رسالة من سعدالله ونوس إلى عبلة الرويني
نحن المثقفين قفا النظام ولسنا نقيضه
الناقدة المصرية عبلة الروينى تمتلك في أوراقها الخاصة ما يقرب من 30 رسالة من سعد الله ونوس، في مراحل زمنية مختلفة تشير إلى تصوراته العميقة بشأن الكثير من القضايا التي أرقته كمثقف عضوي، ومن بين الموضوعات التي شغلته محاولة فهم أعمق لهزيمة 1967، انكسار المشروع الناصري، انكسار المعسكر الاشتراكي، هشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة.. حرب الخليج وما أصابتنا به من عري كامل.. وكانت صرخات سعد الله (أننا مهزومون حتى العظم.. وحتى الكثير الرابع أو الخامس، أقصى حدود الايجابية هو أن نقبل الهزيمة لا أن نراوغها. أن نواجهها صراحة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال). ويسجل فيها ونوس رؤاه حول دور المثقف التنويري، كما يتأمل كارثة حرب الخليج الأولى بعد اجتياح صدام حسين الكويت. لم تكن الروينى راغبة في نشر الرسائل، لكن القيمة الأدبية والفكرية والسياسية التي تنطوي عليها الرسائل.. آراء سعدالله وأفكاره في مناقشة الكثير من القضايا وأحداث التاريخ وما تنطوي عليه من إضاءة لبعض نصوصه المسرحية.. والمعارك التي أثارتها… هنا رسالة من هذه الرسائل.
العزيزة عبلة:
كل شيء قاتم، ومبتذل، ومسفّ. المهرجان يؤذن بالانتهاء، شاهدت كل العروض، ضحالة وتدهور، لا إبداع، ولا هموم حقيقية، وإننا نعود القهقري. منذ فترة طويلة لم أشعر بمثل هذه الوحدة الداخلية. وحدة فيها تقزز، فيها خوف، وفيها حزن أيضاً. كان ينبغي أن آتي، ولكن من المؤكد أنها آخر مرة فيِ حياتيِ.
سأعود إلى قوقعتيِ، وحياتي اليومية، وأوهاميِ التي أنسجها وحيداً فيِ غرفتيِ وبين كتبيِ. هناك يبدو للعالم كثافة، وتبدو للأفكار أهمية، وتتخذ الثقافة بعداً مصيرياً. أما هنا فلا شيءِ إلا الكذب، والفساد، وموت الأمل. إلى هنا تعنيِ كل هذه التظاهرات والمهرجانات والمؤتمرات، وحتى لقاءات وسهرات المثقفين والفنانين، أتعرفين ما نحن فيِ مجتمعاتنا!
إننا ـ نحن المثقفين ـ سلطة ظل شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتاً في السلطة الفعلية. إننا قفا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا طروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا وتشكل جوهر سلوكنا، يا للخيبة! ويا للحزن!
كتبت الأسطر السابقة مساء أمس. حضرت مَسرحية عراقية عنوانها دزمونة. كنت مليئاً بالغيظ والكآبة. تعشيت وصعدت إلى الغرفة. وأردت أن أكتب رسالة طويلة. ولكني لم أفعل. اكتفيت بفشّة الخلق التي تتضمنها الأسطر السابقة.
اليوم الأحد 5 نوفمبر، ثمة شمس، والغيوم التي كانت تضغط على المدينة تبددت. غداً ينتهي المهرجان، ولا طائرة حتى يوم الخميس، ضيقة هذه البلاد، وضيقة هذه الحياة التي نحياها. إننا تقريباً نعيش من أجل لا شيء. وليس بالإمكان أن يتوهم المرء، أو أن يقتنع بالسراب. «لماذا تنحرف بي الكلمات إلى هذا الإيقاع الكئيب الذي لا أريده، ولم أكن أنويِ على الإطلاق أن أضمنه رسالة أكتبها فيِ تونس.. ولكن ما العمل! يبدو أن الأمر أقوى منيِ».
سلاماً يا عبلة:
كان الصينيون القدماء حين يريدون طلب الأذيّة وسوء الحظ لشخص ما، يتمنّون له أن يعيش في عصر مهم. كان العيش فيِ عصر مهم بالنسبة لهم هو اللعنة ذاتها. ويبدو أنهم لم يكونوا مخطئين، فها نحن نكتشف باضطراب حياتنا، وموجات القلق التي تعصف بنا معنى أن نعيش في عصر مهم. كنت أهيئ نفسي في أواخر تموز ـ يوليو ـ وبعد أن تلقيت رسالتك، لكتابة مرافعة مطوّلة أشرح لك فيها الآثار المدمرة التي خلّفها عبد الناصر، والإبقاء عليه طوال أثني عشر عاماً، امتدت من 1945 وحتى 1966، بل ويمكن أن أمدها حتى وفاته إذا تغاضينا عن فتور الحماسة في السنوات الأخيرة، والخيبة، والبدء في البحث عن رؤية خاصة «غير أبوية» للتاريخ ووقائعه، وقلت لك مرة عن شعور اليتم الذي أحسست به عند رحيله. ولو لم أكن قد بدأت البحث عن طريق مستقلة قبل وفاته بسنوات لما كان بوسعي أن أحتمل، ذلك الرحيل من دون انبهار، أو تخلخل عميق في حياتي.
وكنت أهيئ نفسي أيضاً لأن أشرح لك وقع ما سمته الثورة المضادة «ذات الأساس الموضوعي»: البيروسترويكا، على تفكيريِ، وعلى توازني الداخلي، فيِ الحالين كنت أفقد الجدار الذي أتكئ عليه سياسياً ووجودياً أيضاً، وفيِ الحالين كان عليّ أن أعود مع نفسيِ ووسط مرارة فظيعة، ويزيدها فظاعة تعاليِ الأصوات الشامتة، واحتفالات قوى اليمين والظلام بالنصر، أقول أن أعود مع نفسي إلى البدء، وإلى التساؤل: لماذا؟.. وأين الخطأ؟.. وكم كنت نزيهاً في مواجهة هذا الخطأ؟.. وإلى أي حد تواطأت؟.. وإلى أي حدٍّ بسّطت التاريخ؟.. وإلى أي حدٍّ كنت في اتقائي اليقيني المطمئن أستجيب إلى بقايا لاهوتية إيمانية مستقرة في نسيج لا وعي؟ ـ وأنا أكتب إليك هذه الكلمات يتناهى إلى سمعي خطيب الجامع القريب وهو يصرخ بدعائية رخيصة، وفصاحة بائسة منادياً إلى العودة إلى الهدى، وإلى سيد الهدى، ومن عاد إلى الهدى وسيد الهدى نصره الله، ومن ينصره الله فلا غالب له ـ.. يا للبؤس! لا أريد بعد اليوم ذلك اليقين المطمئن. في الحالتين كان ثمة خطأ دفعنا ثمنه غالياً. ولأني أكثر نضجاً من الاعتقاد بأن الخطأ مؤامرة، أو سوء حظ، أو قدر غامض، فإن علي أن أتقصى هذا الخطأ في التاريخ، وليس في أي مجالٍ آخر. إني أتشدق كثيراً بضرورة وأهمية الوعي التاريخي.. ولكن الوعي التاريخي ليس شعاراً، ولا تحيزاً أيديولوجياً، إنه ممارسة، إنه نقد، وإعادة نظر متواصلة، إنه باختصار فك ارتباط نهائي مع اللاهوت، والإيمان المطمئن. وبالتالي مع المقدس بكل أشكاله، هل يفضي ذلك إلى ضرب من العدمية؟.. الاحتمال وارد. لكنه لا يلغي الاحتمال الآخر. أن يعيش المرء مستقلاً، وأن يكون وعيه نقدياً، وأن يجد إمكانية منفذ أو إشارة إلى تاريخ أفضل تتحقق فيه حياة أفضل أو إخفاقات أقل. كنت أهيئ نفسي لهذا كله، ولكن يبدو أن مفاجآت عصرنا المهم لن تترك لنا فرصة لمواصلة أي حوار حتى نهايته اجتاحت العراق الكويت، وبدأت أسوأ أزمة تعيشها هذه المنطقة منذ حرب 76.. وعلينا أن ننفق وقتنا في اللهاث وراء مؤشر الراديو، والتخمين، والتمني، إنها وضعية مريعة أن تكوني في عربة تتدحرج، وأن تكوني داعية لهذا التدحرج، وأن تدركي فوق هذا أنك عاجزة عن فعل أي شيء، أو محرومة من إمكانية فعل أي شيء! منذ بدأت هذه الأزمة، وأنا قلق، وتقريباً لا أفعل شيئاً سوى ملاحقة الأخبار، والقراءة بين النشرات والتقارير الإخبارية، حتى حين سمعت بوفاة لويس عوض، وهو واحد من آخر النهضويين العرب، لم أجد القوة والصفاء لكتابة شيء عنه، وكنت أنوي كتابة دراسة طويلة عن سياقه النهضوي، وتناقضات هذا السياق تحت وطأة تاريخ عاصف ومثقل بالخيبات، منذ علمت أنه في المستشفى، وأن من الصعب تدارك مرضه، على كل، ستضاف هذه الدراسة إلى المشاريع المؤجلة وهي كثيرة. إني متشائم جداً من أزمة الخليج، وأدرك أننا مقدمون على تغيرات بنيوية، وربما مأساوية، في وضعنا القومي والاقتصادي، والاجتماعي، والمستقبلي. ولأن أداة الفعل الممكنة هي أن نقول كلمتنا ونمشي، فقد قلت كلمة أولية ضمنتها البيان الذي أرسله لك مع هذه الرسالة، وقد وقع على هذا البيان عبدالرحمن منيف وفيصل وعدد لا بأس به من الكتاب السوريين.