رستم محمود يذهب إلى جنوب الشمال
صدر حديثاً عن منشورات المتوسط-إيطاليا، كتاباً بعنوان “جنوب قلعة بدليس”، وهو الرواية الأولى للكاتب والباحث السوري رستم محمود.
وعُرف عن محمود تناوله لتاريخ وعلم الاجتماع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط في معظم كتاباته، وروايته هذه لا تبتعد عن اهتمامه ذاك، إلا أنه يذهب إلى التخييل والأدب مما يجعله أكثر حرية في الطرح.
ويمكننا الكاتب من رؤية الهشاشة تلاحق المستسلمين لها، تصنع منهم ضحايا إلى أقصى الدرجات. وأياً كان مستوى سعيهم للتخلي عن أكثر حاجاتهم بساطة وطبيعية، فإن ذلك لن ينجيهم من الاستمرار في شغل موقع الطريدة.
ويعرض رستم محمود في الرواية التي تقع في 272 صفحة من القطع الوسط لحياة كلٍّ من غزالة وابنها وحفيدتها، الذين ينتمون إلى أجيال متتالية لعائلة واحدة، ويأتون من أقصى الهامش الاجتماعي والجغرافي، والذين تسحقهم أحداث كُبرى ما فوقية ومعقدة، تبدو ظاهراً بعيدة تماماً عن عالمهم. لكنها حقيقة أحداث تتدفق إلى كل تفصيل من حياتهم، تلاحقهم بجموح ولا تدع لهم أي مجال ليحظوا بفرصة للنجاة، ولو بأجسادهم وبشيء قليل من الطمأنينة.
ومن خلال حيواتهم نصل مع رستم إلى أسس التكوين النفسي والسلوكي الأكثر عمقاً و”أصالة” في ذوات أفراد المجال الاجتماعي الواحد، والذي هو اشتهاء ومحق الأفراد لمساحات الأفراد الأقل حصانة في ذلك المجال. حيث تُبدل الأحداث الكبرى جذور وجوهر شكل الحياة العامة في مكان الرواية. وقد ننتهي وكأننا نتأمل على بُطْءٍ شديد ذاك المكان الذي تتقلص فيه مساحات وتتمدد أخرى، وفي حركة تقلصها وتمددها نسمع نحن القراء صوت صرير مخلوط بأصوات أمهات يندهن على الشمال أن يعود إلى الجنوب.
ورستم محمود كاتب وباحث سوري من مواليد مدينة القامشلي 1982 مهتم بتاريخ وعلم الاجتماع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط.
ونشر رستم العديد من المقالات والأبحاث والدراسات في ذلك الاتجاه، إلى جانب العديد من النصوص التوثيقية الخاصة، التي رصدت البيوغرافيا الخاصة بالعديد من الشخصيات الاجتماعية والأماكن، وحتى البيوت، في العديد من المناطق.
من الرواية:
كان شيئاً لا تستطيع الكلمات أن تفسِّره: مجموعة من البشر في مكانٍ واحد، يتشاركون رَغْماً عنهم الطعام والمكان والوباء، يدفنون سويَّةً أحبَّة مُقرَّبين لهم، يتطلَّعون في بعضهم والدموع والحسرات تُغرق عينَي كُلٍّ منهم، ومع ذلك ليس فيما بينهم أيّ شكل من أشكال المودَّة أوالمؤازرة أوالمواساة. فما إن تنتهي ساعات الدفن والنواح، حتَّى يعود الجنود والخيَّالة إلى ما كانوا عليه من قبل، ويصير المُرَحَّلون مُجرَّد قطعان من البشر، يُفعَل بهم كلُّ شيء.
كان الناس هُناك يقومون بأفعال الحُزن والبُكاء والنُّوَاح كما لو كانوا يقومون بأيِّ شيء آخر، مثلها مثل الأعمال المنزليّة واليوميّة بالنسبة إلى السكَّان المحلِّيِّيْن، ومثل أمر عسكريّ بالنسبة إلى الجنود، وكتنفيذٍ للأوامر بالنسبة إلى المُرَحَّلين. كان الحُزن والبكاء قد صارا شيئاً عادياً، خالياً من جروح الوجدان والروح والعاطفة، التي تخلق أثراً لا يُمحى.
وإلّاَ، ما تفسير أن يتقاسم مجموع من البشر كَمَّاً مهولاً من الحُزن والألم، دون انجراف تامٍّ نحو الاحتضان والمواساة والمؤازرة؟ ما معنى أن تبقى الكراهية ومستوى العُنف مُحافظَيْن على رتابتهما ونوعيَّتهما بعد لحظات الهوان المُشترك تلك، وكأنه ليس من شيء مرئيّ وملموس وعميق يجمع هؤلاء البشر؟
ميدل إيست أونلاين