رسائل أحمد حلمي من الماضي القريب إلى حاضر يكاد يطوي الذكرى
عرفت الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جملة من التطورات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية نتيجة للإصلاحات، أو «التنظيمات» التي أبرزت في المشرق العربي نخبة مدنية جديدة شاركت، أولاً، في تحديث الدولة وعملت على إعادة الحياة الدستورية والنيابية التي تجمّدت عام 1878، ما تتوّج في صيف 1908 بإرغام السلطان عبدالحميد الثاني على إعادة العمل بالدستور والدعوة إلى انتخابات جديدة لمجلس النواب. ولكن هذه النخبة، التي ينتمي إليها أحمد حلمي عبدالباقي وغيره، مالت لاحقاً إلى الحركة العربية الصاعدة التي كانت تأمل أولاً في دولة مشتركة مع الأتراك تقوم على المساواة والمشاركة الفاعلة، ثم انضمت إلى الثورة العربية التي أعلنها الشريف حسين عام 1916، لأجل تأسيس دولة عربية مستقلة.
وفي هذا السياق شارك أحمد حلمي في تحقيق هذا الحلم العروبي الذي تجلى في إعلان الأمير فيصل بن الحسين بتشكيل «الحكومة العربية» في دمشق في 5 تشرين الأول (اكتوبر) 1918، بتوليه منصب وزير المال في الحكومة الجديدة نظراً لخبراته في المجال المالي- المصرفي. ومع أن هذا الحلم تمخّض في 8 آذار (مارس) 1920 عن إعلان المؤتمر السوري لاستقلال سوريا بحدودها الطبيعية (ومنها فلسطين)، وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً، وبدء العمل في صياغة الدستور الجديد للدولة الذي نصّ في مادته الأولى على أن «حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام»، إلا أن هذا الحلم انكسر يوم معركة ميسلون في 24 تموز (يوليو) 1920، واحتلال القوات الفرنسية دمشق.
ولكن النخبة العروبية التي كانت نواتها «جمعية العربية الفتاة»، والتي تولّت الحكم في دمشق من خلال الواجهة السياسية الجديدة «حزب الاستقلال»، ألحّت على الملك فيصل للبقاء في حوران وجعل «الأردن قاعدة انطلاق لاسترداد البلاد»، وخاطبت ملك الحجاز الحسين بن علي كي يرسل ابنه الأمير عبدالله ليقود الحركة لاسترداد سورية من الاحتلال الفرنسي. وبناء على هذه المخاطبات وصل الأمير عبدالله إلى معان في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1920، وأعلن هناك بيانه إلى السوريين بلقب «نائب ملك سورية»، ودعاهم إلى الالتحاق به «كي لا تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية»، ثم انتقل في آذار 1921 إلى عمّان القريبة من دمشق وفلسطين التي أخذت تجذب إليها أركان «حزب الاستقلال»، على أمل العمل من هناك لطرد الفرنسيين من سورية. وفي هذا السياق وافقت الحكومة البريطانية، التي كانت تراجع في تلك الأيام خططها للمنطقة، على الاعتراف بالأمير عبدالله في آذار 1921 على رأس كيان حاجز بين سورية (التي لم ترسم حدودها الجنوبية بعد) وبين فلسطين التي وضعت تحت الانتداب البريطاني لتنفيذ «وعد بلفور». ومع أن الأمير اعتمد في تأسيس الإمارة على أركان «حزب الاستقلال» الذين شكّلوا الحكومات الأولى للإمارة الجديدة خلال 1921- 1924، بمن فيهم أحمد حلمي الذي تولى وزارة المال، إلا أنه اضطر تحت تهديد سلطة الانتداب البريطانية في آب (أغسطس) 1924 إلى إبعاد أركان «حزب الاستقلال» إلى الحجاز، بعدما نجحوا في إثارة المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين في حوران وحتى ضواحي دمشق. ومع سقوط مملكة الحجاز الهاشمية في مطلع 1926 انتقل أركان «حزب الاستقلال» إلى مصر، ومن هناك ذهب بعضهم (أحمد حلمي ونبيه العظمة… الخ) إلى فلسطين حيث التحقوا بزملائهم من أيام «الحكومة العربية» في دمشق. كانت فلسطين آنذاك تواجه تحدياً اقتصادياً وسياسياً يفوق طاقة الفلسطينيين، إذ تدفقت على فلسطين من أوروبا أموال كثيرة وتأسّست مصارف عدة لخلق الوطن القومي اليهودي الموعود عبر شراء الأراضي وبناء المستوطنات وإنشاء الصناعات. وعلى رغم هذا التحدي المزدوج، بعدما أصبح «الوطن القومي اليهودي» جزءاً من صك الانتداب الذي أصدرته عصبة الأمم، تميزت حالة الفلسطينيين بمفارقة حادة: نجاح نسبي في المجال الاقتصادي وفشل في المجال السياسي بسبب التناحر بين الأحزاب الفلسطينية.
وفي هذه السنوات المصيرية برز أحمد حلمي في المجال الاقتصادي- المصرفي أولاً، حيث بدأت الصحافة الفلسطينية تطلق عليه منذ العام 1931 «زعيم الاقتصاد في فلسطين» و «طلعت حرب فلسطين»، بعدما قام في 1930 بمشاركة عبدالحميد شومان في تأسيس «البنك العربي» وتولي إدارته خلال الفترة 1930- 1936، وهي الفترة التي ازدهر فيها هذا البنك وأسّس فروعه في فلسطين والأردن، ثم بتأسيس المصارف والشركات الأخرى («البنك الزراعي» و «البنك الصناعي» و «بنك الأمة العربية» و «صندوق الأمة»… الخ) التي هدفت إلى مساعدة الفلاحين الفلسطينيين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضي فلسطين أمام اندفاع الشركات اليهودية بمساعدة السماسرة المحليين، على شراء مزيد من الأراضي بأسعار لا تقاوم.
ومع تزايد التناحر بين قيادات الأحزاب الفلسطينية، الذي أخذ يتحول إلى تصفيات جسدية للمعارضين، بقي أحمد حلمي يحظى باحترام الجميع نظراً لإنجازاته في المجال الاقتصادي، ما رشّحه إلى أن يُنتخب عن المستقلين في القيادة الجديدة للشعب الفلسطيني التي جاءت تحت ضغط الشارع (ثورة 1936) بمسمّى «اللجنة العربية العليا لفلسطين». ومع تطورات قضية فلسطين خلال السنوات اللاحقة وانتقالها إلى الجامعة العربية التي تأسّست عام 1945، انتُخب أحمد حلمي ضمن القيادة الفلسطينية الجديدة التي شكّلتها الجامعة عام 1946 بمسمّى «الهيئة العربية العليا لفلسطين».
ولكن قضية فلسطين منذ ذلك الحين لم تعد فقط رهينة الضغوط اليهودية- الغربية، بل أصبحت أيضاً ضحية الخلافات العربية- العربية حول السيطرة على المنطقة. فقد برز حينذاك المشروع الهاشمي، الذي كان يتخذ حيناً مسمى «سورية الكبرى» لاستعادة ما أُعلن في 8 آذار 1920، أو مسمّى «الهلال الهاشمي» الذي «يبتدي في العقبة وينتهي في البصرة»، وبرز في مواجهته المحور السوري- السعودي- المصري للحؤول دون تحقيقه. وفي هذا السياق كان المشروع الهاشمي يسعى إلى استيعاب فلسطين مع اليهود، ضمن اتفاق معهم لحكم ذاتي أو كيان خاص، أو من دون اليهود مع إقرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود في 1947. أما المحور العربي الممانع فكان في ذروة الخطاب الرسمي لـ «تحرير فلسطين» خلال صيف 1947، يناقش إمكان تقسيم الأردن بين سورية (باعتباره شمال الأردن جزءاً منها) وبين السعودية (باعتبار أن جنوب الأردن كان جزءاً من الحجاز حتى العام 1926).
وضمن هذا الصراع بين المحورين مالت الجامعة العربية، التي كانت تحت تأثير المحور السوري- السعودي- المصري، إلى تبنّي تشكيل حكومة فلسطينية في صيف 1948، أي في وقت كان فيه الجيش الأردني- العراقي يسيطر على معظم القسم الذي مُنح للعرب بموجب قرار التقسيم للأمم المتحدة، وكان الوضع العام يشي بضم هذا القسم للأردن. ومع ممانعة الأردن لهذا التوجه، شكّلت الجامعة العربية «حكومة عموم فلسطين» التي أعلنت عن نفسها في غزة يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1948 برئاسة أحمد حلمي، المُجمع عليه من الحكومات العربية (باستثناء الأردن)، ومشاركة محمد أمين الحسيني المجمع على رفضه من الحكومات العربية، الذي كان لظهوره المفاجىء في غزة وإحكامه السيطرة على الحكومة الجديدة بواسطة «المجلس الوطني»، من أسباب فشل هذه الحكومة، وصولاً إلى إعلان استقلال فلسطين بحدودها التاريخية في الأول من تشرين الأول 1948 عبر «المجلس الوطني».
وجد أحمد حلمي نفسه على رأس «حكومة عموم فلسطين» بين عدوين لدودين لم يعد يحتمل أحدهما الآخر: الأمير/ الملك عبدالله والحاج محمد أمين الحسيني. ومع أن صلة أحمد حلمي بهما كانت وثيقة إلا أن مشروع كل منهم فرّق بين الثلاثة التي كانت خلفيتهم واحدة: الحكومة العربية في دمشق واستعادة سورية 8 آذار 1920. صحيح أن الحسيني انتخب رئيساً لـ «اللجنة العربية العليا لفلسطين» في 1936 ثم رئيساً لـ «الهيئة العربية العليا» التي شكّلتها الجامعة العربية في 1946، إلا أنه بقي خارج فلسطين منذ العام 1937 بينما لم يعد هناك من يدافع عن القدس بالسلاح عشية 15 أيار 1948 من أعضاء الهيئة سوى أحمد حلمي. وبسبب سمعته في الدفاع عن القدس، عيّن الملك عبدالله أحمد حلمي حاكماً عسكرياً على منطقة القدس ومنحه رتبة لواء فخرية في الجيش الأردني في أيار 1948، ضمن الإعداد لضم الجزء العربي من فلسطين إلى الأردن. إلا أن قبول أحمد حلمي عرض الجامعة العربية بأن يرأس «حكومة عموم فلسطين»، أدى إلى فراق مرّ بين الشخصين الذين ربطت بينهما علاقة قوية. ومن جهة أخرى كان الحسيني «العقبة الكأداء» أمام الملك عبدالله في مشروعه لضم الجزء العربي من فلسطين إلى الأردن، ليواجه كما كان يقول، «مؤامرة» عزل الأردن بين دولة فلسطينية برئاسة الحسيني ودولة سورية برئاسة شكري القوتلي المتحالف مع السعودية. وفي هذا السياق كان الحسيني يعتبر نفسه نداً للزعماء العرب ولم يمنع أنصاره من أن يعلقوا صورته مع صور الزعماء العرب، وأن ينادوا به رئيساً لدولة فلسطين عندما جاء إلى غزة ليفتتح «المجلس الوطني»، كما أنه لم يكن يمانع في أن يكون أحمد حلمي المقبول عربياً على رأس «حكومة عموم فلسطين» الصورية، بعدما أحكم سيطرته عليها من خلال «المجلس الوطني» الذي اختار أنصاره ليكونوا الغالبية فيه.
إلا أن «حكومة عموم فلسطين» لم تبق كذلك سوى أيام. فبعد أن كان المعارضون لها يتندّرون عليها بمسمى «حكومة غزة»، لم تعد لها أية سلطة حتى في غزة بعدما رُحّل الحسيني بالقوة إلى القاهرة، التي تحولت بعد أسبوعين فقط إلى مقر لـ «حكومة عموم فلسطين». ومع أن الحكومات العربية (باستثناء الأردن) اعترفت بها شكلياً، إلا أن المعركة استمرت بين الأردن والجامعة العربية خلال 1948- 1950 على تمثيل فلسطين في الجامعة العربية. إذ كان الأردن مضى في إضفاء الصفة الشرعية على «توحيد غرب وشرق الأردن» في دولة واحدة حتى نيسان 1950، ولكن المحور المناكف للأردن نجح في تثبيت أحمد حلمي ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية بلقبه الذي عرف به حتى وفاته في 1963: رئيس حكومة عموم فلسطين.
خلال تلك السنوات (1950-1963) كافح أحمد حلمي للحفاظ على وجود كيان فلسطيني بأي شكل وأي ثمن، في وقت انقسمت فلسطين بين «إسرائيل» و «الضفة الغربية» للمملكة الأردنية الهاشمية. وعلى رغم اقتصار دعم الجامعة العربية له على مبلغ رمزي (نحو خمسة آلاف جنيه مصري سنوياً)، إلا أن أحمد حلمي عمد إلى تمويل «حكومة عموم فلسطين» بإصدار الجواز الفلسطيني الذي ساعد اللاجئين الفلسطينيين في أصعب الفترات إلى أن اتفقت الدول العربية على منعه وإصدار وثائق سفر للفلسطينيين خاصة بها، كما أنه ساعد اتحاد طلبة فلسطين في القاهرة، الذي ضم الجيل القيادي اللاحق للفلسطينيين برئاسة ياسر عرفات، وغيره من المنظمات والهيئات الفلسطينية، على رغم مناكفة الحسيني له والذي بقي يصرّ على تمثيله للشعب الفلسطيني باعتباره رئيس «الهيئة العربية العليا» التي لم تعد موجودة.
وكما ولّدت المناكفات العربية «حكومة عموم فلسطين» في 1948، التي نجح أحمد حلمي في جعلها رمزاً للكيانيّة الفلسطينية حتى وفاته في 30 حزيران (يونيو) 1963، فقد أدت المناكفات العربية الجديدة في 1963 بين «المحور التقدمي» (مصر وسورية والعراق… الخ) و «المحور المحافظ» (الأردن والسعودية …) إلى ترشيح أحمد الشقيري في أيلول 1963، ليحلّ محلّ أحمد حلمي ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية، كي يمضي قدماً في تكريس الكيان الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) الذي اندرج في الصراعات العربية- العربية الجديدة حتى غزو العراق للكويت في 1990، والذي كانت له نتائج سلبية كثيرة على الفلسطينيين.
كان من الممكن مع وجود موقف عربي مدرك للعلاقات الدولية في 1948، أن تكون الحكومة الفلسطينية التي أعلنت في غزة مدخلاً إلى «حل الدولتين» بعد إقرار الأمم المتحدة مشروع التقسيم في نهاية 1947. ولكن المشكلة لم تكمن فقط في المناكفة بين الدول العربية حول الحكومة الفلسطينية المعلنة، بل في المسافة الكبيرة بين المواقف العلنية والمواقف الحقيقية للدول العربية، وبالذات الدول التي أيدت الحكومة الفلسطينية المعلنة لعرقلة مشروع الملك عبدالله بضم القسم المخصص للعرب في فلسطين إلى شرق الأردن لقطع الطريق على طموحه لتوحيد بلاد الشام في دولة فدرالية، كما يعترف وزير الخارجية اللبناني حميد فرنجية، وليس رغبة منها في دولة عربية مستقلة في فلسطين. ففي الوقت الذي كانت فيه مصر مثلاً من أشد الدول العربية تأييداً لتشكيل «حكومة عموم فلسطين» في أيلول 1948 كان وزير الخارجية المصري ينقل رسالة إلى لندن تقول إنه «من الخطر للعرب السماح بتشكيل دولة مستقلة في القسم العربي من فلسطين». ولذلك كانت مصر هي من منعت «حكومة عموم فلسطين» من ممارسة سلطتها في قطاع غزة، الذي بقي تحت الإدارة العسكرية المصرية حتى 1967. ومن هنا فقد اعترف الأردن بالأمر الواقع بعد أربعين سنة عندما أعلن الملك الحسين في 31/7/1988 في خطاب له، «فكّ الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية»، وهو ما سمح لـ «المجلس الوطني الفلسطيني» المنعقد في الجزائر بإعلان «استقلال دولة فلسطين» للمرة الثانية في 15 تشرين الثاني 1988. وفي هذه المرة أيضاً اعترفت دول عربية وغير عربية بـ «دولة فلسطين» التي بقيت على الورق إلى أن وافقت القيادة الفلسطينية المستضعفة إلى التفاوض السري مع إسرائيل لتقبل بواسطة «اتفاق أوسلو» 1993، بما هو أقل بكثير من دولة على أمل تحسين الوضع من خلال التفاوض على الملفات الخلافية. وعندما أصبح الموقف الدولي (مع الولايات المتحدة) مؤيداً لـ «حل الدولتين» لم يعد الطرف الآخر (إسرائيل) يقبل به لأنه لم تعد هناك أرض متصلة وكافية لـ «دولة فلسطينية»، بعدما تخلى عن قطاع غزة لتعود دورة التاريخ إلى 1948 مع الفارق بطبيعة الحال: منع مصر للحكومة الفلسطينية المعلنة من ممارسة سلطتها في قطاع غزة الذي كانت تسيطر عليه عام 1948، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005 لتفسح المجال لحركة «حماس» لكي تقيم «دولة فلسطينية» من نوع خاص، لا تحظى بقبول من الدول العربية المجاورة.
• مقطع من مخطوطة كتاب «أحمد حلمي عبدالباقي وحكومة عموم فلسطين في السياق المحلي والإقليمي والدولي» وهو معد للنشر قريباً.
صحيفة الحياة اللندنية