رائد تنويري أثارت أفكاره جدلاً نهضوياً (كرم الحلو)

 

كرم الحلو

في احدى عشيات تموز (يوليو) عام 1914 سقط المؤرخ والأديب والروائي جرجي زيدان بين أوراقه وأقلامه فيما هو يسابق الزمن في انجاز أبحاثه الادبية ورواياته التاريخية الضخمة، فرثاه كبار الشعراء من امثال احمد شوقي وحافظ ابراهيم وخليل مطران.
ولد جرجي زيدان في بيروت عام 1861 بعد الفتنة الطائفية التي زلزلت لبنان عام 1860، وكان نموذجاً للعصامي الذي شق طريقه في عالم الفكر والأدب بإرادة صلبة وهمة عالية على رغم ظروفه الصعبة. فقد كان ابوه حبيب رجلاً أمياً يمتلك مطعماً في ساحة البرج في بيروت يتردد عليه رجال الادب واللغة وطلاب الكلية السورية الانجيلية – الجامعة الاميركية اليوم. تعلم زيدان اللغة الانكليزية في مدرسة مسائية، وعمل لمدة عامين في صناعة الاحذية، ثم تركها ليساعد أباه في ادارة المطعم، حيث احتك برجال الصحافة وأهل الادب والفكر مثل يعقوب صروف وفارس نمر وابراهيم اليازجي وسليم البستاني، وكان هؤلاء يدعونه لحضور احتفالات الكلية السورية الانجيلية فقرر الالتحاق بها لدراسة الطب، ولكنه ما لبث أن تحول بعد اقل من عام الى الصيدلة.
وبعدما ألقى ادون لويس الاستاذ في الكلية عام 1882 محاضرة اشاد فيها بمذهب داروين في النشوء والارتقاء، عمدت الكلية الى فصله فتضامن معه بعض الطلاب وعلى رأسهم جرجي زيدان الذي تعرض للطرد، فاضطر للهجرة الى القاهرة مستديناً لهذه الغاية ستة جنيهات من احد اقربائه. لكنه لم يستطع متابعة دراسة الطب هناك، فعمل في جريدة «الزمان» ثم في مكتب البعثة البريطانية في القاهرة، بحيث سافر مع الحملة الانكليزية الى السودان عام 1884. بعدها عاد الى بيروت حيث درس العبرية والسريانية. ثم زار انكلترا وفرنسا وسويسرا وعاد الى مصر منقطعاً الى التأليف والصحافة، فأدار مجلة «المقتطف» مدة من الزمن.
ولم يلبث ان اصدر عام 1892 مجلة «الهلال» التي كان يقوم بتحريرها بنفسه، لتصبح في ما بعد اوسع المجلات انتشاراً. وقد كتب فيها زيدان مقالات تنم عن سعة اطلاعه على كتب اوروبية في العلم والتاريخ والاجتماع والادب يصعب حصرها على حد تعبير نازك سابا يارد في «الرحالون العرب وحضارة الغرب». من هذه الكتب «سر تقدم الانكليز الساكسونيين» لديمولان و«العوامل الاخلاقية في تكوين الامم» لغوستاف لبون، و«الجمهورية» لأفلاطون، فضلاً عن مؤلفات توماس مور وفورييه وسان سيمون وماركس وباكون وفنلون وديماس ووالتر سكوت.
كتب جرجي زيدان في التاريخ فأصدر «العرب قبل الاسلام» و«تاريخ التمدن الاسلامي» و«تراجم مشاهير الشرق» وغيرها، وكتب في اللغة وآدابها فأصدر «تاريخ آداب اللغة العربية» وغيره، وأصدر سلسلة روايات تاريخ الاسلام ومنها «فتاة غسان» و«عذراء قريش» و«الحجاج بن يوسف» و«فتح الاندلس» و«الامين والمأمون» و«صلاح الدين الايوبي» و«فتاة القيروان» و«شجرة الدر» و«المملوك الشارد» وغيرها. وقد ترجمت رواياته الى الفارسية والتركية والاذربيجانية وترجمت ست روايات منها أخيراً الى الانكليزية. اراد زيدان من خلال رواياته ان يقدم للقارئ العربي بأسلوب ادبي مشوق، مزيداً من المعرفة بماضي الحضارة العربية والاسلامية وخصوصاً بالشخصيات النسائية القوية مثل شجرة الدر.
وكان على حد تعبير ألبرت حوراني «واحداً من اكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب بماضيهم بكتاباته التاريخية المباشرة او سلسلة رواياته الادبية التي نهج فيها منهج الكاتب الانكليزي والتر سكوت، ورسم على غراره لوحة رومنطيقية عن الماضي».
في كتابه «تاريخ التمدن الاسلامي»، تناول زيدان احوال العرب منذ الجاهلية الى العصر العباسي من النواحي الادارية والعلمية والسياسية والاقتصادية، واستعرض تاريخ آداب اللغة العربية من شعر ونثر وأدب منذ العصر الجاهلي حتى القرن العشرين، داعياً في كتاباته الى اصلاح احوالنا الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن ترقية اخلاقنا لأنها سبب اساس في نهضة الامة او سقوطها. وقد شدد دائماً على معرفة الحقيقة وتجريدها من الاوهام، إن في الدين او في العادات والتقاليد والمعاملات السياسية. ويبرز الحس العروبي عند زيدان اذ يرفض الفكرة القائمة على استبدال العامية بالفصحى ويحض على تأييد اللغة العربية لأنها قوام الامة العربية.
هذا كله جعل مارون عبود يصنف زيدان من الرواد الاركان، فقد اعتبر في «رواد النهضة الحديثة» روايات زيدان التاريخية ارقى فناً من روايات سليم البستاني، وإن لم تكن في المستوى القصصي الرفيع. كما رأى انه اول من فصّل كتابة «تاريخ الادب العربي» على «هنداز» الكتب الاوروبية، فقسم عصوره على غرار تاريخ الادب الانكليزي، ما يؤكد ان «لزيدان فضلاً جزيلاً على النهضة الحديثة، وأنه من اركانها الكبار، فقد علم الناس تاريخهم وسلاّهم في وقت معاً».
وفي رأي المستشرق الروسي الكبير ز.ل. ليفين ان جرجي زيدان هو مؤسس الروايات التاريخية في الادب العربي الحديث، وأن كتاباته المستمدة من تاريخ العصور الوسطى العربية، تتميز باتجاه تنويري واضح وبهدف تربوي هو ابراز انتصار الخير والعدالة والتنوير على قوى الشر والجهل. وهو يلجأ الى التاريخ العربي، شاجباً الطغيان ومؤيداً النضال ضد الاستبداد الإقطاعي في كل مظاهره، بكل ما أُوتي من قوة.
اما بروكلمان فيقول «إنّ روايات زيدان وكتبه التاريخية يعود الفضل اليها في تعريف العالم العربي للمرة الاولى بأساليب البحث الاوروبي ونتائجه على رغم ما فيها من اخطاء».
ويذهب بعض الباحثين من دون إثبات او توثيق الى ان جرجي زيدان هو اول من نبّه الى الخطر الصهيوني على الامة العربية في مجلته «الهلال» خلافاً لما أورده ألبرت حوراني في «الفكر العربي في عصر النهضة» من أن نجيب العازوري هو اول من حذر من مطامع اليهود في فلسطين، في كتابه «يقظة الامة العربية» عام 1905.
وعلى رغم كل هذا الدور الريادي الذي اضطلع به وكل انجازاته الباهرة في الصحافة والرواية والادب والتاريخ، لم يسلم جرجي زيدان من الافتراء والتجريح والانتقادات المسيئة والظالمة. فاتهم بالمشاركة في المنظمة الماسونية مع يعقوب صروف وفارس نمر وشبلي الشميل وغيرهم من الطوالع الاولى لمعاهد الارساليات. وكانت له في رأي رشيد رضا مواقف مع الاتحاديين العثمانيين، فقد «زار الاستانة ولقي فيها بعض زعماء «جمعية الاتحاد والترقي» ثم عاد متشبعاً بالنهضة التركية مستنكراً مجاراة العرب لإخوانهم الترك بالقيام بنهضة عربية مستصوباً خطة الاتحاديين الاولى في تتريك العناصر وإدغام العرب في الترك، وقد كتب في «الهلال» ما يشعر بهذه النزعة فهاج ما كتبه جماعات فتيان العرب في الاستانة وسورية، وكانوا يحملون عليه في الصحف». واتهم زيدان كذلك بالتسرع في تأليف كتبه وكتابة مقالاته ودانه بعضهم بتحقير الامة العربية وإبداء مساوئها، وبأنه تعمّد الكذب والخيانة في النقل والاستشهاد بمصادر غير موثوقة.
في المقابل، عدّ بعضهم كتاب زيدان «تاريخ التمدن الاسلامي» ثورة في التاريخ الاسلامي الحديث ومن اهم مصنفاته، وبعضهم اعتبر الكاتب من اوائل الاصوات الصارخة في براري العرب منذراً ومحذراً في مرحلة مبكرة من اغراض الصهيونية في فلسطين، لكنّ احداً في ذلك الوقت لم يأخذ تحذيراته مأخذ الجد، فيما نظر اليه البعض «نظرة ملؤها الارتياب والشك بسبب هويته الدينية». إلا ان قسماً اكبر ارجع الى الرجل حقه وفضله في السنوات الاخيرة، بحيث قررت «دار الهلال» عام 2004 اعادة إصدار رواياته في تاريخ الاسلام التي كتبها لمواجهة التشويه المتعمد للتاريخ العربي. وكما صرح محمد الشافعي رئيس تحرير الدار: «تتضمن اعمال زيدان كثيراً من الاسئلة المهمة التي تواجه العرب والمسلمين في الوقت الراهن الذي يتهمنا فيه الغرب بالارهاب والتطرف، في حين اكد زيدان المسيحي المستنير في رواياته مدى تسامح الحضارة الاسلامية».

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى