ذاكرة

“القانون سن للأغنياء، أما العقوبات فللفقير”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قبل خمسين عاماً لم يكن السفر إلى مدينة الرقة” السورية أمراً سهلاً، ولكنه كان ممكناً، أما الآن فهو المستحيل بعينه. الرقة تحت احتلال داعش. وهي مركز الخلافة الرئيسي في سورية، كما الموصل المركز الرئيسي للخلافة في العراق.

كنا طلاباً في جامعة دمشق. تقرر أن يسافر متطوعون من اتحاد الطلبة إلى الرقة ـ إلى موقع “الطبقة” ، لاحقاً صارت مدينة، ولاحقاً أخيراً…مدينة محتلة من قبل داعش.

الموقع هذا…هو المكان الذي سيشاد فيه سد الفرات، ومهمتنا أن نساعد في حفر الأساسات. وطبعاً كان الأمر، من وجهة نظر الهندسة، مثيراً للسخرية. ففي ظل الحفارات العملاقة كانت فؤوسنا تشبه نكاشات الأسنان. لكن الفكرة غلبت الواقع: طلبة جامعة دمشق ساهموا في بناء السدّ. طلاب جامعة دمشق عاشوا تجربة المشاريع الكبرى السورية الحديثة. طلبة سورية تشاركوا في المخيم المجاور لنهر الفرات الذي سوف يحجز، بعد سنوات، على شكل بحيرة تشبه البحر. وهي الآن محتلة أيضاً.

ما زلت أذكر ذلك المكان القفر حول مجرى النهر، والروافع العملاقة تنكش الرمال والطمي، ونحن أشبه بالنمل في صحراء ملتهبة نحاول أن نقتنع بهذه المهمة العسيرة.

وفي الليلة الأولى…ذهب عشرة طلاب إلى المشفى جراء لدغ العقارب، والتي كانت تتحرك ليلاً كالجراد على أجسادنا وفرشاتنا. وفي اليوم الثاني ذهب عشرة آخرون… ولم ينفع أي دواء… فقررنا مغادرة المعسكر أنا واثنان من الزملاء الملسوعين، وكان علينا الالتحاق بمعسكر التدريب الفدائي في الزبداني إلى جوار نبع بردى. (فقد كان نشاط ذلك الصيف إما العمل في سد الفرات أو الالتحاق بمعسكر الفدائيين).ولقد تيقنا ان خطر اسرائيل متل خطر العقارب.

صعدنا إلى شاحنة من الرقة تحمل سيارة فولكس فاجن. جلسنا فيها حتى حلب، ومن حلب إلى دمشق ومن دمشق إلى الزبداني.

في اليوم التالي، بعد أن رتبنا خيامنا وأدوات عيشنا، وانتظمنا في مجموعات حسب الكليات الجامعية، جاء الإنذار الليلي بصوت صافرة الغارات الجوية، فتركنا الخيام وانتشرنا عشوائياً في البساتين. كان الإنذار بغارة جوية إسرائيلية. ولكننا لم نكن الهدف تلك الليلة.

قررت القيادة نقل المعسكر إلى مصياف ـ محافظة حماة ـ فوراً.

طبعا ىتخرجنا من الدورة وانتظرنا دورنا الذي لم يأت حتى الان ، في اقتحام المواقع الاسرائيلية .

…………………..

اليوم ما الذي حلّ بكل شيء؟ ما مصير كل هذه الذاكرة في الواقع؟

سد الفرات… تحتله داعش. وتهدد بتدميره وإغراق المنطقة الشمالية من سورية.

الرقة… عاصمة الدولة الإسلامية.

الزبداني… منطقة دمار وهجرة وخراب مدينة.

نبع بردى … يكفي للضفادع كي يعلو صوتها على ضفاف السراب. نحن الذين تطوعنا لنصبح فدائيين، صارت خطواتنا زاحفة نحو أي حل للعروبة وللفلسطينيين.

أمس كان يوم الشهداء…وفي هذا اليوم تبكي مئات الآف الأمهات، ليس فقط بسبب الفقدان والموت، وإنما بسبب الفقر والتشرد، وانعدام الأمل، وخراب البيوت، ونقصان الغذاء، وغلاء الأسعار والظلم والرشوة للحصول على حق شهيد، أو للحصول على وثيقة موته.

يوم الشهداء، للطرافة فقط، يحتفل فيه المسؤولون الذين لم يفقدوا أحداً من أبنائهم طوال هذه السنوات… لأن فقراء هذه البلاد هم الذين يقاتلون في زمن الجندية المستدامة. وبهذا يكون الاحتفال بموت الشهداء…هو الاحتفال بحياة بنجاة الاحياء .

“لا تخف من الموت… بل من الحياة الناقصة”.

هكذا أدمدم ، سنة وراء سنة ، بيوم الشهداء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى