دستويفسكي في مذكرات زوجته عبقري أم مجنون؟
يصعب على القارئ المفتون بأدب فيودور دستويفسكي أن يعثر على كتاب يتصل بسيرة الكاتب الروسي الأشهر من دون أن يجد نفسه مشدوداً لقراءته والتعرف من خلاله إلى ما فاتته معرفته من خفايا الحياة الشخصية لصاحب «الجريمة والعقاب» وما يكتنفها من أسرار. فكيف إذا كانت السيرة مكتوبة بقلم آنّا غريغوريغنا، زوجة دستويفسكي الثانية، التي رافقته كظلّه طوال الأعوام العشرة الأخيرة من حياته، ونذرت نفسها بالكامل لخدمة زوجها المبدع، الذي لم تحل عبقريته الفذة دون وقوعه فريسة المرض والفقر والتوتر الدائم؟
قد تكون مذكرات غريغوريغنا في شكل أو في آخر واحدة من بواكير السير الشخصية التي كتبتها نساء مماثلات يتشاركن الحياة مع أزواج عباقرة. لكنها لم تكن الأخيرة بالطبع إذ حظينا، لحسن الحظ، بأعمال مماثلة لإيليني زوجة كازانتزاكي في كتابها «المنشق»، ولفرانسواز جيلو في كتابها «حياتي مع بيكاسو»، على سبيل المثل لا الحصر. ومع ذلك، قد يكون ضرباً من الإجحاف أن نضع مذكرات آنّا المتواضعة جنباً إلى جنب مع الكتابين المذكورين اللذين يتسمان بالعمق والتقصي ومتابعة التفاصيل بلغة حاذقة وخيال خلاق.
ففي الحالتين نجد أنفسنا إزاء «بورتريهين» لافتين وشبه شاملين عن صاحبي «زوربا» والـ «غرنيكا»، بحيث نشعر عبر تقنيات السرد والحوار والمونولوغ الداخلي ومساحات التوتر المتفاوتة أننا إزاء موهبتين نسويتين عاليتين، بصرف النظر عن زوجيهما. وهو أمر لا يبعث على الاستغراب إذا ما أخذنا بعين النظر أن كلاً من إيليني وفرانسواز كانتا مثقفتين مبدعتين، في حين أنّ آنّا لم تمتلك من المواهب غير اقترانها بدستويفسكي ووقوفها البطولي إلى جانبه في حياة مثقلة بالآلام. مدركةً هذه الحقيقة، تقول آنّا في كتاب مذكراتها (دار المدى – ترجمة خيري الضامن): «لم أفكر يوماً في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر إلى الموهبة الأدبية. وكنت طوال عمري مشغولة بإصدار مؤلفات زوجي الراحل». وتضيف المؤلفة أن دافعها إلى الكتابة هو تدهور صحتها بعد مرور عقود على وفاة زوجها الذي كان يكبرها بربع قرن، وخوفها من أن يضيع مع رحيلها الكثير من التفاصيل، متمنيةً أن تدفن إلى جانبه كأية زوجة مخلصة.
قد يكون من الظلم الفادح تبعاً لذلك أن نحاكم آنّا غريغوريغنا بالمعايير نفسها التي يُحاكم عبرها الأدباء المكرسون للكتابة، ومع ذلك فإن من الظلم أيضاً أن لا نعترف للكاتبة بأنها قدمت إلى القراء وثيقة مهمة عن الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي أحاطت بصاحب «الإخوة كارامازوف»، وعن التحولات الدراماتيكية للمجتمع الروسي في ذلك القرن الاستثنائي من تاريخ البشرية. صحيح أن حجم المذكرات لا يتجاوز الصفحات الستين إلا بقليل، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الصفحات القليلة أمدتنا بالكثير مما نحتاجه حول شخصية دستويفسكي المعقدة والمليئة بالمفارقات، وحول علاقاته المتوترة بمحيطه وبمعظم أدباء عصره. إضافة إلى أنّ الزوجة التي عملت بحكم تخصصها في «علم الاختزال» مساعدة للكاتب الشهير الذي كان يملي عليها فصول رواياته، لم تخرج خالية الوفاض من ذلك الزواج غير المتكافئ، بل عرفت كيف تفيد إلى حد ما من موهبة زوجها، ومن ثروته التعبيرية وطريقته في السرد.
وهي في مستهلّ الكتاب تحرص بحرفية الرسامين على تقديم رسم تقريبي لشريك حياتها «ذي الوجه الشاحب كوجوه المرضى»، والذي يتفاوت بؤبؤا عينيه في اللون والاتساع بحيث يكاد أحدهما يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية، بفعل التأثير البالغ لدواء نوبات الصرع».
ولعل حكم الإعدام الذي أصدره القيصر نقولا الأول بحق دستويفسكي وبعض رفاقه من أعضاء الحلقة الثورية الداعية إلى إلغاء الرقّ وتطبيق العدالة في المجتمع الروسي، والذي ألغي تنفيذه في اللحظات الأخيرة، رفع منسوب توتره المرضي إلى حدوده القصوى، إلا أنه دفعه من جهة ثانية إلى التعلق بالحياة واعتبارها فرصة لا تتكرر واستثمار كل لحظة منها في تطوير تجربته الروائية والإبداعية. تتوارى آنّا غريغوريغنا خلف شخصية زوجها في شكل شبه تام، ولا تظهر من نفسها إلا ذلك الجزء المتعلق بحدبها عليه وسهرها على خدمته.
ليس ثمة هنا أي بوح عاطفي حميم ولا إشارة جريئة إلى الجسد ولا إلى توتر العلاقة بين الطرفين، عدا لفتة عابرة إلى غيرة الزوج على زوجته في مجتمع القرن التاسع عشر الذي اشتهرت فيه روسيا بمحافظتها البالغة على التقاليد. ولعله أمر بالغ الدلالة أن يقضي شاعر روسيا الأكبر بوشكين بفعل مبارزة غير متكافئة مع الضابط الفرنسي الذي تحرش بزوجته الفاتنة، والذي تبين في ما بعد أنّ القيصر نفسه لم يكن بعيداً من المكيدة، بينما قضى بعده بقليل وبالطريقة نفسها ألكسندر ليرمنتوف. ولو كانت غريغوريغنا أكثر جمالاً وإغواء لما كان مستبعداً أن يلاقي دستويفسكي المصير نفسه، وهو الأقل تماسكاً من رفيقيه على الصعيدين الجسدي والعصبي، لا بل إن ما تظهره صفحات الكتاب يتصل بالحدب الأمومي للكاتبة أكثر مما يتصل بالعلاقة الحميمة والأنوثة المتفجرة.
ومع أن الكثير من الوقائع المتعلقة بحياة الزوج كالمرض والفقر والمقامرة معروف للقراء، لكن ما ترويه آنّا يكتسب صدقيته من الموقع الذي تحتله في حياة زوجها ومن التصاقها الوثيق بحياته كما بأدبه وإبداعه. فهي تخبرنا على سبيل المثل عن الأشخاص الحقيقيين الذين أدخلهم الكاتب إلى رواياته عبر عملية تحويل واعية أو غير واعية، كما عن أحداث ووقائع مختلفة تمثلها في نصوصه وأعماله.
ففي «المقامر» يتبدى الكثير من ملامح دستويفسكي نفسه الذي كان مولعاً بالقمار إلى الحد الذي أفقده كل ما يجنيه من بدلات كتبه وأتعابه. وهو جعل من مربية ابنه الأصغر نموذجاً لشخصية العجوز التي تتصدق للكنيسة عن روح ابنها الغائب، فيما هو على قيد الحياة، في رواية «الإخوة كارامازوف». وإلى الرواية نفسها نقل هذيانات زوجته الأولى المفجوعة بموت ابنهما آلكسي. وحين فشل في كتابة رواية جديدة في عنوان «الخاطئ» نقل بعض شخصياتها وحواراتها إلى رواية أخرى.
وتخبرنا الكاتبة عن الإعجاب المتبادل بين تولستوي ودستويفسكي على رغم عدم تعرف أحدهما إلى الآخر، وعن علاقته الملتبسة ببيلنسكي، أعظم النقاد الروس في ذلك الزمن، وعن كره الكثير من الأدباء والنقاد له بسبب الحسد والغيرة. نتعرف أيضاً إلى تأثره بفولتير وديدرو وإعجابه ببلزاك وهوغو وجورج صاند. واللافت أيضاً انتقاله إلى صف القوميين الروس بعد نجاته من الإعدام، بحيث لم يكن ولعه ببوشكين عائداً لأسباب جمالية بحتة، بل لأن هذا الأخير جسد في شعره أروع ما تخبئه الروح واللغة الروسيتان في جوفيهما من كنوز. وقد يشعر القارئ بالدهشة من جهة ثانية إزاء قدرات دستويفسكي المدهشة في مجال الخطابة، بحيث إن كاتباً من وزن تولستوي آثر التهرب من إحدى المناسبات السياسية الحاشدة خشية أن تضعه المقارنة مع حضور زميله الساحر في موقف لا تحمد عقباه. وإذا كان من الإجحاف أخيراً أن نطالب آنّا غريغوريغنا بأكثر مما تملكه أو تستطيعه من غوص عميق في عوالم زوجها الشاسعة، فهي جعلتنا على الأقل أقرب إلى الصورة الحية والمحسوسة لأحد أكثر القامات الروائية علواً في التاريخين الروسي والعالمي.
صحيفة الحياة اللندنية