تُعدّ رواية «الظلام» (دار صفصافة للنشر ــ ترجمة إيمان محمد نجيب) للكاتب الآيسلندي راجنر جوناسن من أمتع الروايات البوليسية. تجذب القارئ منذ الصفحات الأولى بحبكتها المثيرة وأجوائها الاسكندنافية القطبية والمليئة بالغموض.
تدور الأحداث حول شخصية المفتّشة «هلدا هرمانزدوتير» التي تعمل في شرطة العاصمة الآيسلندية ريكيافيك وتقترب من سن التقاعد. يُبدي ماجنس، رئيسها في العمل، نوعاً من انعدام الإحساس واللباقة عندما يخبرها بأنّ لديه بالفعل شخصاً شاباً ليحلّ مكانها، وبأنها يمكن أن تتقاعد فوراً وتُخلي مكتبها للقادم الجديد.
تشعر هلدا بعدم تقدير رؤسائها لإنجازاتها في مجال مكافحة الجريمة وتصرّ على البقاء في مركزها حتى اللحظة الأخيرة، فيسمح لها ماجنس بالعمل على قضية أخيرة لمدة أسبوعين. تختار المفتّشة أن تُعيد التحقيق في قضية العثور على جثة طالبة لجوء روسية تدعى إيلينا قبل أكثر من عام. علماً أن زميلها الكسندر، وهو شاب غير كفء، سبق أن أجرى التحقيق في هذه القضية بشكل سريع وسطحي، وخلص إلى أنّ وفاة الشابة كانت انتحاراً، لكن هلدا لم تقتنع آنذاك بالنتيجة.
تبدأ الشرطية تحقيقاتها المثيرة، لكنها تتسبّب بشكل غير متعمّد في إفشال عملية سريَّة للمحققين تهدف إلى القبض على أشخاص متورّطين في عمليات إتجار بالبشر، ما يجلب عليها غضب رئيسها ماجنس. يزداد الوضع سوءاً بسبب مساعدة هلدا لامرأة يُشتبه بأنها قتلت شخصاً مُداناً بالاعتداء الجنسي على الأطفال. لكنّ الخطر الحقيقي يبدأ عندما يشعر القاتل بأن المفتِّشة تقترب كثيراً من كشف الحقيقة وإماطة اللثام عن وجهه البشع.
يُشكِّل عنوان الرواية عتبة نصيّة تحمل عدداً من الدلالات المجازية، فالظلام يرمز إلى الطبيعة القاتمة للمناطق الجبلية البعيدة في جزيرة آيسلندا التي تجري فيها هذه الأحداث المثيرة.
كما يشير العنوان إلى الظلام النفسي الذي تعانيه شخصيات الرواية الرئيسية كالمفتشة هلدا التي تُخفي الوجع والخيبة والأسرار داخلها، وكذلك الضحية إيلينا التي واجهت أمسية سوداء ولحظات مروّعة قبل مقتلها.
يرمز الظلام أيضاً إلى الغموض الذي يحيط بهوية المجرم طوال صفحات الرواية. نجح جوناسن في صياغة حبكة بوليسية آسرة معتمداً على فصول قصيرة وسريعة تُبقي القارئ متلهّفاً لمعرفة من هو القاتل الحقيقي ودوافعه لارتكاب جريمته الشنعاء.
كما تمكّن ببراعة من تضمين روايته عناصر نفسية قوية ومفاجآت غريبة، واستطاع بمهارة أن يعرض لنا خيوطاً رئيسية متشابكة رغم اختلاف خطها الزمني: التحقيق الصعب والمُعقّد الذي تخوضه المفتشة هلدا لحل اللغز، وقصة أم شابة تواجه صعوبات جمّة بسبب إنجابها لطفلة غير شرعية نتيجة مغامرة عاطفية مع رجل أميركي غادر البلاد وتركها وحيدة لتواجه قدرها، وأيضاً حكاية إيلينا الروسية التي تخرج في رحلة خطرة مع رجل غريب الأطوار إلى إحدى المناطق الطبيعية القاحلة والخطرة لآيسلندا لينتهي بها الأمر جثة هامدة في أحد الكهوف النائية.
لكنّ العنصر الذي جعل هذه الرواية مميّزة حقاً هو شخصية المحقّقة الفذّة، فنادراً ما تكون بطلة الروايات البوليسية والاجتماعية امرأة وحيدة في العقد السادس من عمرها وعلى وشك التقاعد.
تمتاز هلدا بصلابتها وشغفها بعملها ونجاحها في حلّ أصعب الجرائم، لكننا نشعر أحياناً بأنّها شخصية روائية غامضة وغير موثوقة.
نكتشف تدريجاً أنّ زواجها لم يكن سعيداً كما يبدو للوهلة الأولى، وأنّه ينطوي على عتمته الخاصة. لقد عانت هلدا من الظلم طوال حياتها، ولم تترقّ في عملها بسبب التفكير الذكوري السائد في قسم الشرطة وتفضيل العنصر الشاب عليها.
استخدم الكاتب تقنية «الفلاش باك» ببراعة ليُطلعنا على ماضيها المليء بالعذابات الصغيرة، فهلدا لم تعرف والدها أبداً، وانفصلت عندما كانت طفلة رضيعة عن أمّها التي كانت فقيرة ومُعدمة الحال، ثم عاشت حياة قاسيّة مع جدّيها الفقيرين. وكانت جدّتها تعاقبها عندما تخطئ بحبسها في غرفة مظلمة، ما خلق عندها حالة رهاب من الأماكن المغلقة.
هذا الفراغ العاطفي والعائلي جعل هلدا تستغرق في عملها كأنّها لا تملك شيئاً آخر في هذه الحياة، وخصوصاً أنّها عانت من صدمة أُخرى بعد زواجها من حبيبها جون، وإنجابها لابنتها الوحيدة ديما التي تنتحر بسبب تحرّش والدها بها، وتترك جراحاً لا تندمل في قلب والدتها.
هذا البناء الغنيّ لشخصية هلدا يجعل القارئ يتعاطف معها ويتفهّم خوفها من حياة الوحدة والملل التي تنتظرها بعد إنهاء خدماتها. رغم كل هذا السواد، يلوح أمل ضئيل في سماء البطلة بعد لقائها بطبيب متقاعد يُعجب بها ويودّ إكمال حياته معها. كل هذه التفاصيل منحت الرواية بُعداً إنسانياً وعاطفياً قلَّما نجده في الحبكات البوليسية المعتادة.
من جهة ثانية، تتفوّق رواية «الظلام» بالوصف الساحر لجزيرة آيسلندا الخلابة التي يُمسكها البرد من أطرافها، حيث صوَّر لنا راجنر جوناسن بأسلوب شاعري يقترب من الغنائية أحياناً، الجبال الشاهقة والمنحدرات الثلجية البيضاء والطبيعة القاسية للبلاد، لكنه أظهر في الوقت عينه حيوية مدينة ريكيافيك، عاصمة آيسلندا.
فوّض جوناسن سرد الأحداث إلى راوٍ عليم كليّ المعرفة، وركّز على إظهار مشاعر وأحاسيس الشخصيات النسائية والتحديّات التي تواجهها كلّ يوم في عالمٍ قاسٍ لا يرحم، في حين تعمّد أن يُغفل ما يدور في ذهن القاتل وزملاء هلدا الذكور. هذه التقنيّة أضفت التعقيد والغموض على الرواية، فلم نستطع اكتشاف المجرم إلا في الصفحات الأخيرة. برع الكاتب كذلك في عرض اللحظات الحاسمة والمشاهد الدرامية الحسّاسة عبر سرده للتفاصيل الدقيقة، واعتماده الحوار المباشر وإبراز لحركة الشخصيات وأفكارها داخل اللحظة الزمنية الحرجة، وخصوصاً في مشاهد القتل، بغرض جذب القارئ ودفعه إلى الانغماس عاطفياً وذهنياً في أحداث الرواية.
صحيفة الأخبار اللبنانية