‘رائحة التفاح’ .. قلق مشروع أيام المحن

صدرت للقاص العراقي المغترب نشأت المندوي والذي يعيش في الولايات المتحدة الاميركية، مجموعة قصصية بعنوان “رائحة التفاح” عن دار الكنوز الأدبية – بيروت – لبنان، وتحتوي هذه المجموعة على إحدى عشرة قصة، ويقع الكتاب في 109 صفحات من القطع المتوسط.

جاء الإهداء في بداية الصفحة الأولى من هذه المجموعة القصصية، ملاذاً وخلاصاً عما يبوح به من تراكمات خلّفها لهُ وطنه الأم، أو لنقل مما يعانيه القاص المندوي في ظل الأجواء المكهربة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن، والتي تحيطه ُمن جراء المنغصات والمناكفات التي ولّدت هذه الخيبات والإنكسارات المتكررة قائلاً: “إلى الذي خطف ذات صبح طفولتي، وغفا على تلة العيد، فأيقظ في الذاكرة شهوة الكتابة، إلى والدي”.

اللهاث وراء شخوص سواء كانت هذه الشخوص واقعية عاش معها، أو لنقل اختلقها القاص من مخيلة محملة، بشهوة الحب، والتسامح، حتى يسقط عليها إرهاصاته المعبأة، بالوجع والحزن، والألم، وقد وجدها السارد المندوي في قصصه تعويضا عن حالة الكبت أو الوجع الذي رافقه خلال رحلته الحياتية، ويظهر أول تحول بعد أول حوار جدي بين السارد الذاتي، وأعني الكاتب المندوي والآخرين الذين رافقهم عبر رحلته.

“قلت لي أن من العبث الإيمان بحتمية الأقدار، ودورانها لأنها تخلق هوساً وغثياناً، تمعنت فيك أن تستمر، مصصت بأرنبة لسانك شفتك العلياء، فتبللت شعيرات شواربك الغضة، وبسبابة يدك، وايهامها رحت تفرك جمرة السيكارة وتنثر رمادها أرضاً”.

وها هو السارد المندوي له معرفة بتفاصيل موضوعه، من خلال تحديد جغرافية المناطق التي عاش فيها، من حيث الشوارع، والأزقة، وهي بالتالي ثقافة جغرافية، وسميولوجية للمنجز القصصي، لكونه درس علوم الحياة وتخرج من جامعة بغداد، ولأنه عمل مدرساً، وله تجربه حياتية أدخلته في عوالمه، لتفعيل مخزونه السينمائي من خلال مرافقته لمجموعة مهمة من اصدقائه الذين درسوا الفن التشكيلي، والسينمائي ومنهم الفنان هادي السيد حرز، وذابوا في شوراع بغداد ودور العرض السينمائي في فترة السبعينيات بحثاُ عن الحب والجمال ، فجاء هذا التجوال السياحي، بشخوصه في معظم قصصه، ليجسد حالات الإنكسارات والتقهقر، وكما يقول العظيم همينغواي أن الكتابة لهي حرفة حزينة، وما يجتاح ُالضمير َالإنساني الذي نعيشه اليوم ، بل كل يوم في تناقضات وأزمات “أن الصبر قناعة لو كانت على مبدأ”.

وها هو يخلق علامات تشير إلى دلالة الإحاطة والتطويق والتماسك، ففي قصة “موال لأغنية العمر” على النحو الذي يعني تموضع وحدات النص ومنظوماته، “دوما في جغرافية الجسد، ثمة محطات للتحدي، وفراغ مهمل للزمن”.

خبرها السارد من كل جانب، ودخل أدق تفاصيل شخوصه المتعبة، وهو يتجول في حياتهم ويدور في فلك شخوصه التي أحاطت مسيرته الشخصية وكللتها، لأن الانشغال بالشيء عادة، والتفكير فيه يقود إلى نتائج جيدة في كل الأحوال، ولهذا نصوصه القصصية جعلها تنتصر لمعظم أحلامه التي أراد لها التسويق كي ينتصر في النهاية المشوار، وهو يحيل على اهتماماته في تكريس استراتيجيته الخاصة في الكتابة، حيث أتاح المندوي رحابة قصوى وهو يتجرد من القيود التي مكنته من وضع حكايات قصصه المحتشدة بالأقاويل والسرود الكثيفة، وفي أشكال ربما وجدها هي الأكثر استجابة لمقتضياته الفنية والتعبيرية، ومنها “رائحة التفاح”، “الضوء يأتي متأخرا، القلق، هادي سيد حرز، الإجازة ” وغيرها من قصصه وعرف ما يدور حتى تلاعب بالزمن القصصي جيداً، فلم نجد في الكثير من هذه القصص أي تسلسل زمني معين، بل هو يشاجر عقارب الساعات التي تحيطه، ويواصل تطوير وعيه وفلسفته، بحيث يصبح قادراً على التبصر بالمشهد العام، الذي يختزنه في مخيلته ويحاوره، مما يضغط على نفسه كي ينظر على جميع الزوايا من خلال بعده الخاص المقترن بالكتابة والإبداع، وتقرير مصير علاقاته مع شخوصه عبر قناعاته.

“كل القرارات الصعبة تحتاج قوة تسندها، لأن الأيام حبلى بالمفآجات، فقط نحتاج التروي والصبر للحماية”.

يقول عنه الدكتور الشاعر قحطان المندوي لم يذق به غير المرارة، والحرمان، والخوف، والعذاب، وما تبقى من ماضيه، ذكريات داكنة، مشوهة ضيعت ذاكرته المنفية نصفها، والنصف الآخر غناء على شواطئ دجلة، وبكائية لنخلة بيته وأطلاله، وهنا نؤكد وبفعل حساسية شخصياته التي يجدها القارئ عبر لغة السرد والحوار والتي تكتسب أشكالا شبه موحدة والتي يهيمن عليها الوصف وتكثر فيها الصفات بشتى أنواعها، وتظل جميع تبريراته التي أدخلته في عالم صنعه يسمى عالم العدالة والإنصاف والحب والتسامح، وهو في رأي المتابعين من القراء أكثر اتزاناً بمخاطبة القارئ وأشد حرارة “ميزة الإنسان، أنه يتعلم من كيسه كما يقال” ولو كانت طباعنا متساوية، وآراؤنا ثابتة، وإيماننا واحد، لا كتفينا بدين واحد، ولنعمم الفكر المطلق”.

ويمكن القول في هذه المجموعة إن القاص المذكور حاول تطويع لغته في قالب تعبيري تأرجح بين الواقعية والمجاز ليوظفها في عملية تداعي الصور الذهنية الناشئة ضمن سياق لتعزز حالة التوالد الصوري المفعم بدلالات الحدث لاسيما وأن القاص اهتم بتصوير الكثير من التفاصيل التي يُعد الكثير منها مهما ًفي تشكيل مفردات مشهده السردي والتي تمثلت كساحل لبحر زاخر تنحسر عنه أمواج قريبة وبعيدة بزخم من الصور الحية المجردة اللا منتمية لزمكانية معينة كحال الشخوص المجردة التي تقاسمت لعب أدوار الحدث القصصي لديه والتي لا نعرف لأي زمن تنتمي فهي يمكن ان تكون نماذج لشخصيات تعيش بين ظهرانينا الآن أو قد تكون شخصيات من أزمان سالفة.

بقي ان نذكر أنه سبق للقاص أن أصدر عن دار ميزوبوميا مجموعته القصصية “حين يتكلم الجسد”، ومجموعة “مرافئ خجولة” عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام، وله العديد من النشاطات والمقالات الأدبية في الصحف والمجلات، وحائز على جائزة النور للابداع، دورة الشاعر “يحيى السماوي” عن قصته “شمال قلب المربع”.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى