكلن سوا” ورفعتُ الكيس الذي بيدي قليلاً وتابعت: “شو رأيك؟”.

لم يكن من الصعب تبيان مشاعر الدهشة الممزوجة بالخجل والندم الشديين عندما علت ملامح وجهه. قال بلطف وفمهُ يفصحُ عن ابتسامةٍ خجولة: “شكراً..” وتابع سيرهُ من غير ركض هذه المرّة.

لم يعد إلى سرقةِ طعامي أبداً بل على العكس كان يستوقفني في الباحة ليسألني: “في حدا زاعجك شي؟  إذا أي حدا بيزعجك بس بتقليلي..”

وهكذا أصبحتُ والولد صاحب البدلة الكحليّة أصدقاء نتحدّث ونمزح ونأكل البسكويت سويّة دون أن يسرق طعام أحد ودون أن يُكتَبَ اسمه في ورقةِ معلّمة الباحة المشغولة.

اليوم وبعد حوالي ستة عشر عاماً على ذلك الموقف، أنا أعتبر ذلك الدرس من أعظم الدروس التي تعلّمتها في حياتي، وكما شرحوا لنا في الفيزياء بأنّ الظّلام هو غياب أشعة الضوء التي تجعل العين قادرة على الإبصار، وبأنّه ليس هنالك من ظاهرة مستقلّة في هذا الكون تدعى “الظّلام”، فأنا على يقين تامّ بأنّ الشرور المنتشرة في هذا العالم ما سببها سوى غياب الخير، غياب الحبّ، غياب الرِّفق، غيابُ القِيَم، غيابُ التربية، وغيابُ كلّ ما يجعل من الإنسان إنساناً.

أنيروا قلوب أبنائكم بكلّ تلك الأنوار وانظروا إليهم كيف سيضيئون هذه الحياة بكل ما فيها، وعلى النقيض؛ امنعوها عنهم وراقبوا كيف سيغرقون بالظّلمة هُم وكلّ مَن حولهم. إنّ الوحوش تُصنَع يا سادة، فأرجوكم لا تكونوا مصانعاً للوحوش!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى