ديستوبيا مقفلة الأبواب

 

وأنا أتأهّب لقراءة المجموعة القصصية للقاص التونسي أيمن الرّزقي اعترضني العنوان كأنه لافتة ترسل لي تحذيرا مضمونه أن احذري فإنّ الأرض التي ستطؤها أقدامك ملغومة، خذي احتياطاتك قبل خوض غمارها والتوغّل فيها.

رغم التحذير فإنّ اللاّفتة في زاويتها اليسرى سهم يشير إلى وجهتي كأنني أبحث عن طريق سريّة تؤدّي إلى منطقة محظورة لعلّها الغابة الملعونة، وهذا العنوان هو العتبة الأولى لدخولها، عنوان مكوّن من مفردتين في شكل جملة اسميّة مركّب نعتي. المبتدأ وهو منعوت كلمة نصوص، وهي جمع مفردها نصّ، من فعل نصّص ينصّص تنصيصا، وهو منصّص، يقال نصّص المتاع أي جعل بعضه فوق بعض، ونصّص غريمه أي ناقشه وناصّه، وأيضا نصّص الجملة أي حدّدها وعيّنها بنصّ أي وضعها بين علامتي تنصيص (معجم المعاني). والنّص هو مجموعة من الفقرات المتكوّنة من جمل متنوّعة تحدّها علامات التنصيص أي تنقيط، وهو إشارة إلى ما يوجد بين دفتي الكتاب كتجميعة من النصوص/القصص تخضع لتنصيص وتبويب معيّن اختاره الكاتب. وأمّا الخبر فهو النعت “موبوءة” مشتقّ  من فعل وبأ، تعني الشيء المتعفّن، ونعت لكل مصاب بمرض شديد العدوى وسريع الانتشار. إذا نصوص موبوءة هو مجموعة من القصص انتشرت بينها عدوى أمراض كثيرة وعفن ناخر امتدّ على مدى أربعة عشر نصا.

قد يظن المتأمّل لهذا العنوان أننا إزاء كتاب من أدب الأوبئة، لكن بمجرّد قراءة الأثر يكتشف القارئ أن العنوان إشارة بليغة إلى الديستوبيا التّي نعيش فيها تلك المدينة العفنة التّي ينخرها الفساد والإنسان فيها مجرّد بقايا آلية فيزيائية من اللّحم والعظم بعد أن تجرّدت من قيمتها الإنسانية والأخلاقية والجمالية وفقدت معنى العلاقات والمعاملات المعيشة، هذه “الديستوبيا” لا تشمل الهامش الخلفي للواقع، بل أيضا تمتدّ إلى تلك المنطقة الأمامية المضيئة والمبهرجة. فقد جزم الكاتب بأن العفن والوباء لا يستثني أحدا، ولا يقوم بفرز الأماكن التّي يعشّش فيها، فقد هانت الأنفس وماتت الضمائر منذ زمن سواء في الأمام أو في الخلف.

يقول هاروكي موراكامي في روايته “كافكا على الشاطئ”: “محاصرون نحن داخل تفاصيل حياتنا اليومية… ثمّة الكثير لنفكّر فيه كلّ يوم”. من رحم هذا الحصار ولدت هذه المجموعة القصصية محمّلة بهموم حياتية وأحداث من واقع الميعش اليومي، ومن شدّة وقعها صنّفها في خانة الوباء أي خطير جدا. قضايا ومواضيع من كل مجالات الحياة ترجمت قدرة الكاتب وتمكّنه من فن القصة القصيرة، وعلى حدّ قول الناقد والأستاذ في الأدب المقارن الدّكتور شريف الجيّار فقد “استطاعت القصّة القصيرة في الفترة الأخيرة أن تجد خطا مشروعا وموقفا يناسب طبيعة التوهّج العالمي والحراك السّياسي الدّولي وسرعة التكنولوجيا في التّواصل بين الشّعب والكتاب والأفراد في ظل كل هذا استطاعت القصّة أن تجد مشروعية الوجود”. مشروعية استمدّها أيمن الرزقي بمعايشة ما يدور حوله وما يحدث كل يوم في محيطه القريب والبعيد، وفي زمن واحد إذ أنّ أغلبية قصصه وحسب السياقات حدثت في فترة ما بعد الثورة.

والملفت للنظر أنّه مبتكر بارع للمواقف والأفعال بأجوائها العجائبية والغرائبية فمن موقف بسيط جدا يصنع لنا عالما مدهشا من الانفعلات والحركات. على سبيل المثال نذكر قصة “على وشك الانفجار” الذّي انطلق من حاجة البطل الشديدة إلى قضاء حاجته، قدرته على التخييل مدهشة رغم أن ما ينقله محض واقع معيش تجاوز نقله العادي إلى سرده بنبرة ساخرة تترك مرارة في الحلق والعقل وحرقة في القلب وهو ينبئنا بأننا لن نغادر هذه الديستوبيا لا في الحاضر ولا في المستقبل القريب، وكل ما علينا فعله هو انتظار الأسوأ.

حافظ القاصّ أيمن الرزقي على أهمّ مقومات القصّة القصيرة بحضور الحدث الذّي تدور حوله القصة والحبكة التّي بها تتسلسل الأحداث ويتولّد بها المعنى على مدى النصّ الواحد، أيضا الأسلوب الذي به يتحقق البناء الفني للقصة، أيضا نلمس التكثيف والإيجاز والمحافظة على الوحدة الدرامية التي تستدعي بطلا واحدا ومكانا وزمانا لا يتغيران على مدى النص القصصي، وحدثا قادحا واحدا. نلحظ كذلك تنويعه لخطوط السرد، أحيانا نجده سردا متسلسلا في أقصوصة “لديه احتفال هذا المساء”، و”بسبب ارتفاع أسعار النفط” …، وأحيانا أخرى نراه سردا متقطعا مستنجدا بالاسترجاع، كما نرى ذلك في قصتي “الهروب إلى الحرب”، و”أصابع الاتّهام” على سبيل المثال، معتمدا في كل مرة روابط منطقية صنعت شبكة الأحداث المتواترة وحركة الأبطال السريعة بين مؤشرات مكانية وزمانية ساعدت على رفع نسق التشويق والسير إلى العقدة بمنتهى الحرفية والشطارة. بصمة كلاسيكية يعلوها أحيانا نثار خفيف من التجريب في الإخراج المشهدي للحظات قمة في التعقيد، نجح الكاتب في نقلها بكل اقتدار مصوّرا لنا مشاهد مختلفة عن مصائر الأبطال التّي اختلفت وانقسمت بين الجدّ والهزل.

نجح الكاتب في إيصال فكرة عامّة مفادها أنّ كلّ خطيئة مهما كانت صغيرة، تصبح وباء بمجرّد انتشارها، وليس من الصالح الاستهانة بها، بل وجب التّشخيص ثمّ إعمال مبضع النقد والمقاومة، بالرغم من غياب الحلول والاكتفاء بالمعاينة فقط. وفي هذا السياق نستعرض أهم الأمراض والظواهر المستفحلة التي وصلت إلى مرتبة الوباء من شدّة خطورتها على الفرد والمجتمع:

أولا، الوباء الطبي، ففي أقصوصة  “أنفلونزا”، والذّي كشف وحشية التعامل في مقاومة الوباء بداية من تصفية الحيوانات الحاملة للوباء ثمّ جرّ المريض والحجر عليه في المستشفى بمجرّد الشّكّ في إصابته، وإذا ما حدث واصطدم الطاقم الطبيّ بشخص حرون عنيد كبطل القصة هذه، فإنّ الحيلة لن تنعدم لتطويعه ويصبح كالشمع السائل بين أيديهم. يلتجئ الكاتب إلى شخصية ثانوية أخرى طبيبة تقوم بإغراء البطل وحين تحرقه نار رغبته يخضع كالعبد ويقبل بإجراء الفحص الشرجي والتثبت من إصابته أو عدمها.

يمكن القول إنّ العلاقة بين الإطار الصحيّ والمريض أصبح كعراك بين ذئاب جائعة يكاد الصقيع يودي بها، بينما الكاتب يصدمنا في آخر القصّة أن الأوبئة تتناسل ولن تتوقف “إنه ليس مصابا بإنفلونزا الكلاب، إنها أوّل إصابة بانفلونزا الذئاب”. (ص13).

في أقصوصة “الهروب إلى الحرب” التّي تتحدث عن مرض الزّهايمر، ورغم كونه ليس وباء لكن الكاتب وضعه في خانته الخطيرة. جسّده الاسترجاع والمراوحة بين زمني الماض والحاضر بين السّلم والحرب، زمن للاستعمار تسرده ذاكرة متعبة متوالية الأوجاع لا تنسى، زمن فيه كان الفرنسيون “يخطفون الرّجال ولا يتورعون عن قتلهم” (ص56). وفي نفس المحنة “أخاه انتهى إلى ما بين خطوط دفاع الحلفاء، ابتلعته رحى الحرب وغاب من يومها (ص56)”. وتوالت الأوجاع تتراص بحلول النكبة والهزيمة العربية. ذاكرة الوجع صنعت للبطل سجنا لن يبرحه إلى أن تسعفه ذاكرته الصغيرة وتتيح له حلّ الهرب بالاستعانة بالمهراس “لقد قرّ عزمه وانتهى الأمر سيكسر قفل الباب ويخرج” (ص58).

فعل الخروج هذا ينقلنا معه إلى الحاضر زمن السلم والاستقلال، فيه يكتشف البطل تغير خطاب الصحف وفتور الهمّة عن قضية تحرير فلسطين، وكمّ التورّم الذّي أصاب الواقع المعيش وانحدار الذوق العام، وتغيّر الإهتمامات الجماعية التي انحصرت في أخبار الفن وكرة القدم وجولات الشوبينق. ننتهي إلى أنّ الزهايمر رمز الذاكرة المعطوبة والخسارات المجانية، ونستخلص أنّ المرض هو الغطاء الذي يستتر خلفه وجه من أوجه التوحش ليصبح الواقع “نكبة العمر لا ريب” (ص58).

ثانيا، نجد الرشوة، هي فعلا وباء مستشري لا نهاية له صوّره الكاتب في تفصيل صغير لكنه مبتكر، إذ تحدد السلطة نصيب كل مواطن في الخبز بمقدار خبزة واحدة في قصة “لديه احتفال هذا المساء”، ورغم الصورة الكريكاتورية التي سرد بها الأحداث في ظاهرها مضحكة ساخرة لكنها مرّة تكشف شدّة استفحال الظاهرة في كل المؤسسات التّي لخّصها في المخبزة، والاقتداء هو الذي يساهم بانتشارها “لمح كهلا يسلم بحرارة على أحد الوظفين ثم يدسّ خلسة في يده مبلغا من المال”. (ص19). ولا أحد يتردّد عن فعلها.

الرّشوة تلك الّدودة الّناخرة التّي حرمت المواطن البسيط من تكافؤ الفرص “أعلن ذلك الصوت الأنثوي الرقيق… عن نفاذ كمية الخبز لذلك اليوم”. (ص20) بعد أن استأثر شخصان بنصيب المجموعة. ظاهرة كرّست طبقية مقيتة قسمت المجتمع إلى كفّتين كلّ منهما قنبلة موقوتة مهيّأة للانفجار. ويكشف تطاحن الطبقات وغياب مظاهر العدل والمساواة فيما بينها يجعل الطرف المطحون يأخذ حقه بعيدا عن سلطة القانون “تتالت عقب ذلك الركلات في كامل جسده وأعقبتها شتائم مقذعة من كل الأفواه التّي تجمهرت حوله” (ص21).

ثالثا، هناك ظاهرة التفاهة التي انتشرت كالوباء اكتسحت العقول، عملية دمغجة لعلها عفوية أو مقصودة لكنها أودت بالوعي الجماعي والفردي. في قصة “بسبب ارتفاع أسعار النفط” عقول النساء لا تكاد تستفيق من متابعة المسلسلات “تعلقها بمسلسلها التركي بلغ حدّ الوله” (ص24). وعيون الرجال لا تمل من مشاهدة مباريات كرة القدم، كأنهما في سباق محموم طالت تبعاته الأسر، فتعالت الخلافات بينما الزوج، يحاول الانفراد بالتلفاز لمشاهدة المباراة المتزامنة مع المسلسل، لكن الزوجة “أصرّت على أولويتها في مشاهدة المسلسل فنشب خلاف بينهما” (ص23). والسبب برنامج حواري حول ارتفاع أسعار النفط. هذا الاستلاب أضاع على الكل فرصة التمتع بعيش لحظة حقيقة في أمن وسلام.

يقول المفكر الكندي ألان دونو: “عليك أن تكون قابلا للتعليب.. لقد تغير الزمن.. فالتافهون أمسكوا بكلّ شيء”. ويعود ذلك إلى طبيعة مجتمعاتنا الاستهلاكية وتغيّر مقاييس التقبّل والرفض للمحتوى، وتغليب الرغبات على الفكر الذي يحدد نوع الحاجة ومداها، ما ينتج عنه اغتراب فردي وجماعي. هذا الوباء يزداد حدة كل يوم مع ظهور مواقع التواصل وأساليب تسلية وترفيه كثيرة تجعل المرء ينسى كيف يتعايش في مجموعة.

البيروقراطية الإدارية، وهو رابع وباء نستخلصه من قصة “نباح في مهب الريح”، وهو عبارة عن النظام الإداري المعقد والمشبوه من فرط صرامة تطبيقه. فالموظف من موقعه لا يستطيع حسم ملف لوحده فيغدو الأمر كأنه أخطبوط يمسكه مجموعة كل من ذراع بانتظار أن يمسك أحدهم بالذراع ويحسم الأمر. متاهة إدارية تسرف في إهدار الوقت وعرقلة مصالح النّاس متحكمة في مصائرهم. فإذا ما كان المرء شريفا وتجنب الوساطات سيبقى رهين تسلسل إداري كسيح والنتيجة واحدة “ملفك لا يزال قيد الدرس” (ص31).

في النهاية يمل المواطن بطل قصة “نباح في مهب الريح” ومع خطورة وضعه يلجأ للتصرف وحده فيضيع شقاء العمر، ويصبح الموضوع، عبثيا لدرجة القفز في قلب الخطر فيشرب هذا البطل الدواء مع الخمر رغم التحذيرات، وبمشهدية ساخرة ينتقل بنا إلى أجواء أخرى أبطالها الزعماء والرؤساء العرب، رؤوس نكبتنا، ويكون المشاهد “عجز عن فهم غرائب الأمور حوله” (ص 33). ثم يقبل في النهاية المشاركة في هذه اللعبة والمساهمة في نشر عدوى المجون والتنكر ويصبح صوته المحتج مجرد نباح في مهب الرّيح.

خامسا، هناك وباء سياسي وهو تقديس السياسيين أو الحاكم صاحب السلطة، سعار يضيع الفرد في تلابيبه بقوّة تكريس سلطة الحاكم الواحد والحزب الواحد “أبصر مقرّ الحزب الحاكم في أبهى حلّته” (ص37). في حين “كانت قوات الأمن تغلق طرفي الشارع” (ص 37). حكم بوليسي يذكرنا بأجواء ما قبل الثورة. هذا النظام يجعل الفرد لا قيمة له ويتلاشى، فإذا ما سقط في محنة ما أو مشكلة فليس له مايفعله سوى “أن عليه الانتظار إلى حين انتهاء مراسم التديش” (ص 39)، فلا حركة ولا خروج عن الانقياد للحاكم إذا حضر. الكل منصاع لسلطته التي سلبت الألباب كما حدث في قصة كل “الحب لسيادة الرئيس” حتى أن هذا الحاكم أوقف ضرب الطبل، وأخذ المزمار ينفخ فيه بلحن الطاعة والولاء بينما الشعب خلفه يتبعه طائعا خاضعا. “ظل مشدوها وهو يستمع إلى لحنه الجديد المختلف فيما يتبعه الجميع من خلفه” (ص 40). مشهد يذكرنا بالرجل صاحب المزمار السحري الذي خلّص القرية من الفئران التي غزتها وأزعجت السكان أيّما ازعاج. وبمجرد عزفه تجمعت حوله الفئران وقادها بمزماره إلى البحر حتى ألقت بنفسها في اليمّ لتموت بالآلاف عن بكرة أبيها. وليبدد الكاتب وطأة هذا الوباء ابتكر حادثة حرف القاف المتسرب إلى كلمة الحب فأصبحت كلمة نابية اختصر بها حال ساستنا المشين.

كل شيء انتقلت إليه العدوى، ففقدت القيم قيمتها، وتجرّد الانسان من إنسانيته وانزاحت المقاصد عن مقصدها ولبست المعاني أقنعة من النفاق

في قصة “في حضرة السيّدة الأولى” وجه آخر للوباء السياسي، وأمام سلطة الرئيس الحاكم تظهر في الاتجاه المعاكس سلطة السيدة الأولى زوجة الرئيس التي تخطط وتطمح لتكون “رئيسة البلاد” (ص 53) بانقلاب تقوده على زوجها الرئيس بعد أن “باتت تقرف من شيخوخته وسورات غضبه العنيفة” (ص50). وبات همهما الواحد الأوحد كرسي السلطة ولا يهمها من تخلفه قتيلا خلفها، فاستعانت بالشعوذة وانتظرت منتصف الليل لتتفتح ورودها النادرة ثم تتلو تعويذتها وتحكم قبضتها، لكنها بدل ذلك وجدت نفسها في مواجهة احتجاجات بسبب قتلها رئيس المعارضة ثم اقتيادها إلى السجن. قدّمها زوجها الرئيس قربانا في سبيل حفاظه على كرسيه. صراع سياسي لا يخرج عن دائرة درجة خطر الوباء لأنه يضيّق الخناق على الشعب ويركعه بأية وسيلة. فيسعى أفراد هذا الشعب إلى مغادرة البلد و”الحرقة” بكل الطرق حتى لو كانت غير مشروعة وإلى أي مكان، المهم بعيدا، كما جاء في قصة “عزاؤه الرّحيل”. إذ جاء على لسان البطل الذي يبحث عن مخرج لإكمال ثمن “الهجة”: “مائة مليون أخرى ونغادر هذا الكوكب نهائيا” (ص 91). وكم عزّ الرحيل إذ يسوق لنا الكاتب حقيقة أنّه لا مجال للمغادرة ما من هروب، ليس أمامنا سوى القبول والخضوع.

سادسا، نجد وباء التهميش الذي طحن في رحاه معظم الناس، فالطبقة الفقيرة أضعافا مضاعفة للطبقة الغنية. في قصة “أصابع الاتهام” الحاجة تدفع بالمرء إلى السير في طرق خلفية من أجل كسب القوت ويضطر لممارسة التجارة الموازية مثلا ليبيع “حمولته المهرّبة” (ص64). في حين أن الدولة تقاوم هذا النشاط بكل قسوة نظرا لتبعاته المكلفة على الاقتصاد المحلي، ويصبح الأمر كراّ وفرّا بين المهربين وأجهزة الديوانة والنتائج كارثية. إما تموت وإما تبقى كسيحا مبتور الأصابع لا أحد يعيلك وحين تلجأ إلى الاحتجاج لا أحد يسمعك. في النهاية تقرر الموت قانعا بأنه سبيل خلاصك. الموت حرقا أفضل من موت على قيد الحياة، يسكب البطل على جسده البنزين “وإذا بالولاعة تنقدح أخيرا” (ص65).

مشهد يذكرنا بانتحار البوعزيزي الذي على إثره قامت الثورة وقلبت كل الموازين، والتي من تبعاتها مصادرة أملاك المستكرشين الفاسدين كما حصل في قصة “ليس إلاّ على جثته” إذ ذهب البطل إلى متحف باردو ليلا ليسترد القطع الأثرية التي صادرها وزير الثقافة وبالمرة ينتقم لتاريخ عائلته الضائع، فأضاع تاريخ بلد بأكمله “أشهر مطرقته عاليا وأتى على القطع الأثرية يهيض أعناقها وبعد أن أجهز عليها.. ثمّ أضرم النار فيها” (ص46).

باختصار هذه أبرز الظواهر المستشرية كالوباء، زادها الخيانة التي جعلت الجميع يصاب بمرض غامض لا دواء له وأصاب الناس وخاصة الطبقة السياسية والتي جعلتهم يعترفون “اعترافات مخزية” كسبيل وحيد للخلاص من هذا الوباء رغم محاولات التستر لكن كان المآل فضيحة مدوية.

ماذا بقي في هذا العالم لم يصبه الوباء؟ كل شيء انتقلت إليه العدوى، ففقدت القيم قيمتها، وتجرّد الانسان من إنسانيته وانزاحت المقاصد عن مقصدها ولبست المعاني أقنعة من النفاق. عالم موبوء لم يسمح للانسان بأن يأخذ نفسا ليراجع نفسه بل إزداد إيغالا في التوحّش حتى احتلّ القوي الواجهة الجميلة المنمقة بينما سقط الضعيف في خنادق خلفية مظلمة، وكل البؤس أنّ كل الموقعين يصنع مسخا هجينا تطلق نظراته شرارات محرقة النهاية، إنه الإرهاب لا ريب. وصدق مريد البرغوثي إذ قال: “إن واقعنا المأساوي لا ينتج كتابة مأساوية بحتة، نحن في هزل تاريخي وجغرافي أصيل.”

 

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى