راسِل بانكس رحالة الأماكن والثقافات
منذ صباه، ما برح الكاتب الأميركي راسِل بانكس يلبّي رغبةً ملحّة في السفر، أو بالأحرى في الهروب. هذا ما يتجلّى في كتابه الجديد الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود»، بعد أشهر قليلة على صدوره في نيويورك، ويتألف من مجموعة نصوص شخصية كتبها لمجلات أميركية مختلفة ويسرد فيها بعضاً من هذه الأسفار التي قادته إلى التسكّع في جزر الكاريبي أو جزر سيشل، إلى زيارة فيدل كاسترو في كوبا أو إلى تسلّق جبال الهيمالايا والأنديز، إلى العودة إلى مدينة شابِل هيل في ولاية كارولينا الشمالية التي أنجز فيها دراسته الجامعية، أو إلى منطقة أديرونداكس الجبلية في ولاية نيويورك. أسفار تبدو ككمٍّ من المراحل التي ساهمت في تكوين شخصيته، لمساءلته خلالها علاقته بالعالم، ولتشكيلها نوعاً من البحث المثير عن الذات الذي يمتحن الجسد والروح معاً.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن القارئ لا يسافر في هذا الكتاب مع بانكس كسائح، بل كرحّالة فضولي يحترم الأماكن والثقافات التي يعبرها ويتغذّى من كل رحلة، وأيضاً كمجازِف متشائم بمستقبل العالم. ولا عجب في ذلك، فحين يحضر اسم هذا العملاق إلى أذهاننا نفكّر بكاتب ملتزم مزّق «الحلم الأميركي» بعنف وبصيرة وفضح باستمرار الظلم الاجتماعي والعرقي، والإفلاس الأخلاقي للمجتمعات الغربية. لكن قبل أن يكون كاتباً، بانكس هو خصوصاً إنسان تجنّب طوال حياته البوح الحميمي والتحدّث عن نفسه. من هنا أهمية نصوصه هذه التي يتناول فيها، للمرة الأولى، علاقاته العاطفية بأفراحها وأحزانها، ما يسمح بالتعرّف إليه عن كثب.
وحول أسباب هذا الكشف المتأخّر، يقول في بداية كتابه: «على رجلٍ تزوّج أربع مرّات أن يقدّم تفسيراً لذلك. لكن لمَن؟ لي أوّلاً. أردتُ قبل أي شيء أن أفسّر لنفسي لغز هذا التكرار الاستحواذي، هذا «العَوْد الأزلي» الذي كان يقودني إلى مغادرة امرأة طيّبة من أجل أمرأةً أخرى طيّبة. هل كان ذلك الحب حقاً؟ هل أحبّبتُ فعلاً هؤلاء النساء؟ هل فهمتهنّ؟».
الجواب عن هذه الأسئلة نتلقّاه خصوصاً في النص الأول الذي يحتل نصف كتابه ويروي فيه سفره قبل ثلاثة عقود إلى جزر الكاريبي مع شايز، المرأة التي ستصبح زوجته الرابعة. فخلال تلك الرحلة، «حصل اتفاقٌ ضمني بين شايز وبيني على أن أفصح لها خلال هذه الرحلة عن أسباب فشل زواجي ثلاث مرات متتالية».
هكذا ينطلق بانكس في خطّ بورتريه واقعي لنفسه كشاب فقير ترعرع في منزل غادره والد كحولي بسرعة وتسلّطت عليه أمّ نرجسية وغير متوازنة نفسياً، ما دفعه إلى إيقاف دراسته في سن الثامنة عشرة وممارسة مِهَنٍ متواضعة، قبل أن يتسلّط عليه نموذج والديه في علاقاته العاطفية، من دون أن يعي ذلك، وأيضاً تلك الرغبة الملحّة في الكتابة.
وفي هذا السياق، يمنحنا تأمّلات عميقة في موضوع الحب وأسباب فشله، كما حين يقول: «القوة التي تمنح تماسكاً لعلاقة عاطفية بين شخصين تشبه قوة الجاذبية في الكون، إذ تضع كل واحد منهما في مدار الآخر فيتماسكان ويتحابّان في السرّاء والضرّاء إلى أن يفرّقهما الموت. ولكن يحدث أن تخفت قوة الجاذبية بين جسمين بسبب اختلاف في الحجم أو في الزخم الزاوي (عزم الدوران) أو في الاثنين معاً، فيفلت الجسم الذي يتحرّك بسرعة أكبر ويطير وحده في الفضاء، أو يتوجّه الجسم الأصغر مثل كويكبٍ نحو الجسم الآخر ويتحطّم على سطحه».
وبالتالي، لدينا في هذا النص الطويل (140 صفحة) سرديّتين متشابكتين: الأولى شخصية وتأمّلية، والأخرى تتناول تلك الرحلة إلى جزر الكاريبي التي يعرفها الكاتب عن كثب ويعشقها. سردية يضطلع فيها بدور المرشِد لوصفه بدقّة طبيعة كل واحدة من هذه الجزر وأجواءها، متوقّفاً عند تاريخها وواقعها الاقتصادي والاجتماعي، ومقارباً المواضيع الغالية على قلبه، أي التوتّرات العرقية وتدمير البيئة لمصلحة مشاريع اقتصادية وخصوصاً تحويل البؤس إلى مسألة تافهة وآثار الماضي الدموي إلى محطات سياحية. فعن ترميم مزارع قصب السكّر في بعض هذه الجزر، التي تلغي بطبيعتها فصل العبودية المخزي الذي دفع الإنسان الأسوَد فاتورته، يقول: «رُمِّمت هذه المزارع بطريقة تمنح الزائر متعة جمالية ومعلومات تاريخية واقتصادية حيادية، بينما كنت أتمنى أن تُقدَّم هذه المزارع كمعابد قاتمة وصروح تذكارية لوحشية لا تصدّق ومخزية مارسها الإنسان تجاه أخيه الإنسان. كان يجب الحفاظ عليها تماماً كما حافظنا على معسكر أوشفيتز في ألمانيا و «غراوند زيرو» في هيروشيما».
أما نصوص أسفاره الأخرى، فعلى رغم قصرها نسبياً مقارنةً بالنص الأول، لكن كل واحد منها يسمح لبانكس ـ ولنا ـ باستكشاف جانب من شخصيته أو من مساره. ففي النص الذي يصف فيه زيارته «دار العبيد» في جزيرة غوريه السنغالية مثلاً، يسلّط الضوء على إرثٍ يحمله ويرفض تناسيه، وبالتالي على علاقته العضوية بمواطنيه السود الذين اختبر بعض أجدادهم السجن والتعذيب والذلّ في هذه الدار المشؤومة قبل استقدامهم إلى أميركا. وفي النص الذي يروي فيه رحلته مع أصدقاء له إلى مدينة شابيل هيل الأميركية، يكشف مرحلة مفصلية من حياته عاشها في حالة تحرّر كامل، وبالتالي تشرّبه قيَم ثقافة جيل الـ «بيت» المضادة من مصدرها خلال الستينات.
وفي النصوص التي رصدها لتسلّقه جبال الهيماليا والأنديز وأديرونداكس يتبيّن أن هذه الرياضة التي مارسها بانتظام سمحت له بقياس محدوديته وأثارت داخله في كل مرّة الرغبة في تسلّق جبالٍ أخرى ومواجهات تحدّيات جديدة. وفي هذا السياق، يقول: «لم أكن أفعل سوى قياس حدودي المادّية المطلقة، وتسجيل اقترابي من نهاية كل شيء، والتقدّم قدر الإمكان من تلك القفزة في الفراغ التي لا مفرّ منها».
أما في النص الذي يتوقف فيه عند زياراته المتكررة لمحمية «إيفيرغليد» الطبيعية في أميركا، فيتساءل بتواضعٍ وحكمة عمّن هو الأثمن للكون، بانكس الإنسان الذي يتواجد من جنسه أكثر من ستة مليارات فرد، أم عصفور «تشيتريك» الذي صادفه في هذه المحميّة ولم يعد يتبقى من جنسه سوى 24 طيراً فقط، قبل أي يضيف: «صحيح أنه تمّ الحفاظ هنا على العالم الطبيعي، لكن رؤيته عن قرب تجعلنا نعي كم نحن في حاجة مطلقة له، وهذا يدمي القلب لأن بقية ما تبقّى من الأرض تم تدميره ولم يعد ممكنناً استعادته».
باختصار، نصوصٌ مكتوبة بلغةٍ دقيقة وصاعقة في جمالها، يستسلم بانكس داخلها لاعترافات صائبة ومحكَمة يتحوّل فيها كل تفصيل إلى مناسبة لبلورة صورةٍ تطبع أذهاننا أو لصياغة تأمّلٍ منير في مصير البشرية الأسوَد. ومن مكانٍ إلى مكان، وبين قصةٍ شخصية وأخرى، يتحوّل نثر ترحاله تحت أنظارنا إلى تفحّص ضميرٍ يفتح لنا سبيلاً إلى قلب وروح كاتبٍ قلّ نظيره.
صحيفة الحياة اللندنية