دعوة للقراءة
“الحياة هي أفضل من يكتب القصص”
___________________________________
كلما قرأت رواية جديدة للكاتب والصديق خليل صويلح… خطرت لي هذه الجملة: “الصحفي مؤرخ اللحظة” فأضيف إليها: أما الكاتب فهو مخزن إدارة الشؤون المدنية والعسكرية للتاريخ.
وخليل صويلح…صحفي وكاتب.
من “ورّاق الحب” روايته الأولى ، إلى “عزلة الحلزون” روايته الأخيرة… أراه في كل سطور الروايات كمن يبحث عن “علّة” ما يحدث لنا.
يبحث عن تداخل الأسباب بالنتائج، الحاضر بالماضي، الفردي بالعمومي، والتاريخ بالتضليل ،والكتابة بلغة الصمت أو المسكوت عنه. يبحث خليل في كتب التراث، في الكتب المعاصرة، في المأثورات، في خنادق الموت في رماد كتب ابن رشد في سخرية الجاحظ، يبحث، والحياة اليومية تسير خطاها، عما فعله الأجداد والأسلاف وثقافتهم، عما أورثوه لنا من منوعات العنف لنكون أفدح منهم في استثمارات الدم… برابرة عصر.
في كل رواية تجد المسعى ذاته في إيجاد المعقول في متاهة اللامعقول. مستعيناً بالكتب والنصوص وشهود التاريخ اليومي مثل “البديري الحلاق” في حوادث دمشق اليومية:
“فقد ضاقت الأنفاس، والأشياء زادت عن القياس، والباشا ومن حوله يجمعون المال في الأكياس”.
يعلق خليل على هذا النص: “وكأن دمشق لم تغادر القرن الثامن عشر بوصة واحدة. أو أنها تكتب حفريات الطغيان بأشكال مختلفة”.
وإذا كان البحث عن الجذور في الكتب يهدف إلى اكتشاف الأثر في الواقع… فإن خليل يستعين بالخط الموازي لسرديات الأجداد، وهو الكشف عن الخلل في شبكة علاقات الحاضر أيضاً: “الآن… الآن فقط أدرك لماذا كتب فاتح المدرس عند باب مرسمه في ساحة النجمة عبارة: “هولاكو مر من هنا ”
“سألني الطبيب: هل هناك سبب محدد لارتفاع ضغط الدم لديك؟ أجبته متفلسفاً: إنها مسألة تراكمات وحطام وقت وخراب بلاد.”
ثم ينتقل خليل إلى الأمس… الأمس الذي يرفع الضغط إلى السماء السابعة عند ابن خلدون ، وهو يعلن في مقدمته: “العرب أمة وحشية. أهل نهب وعبث، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب. يهدمون الصروح والمباني ليأخذوا حجارتها أثافي للقدور…”
من رواية إلى أخرى نرى الخراب والدمار والجثث والبشر وحطام الحجر.. نرى تخبط المصائر، وانتهاكات الحرية. الآلام من كل أصناف آلام البشرية، ونقرأ مكر التاريخ الذي يتكرر كمأساة ومهزلة… إلا أن روايات خليل، المليئة عشاقاً مخذولين، وأقداراً غاشمة وأسلافاً يورثوننا منوعات الرؤوس المقطوعة.
روايات خليل رغم ازدحامها بكل منوعات تاريخ الاوجاع …تتمتع بالمزايا التي تجعل القراءة متعة معرفية وجمالية، والتي تسرد الألم بلغة الأمل. دون التورط في جعل الوهم حقيقة.
خليل يدعوك من اللحظة الأولى إلى غواية القراءة. ثم يتركك متورطاً في التلصص على المصائر، والتمعن بفكرة الصناعة الغريبة للتاريخ البشري، في مجتمعات تجد نفسها متورطة في عبث البربرية التي لا مبرر لها، أو لا طائل منها.
إن مادة خليل الكاتب لا يمكن أن تنتهي، ذلك لأنها رصد ما هو جار لاكتشاف ما هو متوقع.
ولأن خليل لا يكتب بلغة الرسائل التي يجب أن تحملها الرواية المتبجحة في السرد العربي الراهن… فإنه يطور أسلوب “الرفقة” بين القارىء والكاتب… الرفقة التي ينبغي لها أن تكون لطيفة، وحارة، وممتعة.
سوف أتذكر، وأنا في ختام روايته الأخيرة ،هذه الجملة:
” علّمه كيف يعيش بدلاً من أن تعلّمه كيف يتجنب الموت”.