دهشة رمضان 2016… هذا المسلسل الرائع!
أخيراً حان وقت الكتابة عن مسلسل خارج فوضى السباق الرمضاني. كلّ التركيبة التلفزيونية الشيّقة في “أفراح القبة”: أجواء نجيب محفوظ، إخراج محمد ياسين (مخرج “الجماعة” و”موجة حارة”) وحضور أسماء جميلة: منى زكي، إياد نصار، جمال سليمان، سوسن بدر، رانيا يوسف، وصابرين المتألقة بعد أدوار نسيناها. أبهرنا سياق المسلسل منذ انطلاقه، وعلى عكس سواه، لم يكتفِ بخلق الدهشة لينهار بعدها ويتشتّت. مسلسلٌ ممسوكٌ إن وُضع في سلّة، لرفض حالة السيلان وتشبّه بالصلب الجامد. ثمة أعمالٌ تجذب الجمهور بخوائها وأخرى تجذبه بفرادة النوعية ووهج القيمة. “أفراح القبة” (تعرضه “المستقبل” و”النهار” المصرية و”أم بي سي دراما”) من النوعية الجاذبة بالمحاكاة الأنيقة والنداء الإنساني الغزير. الكلّ في المسلسل أصواتٌ تمارس على المُشاهد فنّ اختراق الضمير. الحال أنّ الصحو يتحقّق متأخراً حين يكون الماضي قد تساوى بالحاضر وحجب عن العين فظاعات المستقبل.
على ذلك المسرح، يكتشف الممثلون أنّ النصّ بين أيديهم هو مرآتهم. من الآن فصاعداً، سيتراءى كلّ شيء واضحاً: الحماقات، الضحكات الزائفة، مكياج الوجوه، الإحراج المخيف، والكذبة. كلّ شيء حتى علاقة المرء بذاته وتقلّبات الصيف والشتاء والفجر والمساء. عبر شخصيات يُفترض أنّها أدوات تمثيلية تتحرّك على خشبة، يتبيّن تباعاً حجم الذنوب المتدلّية من الأصابع والندوب المحفورة في النفس. سرحان الهلالي (جمال سليمان) مدير مسرح يضجّ بالخطايا البشرية والصمت الإنساني المريع. فرقته وجوه محترقة بترسّبات النار في الصدور. الكلّ هنا في ذروة فرادته التمثيلية: منى زكي في دور تحية عبده التي تُقتل ليُتهم الممثلون جميعاً بقتلها؛ إياد نصار في دور طارق رمضان الذي يُفلت السعادة من يده؛ صابرين في دور حليمة الكبش التي تتلقّى الصفعات وتعتاش على تذكّرها؛ رانيا يوسف في دور سنية عبده الراقصة على جراحاتها؛ صبري فواز في دور كرم يونس زوج حليمة، المخدوع بماضي الآخرين وفجائية تفشّي أسرارهم؛ سوسن بدر في دور بدرية الرائعة بتصوّراتها عن الإخفاق والمكان الخطأ؛ محمد الشرنوبي في دور عباس كاتب أدوار الآخرين العاجز عن صناعة نهايات مأساته؛ جمال سليمان في دور سرحان الهلالي كاسب جولات شطرنجية وفق مبدأ “كش ملك”، وشخصيات أخرى كصبا مبارك في دور درّية نجار، وأحمد السعدني في دور أشرف شبندي، يجمعهم موت الوقت واستحالة العثور على فارق بين الوهم والحقائق. الواقع كذبٌ بكذب، نكاتٌ درجة عاشرة لا تضحك التعساء، والخيال عذابات مشوّقة وتفاصيل ضائعة وذهول مثقوب وألم يطال الجميع.
موت تحية يضع الآخرين في مواجهة شكوك الذات. الجميع قاتلون حتى العيون البريئة. أجمل مَشاهد المسلسل السير بالجنازة في رحلتها الأخيرة، وطارق رمضان يجهش كالأطفال، بانكسارات عاشق وأوجاع نادم. العمل (عن رواية محفوظ، سيناريو وحوار أمين راضي ونشوى زايد) استعادة للخطيئة الإنسانية تجاه الضمير والآخر. انتظر طارق موت تحية ليدرك أنّ الوقت تأخّر وفات الأوان لتصحيح الخطأ. وإن أردنا عَدّ المشاهد المدهشة، لفاتنا بالتأكيد بعضها. علاقة طارق بسرحان ولقاؤهما في لحظة مصارحة تركت دمعة على وجهَيْ مهرّجين من غفران هشّ وبؤس؛ تدرُّج عباس من النشأة إلى المراهقة فطلب الزواج من تحية رغم فارق العمر؛ والحبّ المعقّد بين سرحان وحليمة بماضيه المشوّه وحاضره المنثور كرماد ميت على موجة بحر هائج.
الجميع مصدوم في كونه وجوداً كومبارسياً على خشبة مسرح ممتلئ لا يعلم جمهوره الحقيقة. “الجمهور مالوش دعوة بالمسرحية”، وأحدٌ لا يستطيع المساومة على مبدأ السؤال المطلق: المسرحية حقيقة أم كذب؟ الحياة حقيقة أم كذب؟ تحية ميتة أم مقتولة؟ ينتهي العرض ويتفرّق الجمهور من دون أن يصفّق. اللعنة على الماضي والحاضر. على الشكّ الإنساني. على المسرح حين يتحوّل عقاباً جماعياً ساحقاً، وعلى أدوار البطولة والإخفاق والتفوّق والرغبة والالتزام الأخلاقي.
“أفراح القبة” مسلسلنا الأروع في رمضان 2016، يعود بنا إلى سبعينات القرن الماضي ونظرة نجيب محفوظ للتركيبة الإنسانية على مستوى الوجود والذاكرة وإشكالية الواقع والصدمة. فلاشباكيته بعض الشيء متعبة، لا تترك لكَ المجال لتتنفّس، كأنّ العمل من نوع الجندب الذي يكون في لحظة هنا، وفي اللحظة المقابلة يصبح هناك، من غير أن يدعك تلمس فارق الزمن بين اللحظة واللحظة. لكنّه تعبٌ جميل مرغوب من نفوس توّاقة إلى مشاهدة مدهشة. الدهشة في إنسان وحيد يصنع له الآخرون مستقبلاً تائهاً، يرونه أمامهم ولا يصدّقون أنّ البشر في المرآة صورٌ زائفة. ودهشة الهدم النفسي والعاطفي وإعادة تجميع المستحيل جمعه لولا المصادفات على مستوى مفاجئ. رائعٌ المسلسل، بكلّ نَفَس من أنفاسه، بضميره وحضوره وأبعاده الإنسانية. ورائع بقدرة ممثليه على صناعة فارق حقيقي بين التمثيل في كونه رقياً فنياً وبين الوقوف أمام الكاميرا للضحك علينا وعليكم.
صجيفة النهار اللبنانية