دفاعاً عن «شايلوك» القصّة السورية (باسم سليمان)

 

باسم سليمان

ما الذي بقي من نمر زكريا تامر!؟:« .. وفي اليوم العاشر، اختفى المروّض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً والقفص مدينة» هذه النهاية ليست تهكّماً، فالتهكّم: تصنّع الجهل وإلقاء أسئلة مشككة تُوقع في التناقض وهو أحد مرحلتي المنهج السقراطي والتهكّم كبلاغة: أسلوب ولون من ألوان البديع يعبّر فيه بعبارة يقصد منها ضدّ معناها، لكنّها سخرية تهزأ من واقع الحال والمآل وفقط! السبب في هذه المقارنة للوقوف عند الجدّة التي خرج إليها القاص زكريا تامر متمرداً على المذهب الواقعي والواقعي الاشتراكي من حيث أنّ الواقعي وهو وصف وتقرير والواقعي الاشتراكي هو وصف وتقرير وطلب وحلم وسعي للتغير عليه؛ فهل كان الخروج والتمرد بالمعنى الإيجابي للجديد أم أنّ الأمر لم يتجاوز حالة السّلب حيث بقيت السّخرية هي مدار القصّ لدى زكريا تامر ولم تدخل في المرحلة الجدلية أيّ التهكم؟.
لقد تطيّر زكريا تامر من الأدلجة ورفضها بالمطلق ومع ذلك لم يخرج عن القاعدة الذهبية في الأدلجة القائمة على الثنائيات من خير وشر وأسود وأبيض وحرية وقمع؛ بل أمعن في التنميط لدرجة أصبحت شخصية الشرطي ورجل الأمن والسلطان واحدة في جميع قصصه كأنّها بداهة استسلم زكريا تامر ليقينه النسبوي؛ وفي الجهة الأخرى نجد المواطن، ابن الحارة، الحصان، الحمار، الشمس؛ كائناته السّاعية للحرية متكررة أو مستنسخة إلى الحدّ الذي يُشعرك أنّه كتب شخصية واحدة ومددّ تركيزها على مساحات قصصه كلّها؛ بحيث فقدت أيّ ملمح خاص أو ميزة في كل قصّة جديدة يكتبها!؟
إن الأدلجة التي تنمّط الوجود والتي ثار عليها صاحب «سنضحك» أعاد إنتاجها في قصصه وذلك عبر موقف السّخرية منها، لكن هذه السخرية ذاتها أنتجت أدلجتها الخاصة عبر السفسطة النسبوية التي فرّغت الجدل من محتواه الوجودي، فمهما تغوّل القمع وانحط المقموع، فالحيز الزمكاني للحدث القصصي هو الكائن الإنساني الذي لا يمكن اختصاره بلون واحد حتى لو كان الهدف الوقوف ضدّ الأدلجة القمعية انتصافاً للإنسان المقموع، فالشّرطي ورجل الأمن والسلطان لا يكفي تسطيحهم أو ونزع الميزات الإنسانية عنهم لكي تفكك وجودهم، كذلك لا يكفي تسليط الضّوء على المنتقَص من وجود المواطن وابن الحارة والسجين وصاحب الرأي حتى تجعله موجوداً. هذا النمط جعل قصّ زكريا تامر يأخذ اتجاها أحادياً نسبوياً كالأدلجة التي ثار عليها. من هنا أعود لقصة «النمور في اليوم العاشر» وأسأل: ماذا لو كانت النهاية على الشكل الآتي: «..وفي اليوم العاشر خلف أحد السواتر، قبض النمر الثمن، غزالاً من المروِض، عضّ عليه بأنيابه وأخذ يعدو إلى وجاره بإحدى العشوائيات التي نمت قرب الغابة حيث أدغالها مصنوعة من الصفيح المطلي بالقار»!؟

دفاعاً عن شايلوك

تنصّ القاعدة الخامسة من المدونة القانونية لروما «على أنّ الدائن لا يحاسب ولا يعتبر متعدياً على المدين إنْ اقتطع جزءاً أكبر أو أقل من لحمه لسداد الدين»، فهل فات ذلك شكسبير عندما طلبت بورشيا أن يكون الاقتطاع من لحم أنطونيو مساويا لرطل لا يزيد ولا ينقص مقدار حبة خردل؟ ورغم أنّ ميزان شايلوك هو ميزان للذهب لا يمكنه تحقيق ذلك وهكذا نجا أنطونيو وفقد شايلوك أيّة أمكانية للنيل من أنطونيو الذي تمرّس في إهانة شايلوك لأسباب كثيرة منها «يهوديته»، وبحكم سطوة الموقف الأخلاقي لم نر سفالة أنطونيو ولا خداع بورشيا وأصبح شايلوك رمزاً للخسّة والنذالة وذلك كلّه لأجل ما يمكن تسميته «الأدلجة الكنسية» التي ترى أنّ التسامح هو الميزان الجديد للعدالة بدلاً من القصاص، لكن هل حقاً هذا المبدأ البرّاق كان هو المحفّز لتنحو المسرحية هذا النحو دعماً للأدلجة اللاهوتية الجديدة أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سبباً في السيطرة على رأس المال اليهودي في ذلك الوقت!؟
ننطلق مما سبق لنقف عند ثيمة الفنتازيا التي كستْ قصص زكريا تامر وهي بذاتها رداً على الواقعية والواقعية الجديدة/ الاشتراكية حيث كسرت فضاء المكان والزمان عبر جمل اعتراضية شعرية صادمة وفجائية وقاسية هشّم بها صاحب «دمشق الحرائق» الأسلوب السائد للقصّ وبنفس الوقت جبّ الواقع الثائر عليه وللوهلة الأولى يترك هذا المزج أثره الفعاّل في المتلقي؛ ومع الميزات السّابقة نجد أنها لا تلبث أن تعود بمفعول عكسي، فهي إن قدمت سحرها بتهديم الواقع تركته حطاماً وكأنها الوجه الآخر للسخرية أي قد ضحكنا من الشرطي ورجل الأمن والسلطان، لكن ماذا بعد!؟ الإجابة قد تقدمها الواقعية السّحرية في أميركا الجنوبية وحالها لم يكن يختلف عن حال المنطقة زماناً ومكاناً التي عالجها زكريا تامر في قصصه، فمع الواقعية السحرية تم إنجاز الواقع الفنتازي سواء في «مئة عام من العزلة» أو «خريف البطريرك» وفي القصص الأخرى لغابرييل غارسيا مركيز وهذا ما نجده في أوروبا مع كالفينو، لكن مع زكريا تامر أصبحت الفنتازيا تشبه رجل الشرطة والأمن والسّلطان مقحمة لدرجة علينا التنبه والدفاع عن المذهب الواقعي والاشتراكي مقابل ثورة زكريا تامر التي تذكرنا بمكر أنطونيو وبورشيا.

المقال القصصي

لقد نمت القصّة مع نمو الصّحافة ورغم ذلك غرّدت القصّة بعيداً عن اليومي في الصّحافة والمباشرة التي فيها، فالقصّة بدءاً من غوغول تتمرد على التعريف التنظيري. إنها اقتناصُ شريحة زمكانية ومعالجتها ويذكرنا ذلك بالأسلوب القصصي لـ«كليلة ودمنة» حيث أصبحت القصة أمثولة تضرب في كلّ زمان ومكان، فواقعها الفنتازي والتمثيلي على ألسنة الحيوان أخرجها من حدّية الزمكان المخصوص بها؛ وهذا ما حدث مع الواقعية السّحرية؛ أسلوب لم يغب أبداً عن زكريا تامر، فهل نجح في ذلك!؟
يجب التوقف عند فعل «قَصَصَ» والتطلع نحو الاشتقاق التالي أيّ «القِصاص» فالقِصاص يقوم على مبدأ، «العين بالعين والسّنّ بالسّنّ» وبملاحظة بسيطة نجد أنّ المبدأ يشمل الأمور من الأضعف «العين» إلى الأقوى «السّنّ» والعين والسّنّ فيهما من الاستقلال عن الجسد الكثير عندما يتم اقتلاعهما، على العكس من الأجزاء الأخرى كاليد والصّدر ويصلحان للوضع في الميزان حتى تتعادل كفتاه، فالعدالة القصاصية لا تقوم على مبدأ رجحان أدلة طرف على آخر وهي التي نجدها بالعدالة التعويضية الحالية بل على عودة التوازن لكي يتم بتر أي نوازع للانتقام؛ فالقصاص في ذلك الزمن لم يكن منوطاً بهيئات عليا اعتبارية لها سلطة مطلقة على الجميع؛ بل بالأشخاص ذواتهم أو ممن يختارونهم لذلك، وحالة التحكيم حالة مؤقتة لا يمكن دوامها ومن هنا كان القِصاص حالة تعادلية أمثولية تمثّلتها القصص في «كلية ودمنة» فأصبحت أمثولة تضرب، وعليه ما الذي سيقدمه ما سبق؟
إنّ التهكّم ينجز مبدأ القصاص والتعويض عكس السخرية؛ كذلك الفنتازيا القصصية في الواقعية السحرية؛ فـ«كليلة ودمنة» كقصص وضعت لنصح السلطان أو التهكّم منه؛ كذلك هي الأخرى أنجزت الواقع البديل، فلم تبقِ على ساق واحدة كقصص زكريا تامر. اللامباشرة في القصّة الحديثة نجّتها من ضآلة الشريحة الزمكانية المُعالجة ورفعت عنها العتب في التعمق في دواخل الشخصيات وبناء الفضاء الخاص بها؛ ربما سمحت لها بإنجاز روابط مع تيار الزمكان الذي أُخذت منه بحيث أنها مع فقدانها لمبدأ القِصاص استعاضت عنه بمبدأ التعويض، ففقدانها لموضوعة الأمثولة لم يمنعها من التعويض بأشياء أخرى غير العين والسّنّ وهذا ما لم نجده مع قصص زكريا تامر التي نحت منحى المقالة الصحافية، فالمقالة الصحافية هي في معركة مع اللحظة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كالمقاتل على جبهة القتال بمكان ما، رصاصته فاعلة، لكن الذي يحدّد قواعد الحرب والسّلم هي طاولة المفاوضات؛ أما في الخلفية فيُدفن الجنود الموتى ويكرّم البقية بنياشين ستصدأ ثم يتم نسيانهم؛ ليبقى في الواجهة صور المفاوضين لا غير.
المقالة الصّحافية أشبه بردّة الفعل بغياب الفعل ينتفي، وبتكراره يعود، وهذا ما لمحتُ إليه بداية، فزكريا تامر كتب قصة واحدة مركّزة ولنقل: «النمور في اليوم العاشر» ومدّد تركيزها على مساحات قصّه. لكنّ القصّة القصيرة لا تكون فناً حقيقاً مهما كانت فاعلة في لحظتها ما لم تختبر فنيتها عبر البقاء حيّة رغم تغيّر الأفعال التي اقتضتها كردّة فعلٍ على واقع سياسي اجتماعي ديني، وهنا أعود وأسأل: هل المقالة الصحافية تبقى بعد زوال مقتضياتها!؟
لا ريب أنّ زكريا تامر من أهمّ القصاصين العرب والسّوريين خاصة وقد لعب دوراً مهما في تأصيل القصّة وذهب إلى التجديد مغامراً وليس ما سبق نقداً على ساقٍ واحدة، فلكي تكتمل سخرية زكريا تامر لا بدّ من التهكم النقدي حتى تقف القصّة السّورية والعربية على ساقين.

زكريا تامر في سطور

ولد زكريا تامر في دمشق عام 1931 وتلقى تعليمه الأولي فيها، قبل أن يترك الدراسة وهو في الثالثة عشرة من عمره؛ ليتنقل بين مهنٍ كثيرة ويستقر في مهنة الحدادة حتى عام 1960، حيث كان خروج كتابه "صهيل الجواد الأبيض" إلى العلن مطلع الستينيات صدمة في عالم القصة القصيرة السورية بعد عهد أُطلق عليه قصص الأدب الاشتراكي؛ لتكون مجموعته القصصية "دمشق الحرائق ـ1973" بمثابة عتبة جديدة لقصة استلهمت من التراث والواقع والمخيلة الشعبية معاً ما جعل زكريا تامر يتربع على عرش القصة القصيرة، حيث لمع نجمه في بلاده وفي العالم العربي وترجمت أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وشغل عدة وظائف منها رئيس تحرير مجلة أسامة للأطفال ـ وزارة الثقافة السورية، ومحرر لكتب دار الريس ـ بيروت، ورئيس تحرير "الموقف الأدبي – اتحاد الكتاب العرب"، وهو يقيم بلندن منذ 1981.


صحيفة السفير للبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى