دروس وعبر في ذكرى النكبة
فكرت كثيرًا حول ما أكتب في ذكرى النكبة، ووجدت أنه من المناسب تقديم ما أعتبره بعض العبر والدروس المستخلصة من التجربة الفلسطينية منذ قيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني حتى الآن.
سأبدأ بأكذوبة أن الرفض الفلسطيني والعربي لقرار التقسيم هو الذي ساهم في وقوع النكبة وجعل مساحة إسرائيل تصل إلى 78 في المئة من مساحة فلسطين الانتدابية، أي أكبر من المساحة التي خُصصت لها في قرار التقسيم.
تفنيد هذه الأكذوبة يمكن من خلال الإحالة إلى الوثائق الصهيونية التي باتت متاحة الآن، والتي تشير إلى وجود خطة صهيونية كانت موضوعة سلفًا لاستئناف العدوان والسيطرة على مزيد من الأراضي وممارسة تطهير عرقي لطرد أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين. مع العلم أن عديد وتسليح العصابات الصهيوينة فاق كماً ونوعاً ما بحوزة «الجيوش» العربية التي هبّت لنجدة فلسطين. يضاف إلى ذلك أن دعم دولة الانتداب للصهاينة أدى إلى هزيمة العرب، وليس رفضهم لقرار التقسيم.
لا يمكن محاسبة الشعب والقيادة الفلسطينيين على رفض تقسيم الوطن التاريخي على يد حركة استعمارية استيطانية إحلالية، لأن الموافقة كانت ستقسم الوطن والشعب والقضية. ولو حصل ذلك لما بقيت قضية فلسطين حية حتى الآن. لقد أحيت الثورة الفلسطينية المعاصرة القضية الفلسطينية بعد سنوات من وقوع «النكبة»، وما زالت حية برغم جميع التحديات التي تواجهها حاليًا وتهددها بالتصفية.
طبعًا، كان بإمكان الفلسطينيين والعرب إعطاء اهتمام أكبر بالشق الخاص بإقامة دولة فلسطينية (عربية وفق نص قرار التقسيم)، عبر التعاطي الإيجابي مع هذا الشق من دون الموافقة على القرار، وهذا كان سيفضح حقيقة الموقف الصهيوني منه. ولكن الأمر على أهميته مجرد تفاصيل، لأن المسألة الحاسمة كانت ولا تزال تتمثل بالاختلال الفادح في ميزان القوى لمصلحة إسرائيل ومن يدعمها.
فلسطينية القضية وعروبتها وعالميتها
من الدروس المستفادة أن طمس البعد الفلسطيني في الصراع لمصلحة البعد العربي كان خطأ فادحاً، خصوصاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كذلك كان العكس كما حصل منذ توقيع «اتفاق أوسلو» أي بتغليب البعد الفلسطيني بشكل طاغٍ طَمَسَ البعد العربي. ومن الخطأ الآن وضع ناصية القرار الفلسطيني في يد اللجنة الرباعية العربية. كما من الخطأ رفع الراية الأممية أو راية أي مشروع باسم القومية أو الدين على حساب البعد الفلسطيني الذي كان ولا يزال ويجب أن يبقى حاسمًا في إنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لن يستطيع الفلسطينيون وحدهم تحرير فلسطين، بحكم تداخل المشروع الصهيوني مع مشاريع الهيمنة على المنطقة، ولكن لا يمكنهم الانتظار حتى يستيقظ «المارد» العربي أو الإسلامي أو الأممي، بل من واجبهم إبقاء جذوة الصراع مشتعلة وإنجاز أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة. فالثورة فلسطينية الوجه، عربية العمق، عالمية الآفاق والأبعاد.
المقاومة المسلحة والسلمية
لقد أعطت الثورة الفلسطينية بعد انطلاقتها، وخصوصًا حركة «فتح»، المقاومة المسلحة اهتمامًا طاغيًا، لدرجة إطلاق شعار «هويتي بندقيتي»، وأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للتحرير. ثم انقلبت القيادة الفلسطينية على منطلقاتها واعتبرت أن المفاوضات وبقية أشكال العمل السياسي السلمية هي الطريق الوحيد لإنجاز الحقوق والأهداف الوطنية، لدرجة تجاوزت في تنازلاتها التخلي عن الكفاح المسلح عند توقيعها اتفاق «أوسلو» لتصل إلى إدانته وإعلان نبذه والتخلي عنه واعتباره نوعًا من الاٍرهاب، إضافة إلى الاعتراف المشؤوم بحق إسرائيل في الوجود على 78 في المئة من أرض فلسطين، من دون اعترافها بأي حق من الحقوق الفلسطينية.
الخلاصة التي يمكن الخروج بها من تجربة الكفاح الفلسطيني أنه يمكن الجمع ما بين المقاومة المسلحة والسلمية. كما يمكن التركيز على شكل من دون آخر، أو اعتبار هذا الشكل أو ذاك الرئيسي في هذه المرحلة أو تلك، على أساس حساب مقتضيات وظروف المرحلة والجدوى، لجهة التناسب بين الأرباح والخسائر، لكن من دون التنازل على ما أكدته الخبرة المستفادة بعد أكثر من قرن من الكفاح، من أنّ حق الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال في المقاومة المسلحة مقدس ومكفول في قرارات الأمم المتحدة وفي القانون الدولي الإنساني وفي جميع الأديان، وتخضع ممارسة هذا الحق للإستراتيجية السياسية في كل مرحلة، وللمرجعية الوطنية المعتمدة لتجسيدها.
ما يحدد أشكال النضال ليس طرفاً واحداً أو عنصراً واحداً، إنما طبيعة الصراع وخصائصه وموازين القوى، والأطراف والعوامل المؤثرة فيه، واستعداد أو عدم استعداد طرفي الصراع للتوصل إلى تسويات، ومدى استخدام القوة، فلا يمكن مواجهة المجازر الإسرائيلية بالمقاومة السلمية وحدها، مع الأخذ بالاعتبار تأثير غياب العمق العربي والدولي والإستراتيجي على الكفاح المسلح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية وحركة التحرر العالمي والتضامن العربي، وصولاً إلى الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية حاليًا.
الممكن والمستحيل
انطلقت الحركة الوطنية الحديثة من مسلّمة مفادها أنه يمكن تحرير فلسطين بضربة واحدة أو دفعة واحدة بعد تحقيق الوحدة العربية، أو قيام دولة الخلافة الإسلامية، وأن لا مكان للمراحل والتسويات المؤقتة. لذا اعتبرت في البداية كل من يتحدث عن التسوية أو الدولة على جزء من فلسطين خائناً. ثم انقلبت أوساط رئيسية نافذة في الحركة الوطنية واعتبرت أن تحقيق «شيء أفضل من لا شيء»، وطالبت «بإنقاذ ما يمكن إنقاذه»، ومضت بعيدًا في هذا الاتجاه، لدرجة وصلت فيها إلى التنازل عن معظم فلسطين والمساومة على حق العودة وعلى سيادة ومساحة الدولة الفلسطينية، من دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيق أي شيء، بما في ذلك إقامة الدولة على جزء من فلسطين.
محصلة هذا النهج ضياع كل شيء. فلم يتم الحفاظ على وحدة القضية والأرض والشعب، ولا على الرواية والحقوق التاريخية، ولم يُحرر أي جزء من فلسطين.
الدرس المستفاد من كل ما سبق، أن تحقيق الممكن، في كل مرحلة، لا يُفترض أن يتعارض مع الحقوق والمبادئ والأهداف. فما قيمة تحقيق «إنجاز» موضعي، إذا كان ثمنه التنازل عن القضية؟
صحيفة السفير اللبنانية