رنا قباني: الغرب يرفضني والأصوليون أيضا!
أجري هذا الحوار مع رنا قباني الكاتبة والباحثة في حقل التاريخ الثقافي في أوائل التسعينات من القرن الماضي ونشر في مجلة «الكاتبة» التي صدرت في لندن ما بين (1993-1995) وشعارها «مغامرة المرأة في الكتابة مغامرة الكتابة في المرأة». وإذ نعيد نشره هنا فإنما نفعل ذلك لاعتبارات عدة سيلمسها القراء، منها أن القضايا التي طرحتها قباني في الحوار ما تزال بمجملها قائمة، وربما متفاقمة، وأن مكانة المؤنث والأنوثة والمرأة في الثقافة والاجتماع شهدت وما تزال مراوحة مريعة، وظلّ النقاش الفكري في هذه القضايا حيّياً في يوميات الثقافة العربية والنقاش المجتمعي. فعلى الرغم من حضور المرأة على نحو لافت وغير مسبوق في الأدب والفن والفكر خلال القرن العشرين، إلا أن الإنجازات التي حققتها المرأة العربية وسمحت لها من هامش أوسع قليلا بالظهور في منصات التعبير الثقافي عن الذات، على أهميتها، لم تقرن بنجاح كبير في ما يمكن اعتباره استعادة مشروعة للجزء الأكبر والأهم من حقوقها المغتصبة عبر تاريخ من الإقصاء والتهميش. فالثقافة الذكورية المجتمعية ظلت طاغية على العلاقة بين النساء والرجال، والجوانب الحقوقية الصرفة مما ناضلت المرأة للحصول عليه ظلت ضيقة وباهتة. ولم تتمكن النماذج التي سادت للدولة الوطنية في العالم العربي، ورفعت أحيانا يافطات العلمنة والحداثة، من الإفراج عن المحتجز تاريخياً من حقوق المرأة عبر قوانين وتشريعات لا رجعة عنها. في هذا الحوار أيضا تبرز إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب، من منظور نسوي، وخطاب ما بعد استعماري. وهو ما أتاح لقباني أن تستطلع وجودها بين حجري رحى الأصوليين الشرقيين الذين يرفضونها كامرأة متحررة، وغرب يرفض الاعتراف باختلافها كمثقفة قادمة من عالم شرقي. ويمكن رد هذا التشخيص لحالتها إلى دراساتها التي قدمتها «على خطى إدوارد سعيد» للمركزية الغربية واستعلائيتها على الثقافات الأخرى، من خلال كتابين لها هما «أساطير أوروبا عن الشرق: لفق تسد Europe’s Mythos of Orient» و»رسالة إلى الغرب Letter to Christindom». أخير يندرج هذا الحوار الشيق في إطار المراجعات والحوارات والسجالات العديدة التي باشرتها «الجديد» منذ أعدادها الأولى، في ملفات خصصتها لنشر إبداعات المرأة وأفكارها ومراجعة مكانة الأنوثة والمؤنث في الثقافة والاجتماع العربيين، بهدف استئناف حوار جاد وخلاق في كل ما هو مسكوت عنه في الثقافة العربية المعاصرة، وهو ما ينسجم بالضرورة مع روح البيان التأسيسي لـ»الجديد» قلم التحرير
الجديد: كونك مقيمة في أوروبا بين ثقافتين، تكتبين بالإنكليزية وتفكرين بها على خلفية ثقافية عربية. هل تعتبرين نفسك، في هذه المراوحة غير المستقرة بين قطبين، مخترقة ثقافيا؟ هل يمكن القول إن خطابك يشكل في جانب منه رد فعل على شعور بانتمائك إلى ثقافة ذات ثقل كبير، ولكنها في حالة غزو منذ وقت ليس قصيرا؟ هل يتشكل خطابك من عناصر دفاع أساسا؟
رنا قباني: عندما بدأت في الكتابة -وكنت صغيرة- كان لديّ وجع. أحسست أن شيئا هناك فيّ يستدعي منّي أن أعبر عنه. ولم تكن الأسباب متكونة كلها، أو متبلورة تماما. منذ البداية كتبت بالإنكليزية، وكانت هناك تفاصيل حياتية جعلتني منذ طفولتي أعيش في الغرب، حيث تكونت ثقافتي.
اختياري الإنكليزية كانت أسبابه كثيرة، أحد هذه الأسباب أن الثقافة العربية والحضارة العربية مجهولتان تماما على الخارطة الحديثة، أيضا، لديّ شعور أن الحضارات التي باتت معروفة في الغرب، وكانت لعشرين سنة خلت مجهولة، تم لها ذلك من خلال الأدب والثقافة. مثلا الحضارة اليابانية وصفت واخترقت وأصبحت جزءا من التجربة الإنسانية بعدما بدأ اليابانيون يكتبون ويصفون بشكل تعبيري وروائي صريح. كتبوا حول علاقتهم بثقافتهم والغرب وعلاقة المرأة بالرجل. انفجرت لديهم كل الموضوعات التي كانت تقع خارج دائرة النقاش. ولخمس وعشرين سنة تقريبا كان الإنسان الياباني مكبوتا تماما، ولديه العجز نفسه عن التعبير الذي يميز الإنسان العربي الآن. كثير من اليابانيين باتوا يكتبون بالإنكليزية. وهذا فتح -في تصوري- آفاقا مهمة وكبيرة على المستوى الإنساني. للأسف لم يجر الشيء نفسه بالنسبة إلى الثقافة العربية فما من كاتب أو كاتبة عربيين (استطاعا) القيام بعمل مشابه. هناك اليوم ضرورة قصوى لأن يعبر العربي عن «لحظة العالمية» بأشكال أخرى. في الرواية، في القصيدة، في السينما، في المسرح، حتى يشعر أن له مكانا في الثقافة العالمية، وهو ما لا يشعر به اليوم.
الجديد: العربي اليوم لديه شعور قوي بأن حضوره الثقافي في العالم مقصى تماما. وبالتالي فإن وجوده غير فاعل، لأنه غير مسموح له بالفعل.
رنا قباني: العربي ملغى من تاريخ الغرب، كان إسهامه المكين والأساسي في صناعة الحضارة العالمية الحديثة عبر مختبر التفاعل الحضاري في الأندلس. لكن هذا الشيء ملغى. العربيّ قدم شيئا كبيرا جدا، ليس للنهضة الأوروبية، وحسب، إنما تحديدا بالنسبة إلى ما يعتبره الأوروبي والغربي مهما جدا في حضارته الحديثة اليوم، وما يعتبره إنجازا يمثله. مثلا الدبلوماسية، المعلومات، أدب الرحلات، فورم القصيدة، وفورم الأغنية، فكرة الحب العذري، الرومانسية، الطب، الكيمياء وصناعة الأدوية، العلاقات بين الجماعات الإثنية المختلفة، أدب المائدة، الموضة. فزرياب ربما هو أول من حدّد ما الذي كان يحسن أن يرتدى في الصيف من ألوان الثياب وخلافه في الشتاء. كيف يقص الشعر، وكيف يكون الماكياج. وبهذا المعنى، كان الأوروبي الأول. كلنا نحس هذه العقدة، ونحس بهذه النوستالجيا، التي يمكن تسميتها «عقدة الأندلس».
الجديد: هناك إحساس قويّ لدى العرب بسبب أوضاعهم المتردية باستمرار وسوء علاقتهم بالغرب، بأن مأساوية البرهة الأندلسية مستمرة حتى اليوم، ومظهرها مسلك الإقصاء الغربي للشرقي بعيدا عن مسرح التأثير، إحساس فادح فداحة الإقصاء الذي يعطل الفاعلية الخاصة بحضارة.
رنا قباني: الإحساس النوستالجي الأندلسي سببه لدى العرب اعتقادهم النهائي بأنهم ليسوا نكرات حضاريا. فلماذا يفرض عليهم أن يكونوا كذلك؟ هم ليسوا صفرا (للمفارقة العرب أعطوا الأوروبيين «الصفر» ومفهومه). على العرب أن يشعروا أنهم جزء من العالم. على الإنسان العربي أن يبدأ في الكلام على تجربته بصفتها تجربة إنسانية، وليس تجربة عربية. في السنوات العشر الأخيرة تدمّر مفهوم العروبة، تفكّك. أنت وأنا من جيل كان يعتبر العروبة فكرة نهائية، لا تمسّ. وها نحن نرى كيف أن فكرة العروبة أنجزت نفسها في حالة دمارية، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعادة صياغة مفهوم العروبة في المدى التاريخي المنظور، لكن المشكلة وصف هذا التدمير وأثره فينا. أنا مثلا ما أزال لا أعرف كيف سأستمر. لا أشعر أنني وجدت صيغة لاستمراريتي كإنسان. ربما الشيوعيون أحسّوا بشيء من هذا القبيل عندما تدمر مفهوم الشيوعية، ربما حدث للذين كانوا متدينين ثم سقطت معتقداتهم وألغيت بالنسبة إليهم. المهم أننا في أزمة كبرى. ووصف هذه الأزمة، هو أمر ضروري.
الجديد: يخيل إليّ أن حجم ما سقط في العالم، وما جرى تدميره أو تدمر من تلقاء نفسه في العالم العربي، يصعب على الفرد احتماله واستيعابه، وبالتالي من الضروري، الأخذ بفكرة تخصص الأفراد (في جلسة سابقة لنا تحدثنا حول فكرة المثقف الموسوعي، وضرورة اللجوء إلى التخصص) المثقف العربي مثلا ينوء تحت قضايا ومشكلات كثيرة، ما يجعله باستمرار أسير حالات مشوشة وهو أحيانا في طروحاته ومقارباته أفقي التفكير، وربما ساكن قشرة.
رنا قباني: التخصص في التجربة اليهودية مثال مهمّ. وهو نتيجة عمل طويل لديهم. ولم يتم إنجازه إلا بعد عودتهم إلى أوروبا، إثر خروجهم والعرب من الأندلس. انتشر اليهود في أوروبا وانتشرت ثقافتهم بعد ذلك بوقت طويل، في القرن الثامن عشر مع ظهور مندلسون، وغيره من المفكرين والعلماء، الذي أنجزه اليهود هو قناعتهم بضرورة أن يكونوا جزءا من الديناميكية الأوروبية، أي ضرورة التخصص.
الجديد: ولكن هل تعتقدين أن من السهل على العرب، والثقافة العربية، القبول بخوض تجربة الدخول إلى الآخر (لو سهّل الآخر ذلك) بالمشاعر والأفكار، التصورات التي يحملونها عن أنفسهم وعن الآخر: تشكل الذات موقعا متضخما فيها، على الرغم من حالة التخبط التي تسود وجودهم. بمعنى آخر هل لديهم استعداد للقبول بتقديم تنازلات ثقافية وأخلاقية كبيرة لتحقيق ذلك (لو كان ممكنا أصلا).
رنا قباني: هنا أعود إلى سؤالك لماذا أكتب؟ هل كتابتي رد فعل دفاعي؟ نحن تعودنا رد الفعل العنيف الذي ربينا عليه، والذي هو رد فعلنا على الحضارة الغربية، أو على الاستعمار الغربي، أو على إسرائيل، وكذلك على الأزمات التي مرت بنا كشعب، له تاريخ. رد الفعل هذا كان إرهابيا، ليس على المستوى الفعلي العملي العسكري وحسب، وإنما يعيد رد الفعل السايكولوجي، العاطفي العنيف. مثلما استطاع الغربيون إلغاء وجود بصفتك حاضرا على قائمة الإرهاب العالمي، فبت غير مدعوّ إلى المائدة الإنسانية، كذلك الحال لمن استطاعوا أن يقولوا لأدبك، أنت ملغى، ولا مكان لك في العالمية. والآن ما العمل؟ هل تقبل أن تكون ملغى؟ أنا مثلا أملك رد الفعل العنيف هذا، لكنني لا أرغب في وصفه بشيء من التعقيد الذي يستحقه الأمر. لأنه أصلا معقد، نحن استبطناه لأسباب سياسية. ولأن هناك حربا كبيرة ثقافية وسياسية ودينية واجتماعية واقتصادية مشنونة علينا لكن الصوت العنيف والصوت الدفاعي لا يمكنهما إيقاف هذه الحروب والحقيقة أنك تستطيع اختراق هذه الحرب بالكف عن أن تكون مبسطا، لأن الحرب نفسها المشنونة ضدك من ميزاتها الأساسية أنها معقدة كثيرا، ولو عدنا إلى المثال الياباني، نجد أن ثقافته منذ شرعت في إنتاج هذا الخطاب المعقد منذ نحو عشر سنوات، بدأ الأدب الياباني في تداول العالمية.
الجديد: لكن المثال الياباني يصعب القياس عليه، لأن نهضة الثقافة اليابانية أسّست لها مؤسسات حققت نهضة اقتصادية وعلمية كبيرة. وهذا ما لم يحصل في البلاد العربية. وفي أغلب الحالات جرى عكسه تماما أي جرى تدمير المؤسسات في حالاتها الجنينية.
رنا قباني: نعم، لم يحصل في البلاد العربية، وبهذا الصدد لدي تشاؤم كبير، لأن كلمة «اجتماعي» أو «كلمة ثقافي» لدى الإنسان العربي ليست لها الدلالات التي تعنيها على رغم من وجود أجيال كثيرة من المتعلمين، ربما لأن ليس هناك وعي مصيري، الفرد العربي ما يزال حتى الآن مشغولا بفرديته، ما يزال مشغولا بالاستهلاك، ما يزال لم يدرك تماما أنّ كل ما يؤديه في حياته مهما كان صغيرا له أهميته في تكوين صوته في العالم. مقابل ذلك فإن الإقبال على الاستهلاك في المجتمعات العربية مخيف جدا. وهناك إما فقر ساحق أو استهلاك مرعب.
الجديد: هل تبدو لك فردية العربي التي تضعه خارج أي مشروع جماعي تاريخي حضاري محتمل ظرفية لكونها ربما متأسسة على رد فعل دفاعي من الفرد، على سلوك السلطات والساسة الذين لا تستقيم علاقتهم به إلا بصفته فردا في قطيع. وبالتالي تبرز الأنا المرضية بصورها الفادحة لدى مجموع الأفراد من دون أن يعني ذلك أنها ميزة تطبع شخصية وثقافتها؟
رنا قباني: ربما، لكن هذه الحالة المرضية مستشرية وموجودة سواء أكانت بالنسبة إلينا أنا وأنت كمغتربين في أوروبا (وفرديتنا مفروضة كضرورة). أو بالنسبة إلى المقيمين في العالم العربي. مثلا عندما أذهب إلى الشام أجد أن الطبقة التي يمكن أن تعطي وتنتج، تتحول اليوم إلى طبقة استهلاكية فقط، طبقة غير منتجة اجتماعيا وثقافيا، وهذا غير مقبول. لأنني عندما أعود وأنظر في التجربة اليهودية في أوروبا وبعد ذلك في إسرائيل، أجد أن الوعي المصيري الذي نشأ لدى اليهود، هو ما جعلهم يصبحون صوتا مؤثرا فعلا في العالم.
الجديد: اليهود ساعدتهم ظروف كثيرة بعضها يبدو استثنائيا تماما.
رنا قباني: لكن هذه الظروف بدأت تتحقق لدينا. مثلا بعد أحداث بوسنيا نشأت لدينا الظروف نفسها ذات الطابع الجرائمي ولكن ضد المسلمين العرب. المسلم اليوم أصبح إنسانا مهددا، والهولوكوست الحديث بدأ، قبل أربع سنوات، صعق الذين سمعوني أقول: عندما تكون هناك أفران غاز في أوروبا سيكون المسلم في هذه الأفران. أعتقد أن هذه اللحظة مقبلة، شروط صناعة هذه اللحظة المأساوية قائمة الآن.
الجديد: هل ترين أن البنية الحديثة للثقافة العربية قادرة على أن تجعل منها ثقافة عالمية؟
رنا قباني: لا، لا أرى هذا أبدا، لأسباب كثيرة، أولا هناك استعمار في اللغات وفي الثقافات واللغة الإنكليزية اليوم هي اللغة المستعمرة. ثانيا اللغة العربية لا تترجم إلى الإنكليزية هناك أزمة حقيقية لعلاقة العربية باللغات الأخرى، وخصوصا الإنكليزية.
الجديد: هل ترين مع من يرى أن الأسباب الأساسية لذلك هي في تفاقم مشاعر العداء الأوروبي لكل ما يمثله العربي كـ»آخر».
رنا قباني: هناك مستويات، المستوى الأول لغوي وتركيبي، العربية كلغة لا تترجم، وإذا ترجمت فالنص الذي تترجمه من العربية سوف يكون نصا مختلفا تماما. طبعا هناك أزمة في الترجمة بشكل عام، لكنك مثلا عندما تحاول الترجمة من الروسية إلى الإنكليزية أنت تنجح، وعندما تحاول الترجمة من الإسبانية إلى الإنكليزية قد تواجه أزمة، ولكن إذا كنت بصدد مترجم مبدع فعلا، مثل غريغوري لاباسا الذي ترجم ماركيز، فأنت تجد أن مثل هذا المترجم تمكن من أن يعيد صياغة صوت ماركيز تماما في لغة أخرى، هي الإنكليزية. بينما نجد أن بين العربية والإنكليزية تلك الأزمة اللغوية الحقيقية التي يصعب معها ترجمة نص عربي. مثلا كل الأدب الجاهلي لا يترجم، وبالتالي سيبقى هذا الأدب مجهولا.
الجديد: الأمر صعب، حقيقة، رغم أن المستشرقين عملوا على ترجمة نصوص من الأدب الجاهلي في القرن الماضي خصوصا.
رنا قباني: صحيح لكن جرب أن تقرأ تلك الترجمات، المستشرقون في القرن التاسع عشر لم يستطيعوا ترجمة نص جاهلي واحد، دون أذى كبير. ونحن نتكلم الآن عن أدب يعتبر الثمرة الحقيقية لتراكمنا الحضاري. خذ مثالا آخر.. النص الأدبي المرموق في العربية الذي هو القرآن، لا يترجم. مثال آخر، الشعر الحديث.
الجديد: ربما لأن مسألة الصوت في الشعرية العربية لها تعقيدها الخاص؟
رنا قباني: إذن أنت تؤكد ما أقوله، أن هناك أزمة تركيبية في العربية تجعل النص الأدبي عسيرا على الترجمة. هذا على المستوى الفني. على المستوى الثاني، صحيح، أن هناك في الغرب عدائية فظيعة نحو الثقافة العربية، وهذه العدائية قديمة جدا تاريخيا بين الغرب والشرق، لكن هذه العدائية، موجودة بين الغرب وثقافات أخرى، إنما هي أقل حدية، ثم إن هذه الثقافات الأخرى استطاعت أن تتعامل مع الغرب إلى درجة تهذب معها من عدائية الغرب لها وعدائيتها له.
الجديد: ربما بسبب ما ذهبت إليه قبلا من أن هناك امتلاء بالذات لدى العربي، لشعوره الطاغي بأهمية ثقافته، وبالتالي من الغبن له ولثقافته إخضاعها، بطريقة ما، على سبيل ترجمتها؟
رنا قباني: لو كان الأمر كذلك، فهو ليس صحيحا أبدا. فالثقافة اليوم في العالم لها موقع في السوق، أنت تذهب إلى السوق وتشتري الكتاب كما تشتري الفيديو أو الأسطوانة الموسيقية أو اللمبة أو الكرسي، أو أي سلعة أخرى. الثقافة سلعة، وإذا لم تخصص رصيدا ماليا لثقافتك في السوق العالمية -ليس بالمعنى الاستهلاكي البسيط، وإنما الحقيقي العميق للكلمة- فأنت لن تعود موجودا في الحضارة الحديثة. هذه مسألة أصبحت بديهية تماما.
وهذه الوضعية لمكانة الثقافة ليست غريبة أبدا عن التقاليد التي أنتجتها ثقافتنا العربية، منذ القديم. فسوق عكاظ كان سوق القصيدة. كان الشاعر يأتي إلى السوق ليقدم قصيدته كسلعة، وعندما يأتي الشاعر إلى هذا المنبر، فهو يقدم سلعته الجمالية في سوق لها باعة وشراة ومتنافسون. وهناك ألوان من هذه السلعة. وألوان من الراغبين بها. والمزاحمة هي التي تصنع السوق الشعرية، وتصنع الثقافة. رسام القرن السادس عشر في أوروبا مايكل أنجلو مثلا عندما كان يقدم تمثالا أهم من تمثال Bernini، كان يفعل ذلك في سوق فنية، وبالتالي فإن مفهوم أن يكون الكاتب أو الفنان مفصولا تماما عن فكرة الاستهلاك هو مفهوم جديد، وأتصور أنه مفهوم وهمي.
الجديد: نعود إلى أرض المسألة، العالم العربي عموما يخلو من المؤسسات الأهلية الحرة، وبالتالي إنسان هذه الأرض غير حر، ليست هناك ديمقراطية في العالم العربي، ليس هناك مجتمع أهلي يزاول حياته بصورة طبيعة، الإنسان مصادر هو وتعبيره، يدرج في سياق مخالف لإرادته ومحدد بالتالي لقدر لا سيطرة له عليه. من هنا فإن الاستراتيجيات الثقافية، أو استراتيجيات المجتمع نفسه، مصادرة، ومخطوفة من قبل الدولة في صيغها الراهنة. على هذه الخلفية، وفي نسيجها كيف يمكن إنتاج ثقافة جديدة تحضر في العالم؟
رنا قباني: التشخيص صحيح، ولكن هناك كثير من الكتاب والفنانين من ثقافات أخرى، كتبوا ورسموا وأنتجوا في ظروف صعبة جدا، وكانت أعمالهم دفاعية، ولكنها أيضا مركبة ومعقدة. كما طرحنا في الفكرة الأولى. لتكن مواطنا في دولة بوليسية في العالم العربي مثلا، ومن ثم تكتب نصا ضد هذه الدولة. إذا كان نصك مبسطا كثيرا ودفاعيا وإرهابيا لكونه ثمرة رد فعل مباشرة، حينذاك سوف تُقمع بالضرورة، لكنك، لو كنت صاحب نص أكثر تعقيدا وتركيبا وإنسانية، بحيث يمكن أن ينطبق عليك وعلى كل معادلة قمع في العالم سوف تكسب أمرين: تجاوز الرقابة وبلوغ العالمية.
الجديد: قد يكون مثل هذا النص الآن قيد الولادة في العالم العربي، وستتأكد ولادته خصوصا بعد خضة سقوط الأيديولوجيات وانكسار المشروعات الكبرى، لأن سطوة السياسي على الثقافي كانت فادحة في تغييبها للتعبير الشخصي وللمشروعات الشخصية في الثقافة.
رنا قباني: فعلا، سطوة السياسي كانت مرهقة ومدمرة. والنص الجديد بدأ يتشكل، لم يلد، ولكنه قيد التشكل. وحول نقطة الهيمنة للسياسي كنت أكتب مع بداية محادثات السلام نصا نشر في الهيرالد تريبيون عن عائلة في الجولان من اللاجئين. أذكر أفراد هذه العائلة التي وصلت في العام 1967 لاجئة إلى دمشق ونزل أفرادها ضيوفا علينا في البيت، قدمت وصفا لهذه العائلة، واكتشفت أثناء كتابتي تلك المقالة أن في مشاعري شيئا من تأنيب الضمير مصدره أنني أكتب عن لاجئين غير فلسطينيين، وربما كنت شعرت أنني إذ أكتب عن لاجئ الجولان إنما أغيّب بذلك لاجئ فلسطين. هذا شعور متعب، لم يكن هدفي تغييب أحد وراء أحد، هناك أشياء كثيرة تتعلق بتجربتنا الحقيقية ما تزال لم توصف.
الجديد: أعتقد أن قضية فلسطين وتعقيدها الكبير، الذي جمع العرب من حولها، وفتّتهم في الوقت نفسه، والذي لم يجر حله، هذه القضية، في اعتقادي، لعبت دورا مميزا في قمع ولجم تطور تاريخي عربي كامل وفي مستويات مختلفة.
رنا قباني: نعم.. خذ مثلا شعراء وكتاب فلسطين أنفسهم، إنهم يعون هذه العقدة تماما، يشعرون أن قضيتهم تكبّل طموحاتهم التعبيرية والجمالية. يشعرون أنفسهم مقيدين كشعراء وكتاب.
الجديد: الآن، من خلال موقعك كأنثى من مقعدك، ونظرتك إلى الأشياء، كيف ترين إلى هذا التعقيد الذي نقاربه؟
رنا قباني: بإزاء هذه المسألة طالما أحسست أنني مكبلة وقابلة لهذا التكبيل بالمعنى السياسي، أنا لا أريد أن أكون سلمان رشدي آخر. قلت هذا لنفسي مرارا، لا أريد لخيالي أن يكون استفزازيا كخيال رشدي لئلا تستثمر نصي لأهداف سياسية تدرجه بين خطاباتها. لا أريد لنصي مثل هذا المصير. رشدي استغل خطابه، وهو كان أحمق، عندما لم ير ذلك مسبقا. هو غير مسيّس، موهوب كثيرا، لكنه غير مسيس، لم يفهم أن الغرب عندما يعطيك إمكان النجاح، إنما يمد لك الحبل لتصبح أسيره، وليحركك إذا استطاع، (ويستطيع) ومن ثم لتشنق نفسك بهذا الحبل، وفي حالتي، أحس حقيقة أنني مكبلة لكوني لا أريد لعملي أن يستغل، هذه صعوبة كبرى، لكنني هذه السنة تحديدا، لا أدري لماذا تماما، ألظروف خاصة أو لظروف سياسية، وبسبب آثار حرب الخليج، أو رد فعل على التساؤلات الكبيرة المطروحة بصدد الإسلام، والتي تشغلني، ربما لكل هذا تشكلت عندي أزمة كتابية كبيرة جدا، وأتصور أنني وصلت حالة الانفجار، إلى الحد الذي يجعلني أحس أنه مهما كان الثمن أنا مضطرة لأن أكون صريحة فعلا في وصف تجربتي كإنسانة. وصلت هذه المرحلة.
الجديد: من موقعك الجغرافي في أوروبا الآن كيف تنظرين إلى مجريات التطور في العالم العربي الذي يكاد يصوغ وضعية جديدة للمرأة، هناك من يرى أنها تسلب منها حقوقا جهدت عبر أكثر من سبعين عاما لتحقيقها. والإشارة هنا إلى الأصولية الإسلامية وموقفها من المرأة، وبصفتها واحدة من أصوليات دينية أخرى منها المسيحية والأصولية اليهودية، وموقفها من المرأة له رصيده من البشاعة عبر التاريخ، علما أن مصطلح «أصولية» (Fundementalim) يكاد لا يكون دقيقا في وصف المتعصبين دينيا من المسلمين. وربما يكون مصطلح (السلفية) أكثر ملاءمة !
رنا قباني: حتى السلفية مصطلح، ولديّ تحفظ على استعماله في هذا المعرض، ففي الإسلام كما هو معروف سلفيتان، سلفية النبي محمد التي هي مثل لا أتصور أنه يتطابق مع ما يوصف اليوم بـ»الأصولية»، وهنك سلفية عمر الذي هو مثل للأصولي، فسلفية من تقصد؟
الجديد: المقصود هنا الخط المتشدد في الإسلام.
رنا قباني: هذا موجود منذ البداية. وصراع علي وعمر مع النبي يكاد يكون مثيله الصراع الدائر الآن في الإسلام. لأن الحوار الدائر في هذه البرهة بين الأطراف المختلفة هو نفسه ذاك.
الجديد: تحديدا للسؤال، الذي بدا خلال هذا القرن أن المرأة كما لو كانت في سبيلها إلى الخروج إلى مجتمع مدني حيث يمكنها أن تحتكم إلى المحكمة وإلى القانون لنيل حقوقها بعيدا عن سلطة التعصب لديني.
رنا قباني: عن أي مجتمع تتكلم؟
الجديد: عن بعض المجتمعات العربية حيث هناك هيمنة للدولة اللادينية.
رنا قباني: لكن هذا غير موجود في سوريا مثلا. لو كنت أريد أن أطالب بحقوقي في سوريا، وذهبت إلى المحكمة، القوانين المتعلقة بالمرأة والعائلة والأولاد هي قوانين شرعية.
الجديد: إنما بسبب علمانية الدولة، هناك بعض القوانين التي تحمي المرأة وتلجم فكرة المصادرة الواسعة لحريتها.
رنا قباني: ليس كثيرا.
الجديد: في دول مثل العراق، سوريا، لبنان، الوضع الاجتماعي للمرأة على ما فيه من بؤس يبقى أفضل نسبيا من وضعها في بلدان عربية أخرى، كما هو الحال بالنسبة إلى منطقة الخليج مثلا.
رنا قباني: تونس تبرز كاستثناء. هناك حصل تغيير كبير في وضع المرأة.
الجديد: تقصدين في إطار التجربة البورقيبية؟
رنا قباني: بورقيبة طبعا له دور في ذلك، ولكن هناك في تونس نساء سياسيات عملن فعليا لتنال المرأة حقها، بينما نجد أن المرأة في سوريا، مثلا، لم تحاول التغيير في القوانين، لم تضع ذلك بين أهدافها العملية.
الجديد: لو عدنا إلى جانب آخر من السؤال حول وضع المرأة اليوم في العالم العربي، في مصر مثلا، في دول الخليج، وفي مناطق أخرى، الملاحظ بوضوح أن المرأة مدعوّة إلى العودة تماما إلى بيتها، إلى صورتها التقليدية كـ»حرمة». فهي مطلوب أن تحجب، وتختفي بكل ما ينتجه الاختفاء من دلالات. من جهتك هل تعتقدين أن حقوق المرأة مهددة أكثر من أيّ وقت مضى في العالم العربي، ولا سيما بسبب موقف الجماعات الإسلامية المتطرفة منها؟
رنا قباني: الملاحظة الأولى على السؤال أنه يتبنى الوصف الغربي للحركة الإسلامية عندما يشخص السؤال الرجل المسلم في حالة فرض وضعية على المرأة.
الجديد: لم أقصد، ولا أريد أن أقصد، تحديد أن المسلم الأصولي يفعل ذلك بصفته رجلا.
رنا قباني: دعني إذن أعتبر أن الغرب يعرض صورة الرجل الأصولي المسلم في حالة يفرض فيها وضعية معينة على النساء. لننظر إلى المشاركة كما هي في الواقع في دولة علمانية مثل سوريا، تجد حركة أصولية نسائية كبيرة جدا، وتجد أن بنات كثيرات من عائلات علمانية تماما مثل عائلتي يتحولن يوما بعد يوم إلى محجبات وأصوليات، وهن أصلا مثقفات طبيبات ومهندسات وأساتذة في الجامعات، وغير ذلك.
الجديد: ما هو تفسيرك الشخصي لهذه العودة؟
رنا قباني: لعلها مظهر من مظاهر ردّ الفعل السياسي، فأنت كفرد عندما تعيش في مجتمع بلا مقدرة على التعبير سوف تتولد لديك ردات فعل، وأحيانا ما تعبر عن نفسها بانكفاء نحو الداخل، أو إلى الوراء.
الجديد: لماذا -في رأيك- لم يتطور الخطاب النسوي في المشرق، كما هو الحال في المغربي العربي مثلا، باستثناء لبنان حيث نجد بعض الأصوات. هل بسبب إمكانات التعبير وظروفه فقط، أم أن هناك أسبابا أخرى تتصل بمكونات أخرى.
رنا قباني: ضعف الحركة النسوية في سوريا كما أتصور سببه وجود حزب، والحزب عادة ما يأكل كل شيء. والمرأة المسيّسة التي تدخل الحزب تتحول انشغالاتها وهمومها إلى هموم حزبية، ويتحول نضالها كامرأة إلى جزء من نضال الحزب، ويتأسس في النتيجة اتحاد نسائي. كيافطة فهو يحمل على عاتقه كمنظمة جماهيرية مهمة تحرير المرأة. لكن ما من تحرّر يتم عن طريق غير فردي. حركة تحرير المرأة في الستينات في أميركا والغرب تدلنا على سلوك إنساني ونسائي شامل، على جيل كامل من النساء اللواتي ربين على أساس أنهن سيكنّ أمهات يربين أولادا ويطبخن ويعملن في البيت ويقبلن الرجل ويقبلن المفروضات، وفجأة انفجرن تماما. جيل كامل انفجر، وقال لا.. لا أقبل هذا. طبعا رد الفعل كان عنيفا. ولكن خطابات المرأة في الغرب مرّ وقت طويل حتى بلغت التعقيد الضروري لها. الآن فقط بدأت في الغرب، إعادة كتابة الـFeminism وإعادة كتابة للحركة التي خاطبتها في أوروبا، والذي يبدو وفق بعض الخطابات النسائية أن المرأة إذا أرادت أن تتحرّر فإنه أولا عليها أن تصبح كالرجل، وثانيا كالرجل الغربي، هذا هو العنوان، أو الشعار الذي كان مطروحا. بالنسبة إليّ، أحس أنني من ثقافة أخرى، ولا أرغب أو أريد أن أكون مثل الرجل، ولا أريد أن أكون الرجل الغربي. هناك نماذج كثيرة اضطرت إلى أن تُكسر. النساء من حضارات أخرى كالكاريبي أو الهند أو باكستان، اللواتي يكتبن الآن في إنكلترا عن هذا الموضوع أضفن أشياء مهمة كثيرة إلى الخطاب النسائي.
هناك اليوم مدّ، وحتى عشر سنوات خلت، كان هناك تفسير مبسط كثيرا للحضارات الأخرى، ولدور المرأة في الحضارات الأخرى، وخصوصا لدور المرأة في الحضارات الإسلامية.
الغربيات مثلا، في الحركة النسائية يطرحن علينا التالي: نحن من سيحرّركن من حضارتكن، ومن الإسلام. وهذا الطرح هو تماما طرح استعماري، وكان سائدا في القرن التاسع عشر عندما قال اللورد بانغ إنه سيحرر نساء مصر من الإسلام، بينما كان في الوقت نفسه ضد تحرير المرأة في إنكلترا، وكان من الذين حاربوا المطالبين بحق التصويت للمرأة، في بلاده كان (ضد) وفي مصر كان (مع) لماذا؟ لأن حركة تحرير المرأة في مصر أثناءها كانت حركة علمانية مفتونة بالغرب وضد الإسلام.
وتبدو لي فاطمة المرنيسي على حق عندما تخاطب الغرب ونساءه: أنا لا أريد أن أرفض ديني، ولا أريد أن أصبح غربية. وفي الوقت نفسه أريد أن أكون إنسانا، ولي الحق في ذلك، وحضارتي وثقافتي وديني يسمحون لي بأن أكون إنسانا. لكنني مضطرة إلى عمل كبير في البحث والكشف عن ديني الحقيقي، وديني ليس المطروح الآن، وليس الدين الذي تريدون منّي إلغاءه، والذي تطالبونني إما بإلغائه لأستحق القبول من جانبكم، أو البقاء في فضائه الحضاري، وبالتالي اتهامي بالأصولية، هناك حلول أخرى، وأصوات أخرى، غير تلك التي يرغب الغرب في الإعلاء من شأنها.
الجديد: بمعنى أنك غير مقبولة لدى الآخر الغربي إلا بانتمائك الكلي إلى الغرب، إلى درجة الذوبان الثقافي والحضاري، أي الفناء فيه.. أهذا ما تحاولين تصويره؟
رنا قباني: نعم، وقطعا. ربما أكون مقبولة كمهتمة بثقافتي العربية كثقافة أكزوتيك. ولكن لو قلت أن لديّ بعدا سياسيا ولا أرغب كمسلمة في إلغاء هذا البعد فيّ.. يصبح الأمر حساسا جدا. وربما يجعلني موقفي هذا أتّهم بالأصولية. وفي واقع الحال أن الأصوليين يرفضونني بمقدار ما يرفضني الغربيون. أحس أنني بين حجري الرحى هذين.
الجديد: وهكذا، تجدين نفسك تقفين على أرض ثالثة.
رنا قباني: نعم، في أرض ثالثة. في الأرض الثالثة.
الجديد: هل تقدّرين أن حالتك مقرونة بحالات حضارية أخرى تقيم في ظهراني الغرب، تكشف عن ازدواجية في الخطاب الغربي الذي يتحدث عن التعدد والاختلاف والتسامح، لا تسمح له بالاعتراف بهذا الثالث. وهي التي لم تعترف للآخر الثاني، الموصوم بالدكتاتورية تارة وبالأصولية تارة أخرى إلا بعلاقة ذات طابع صراعي مأساوي؟
رنا قباني: بالتأكيد. الغرب أصولي، والأصوليات التي نتكلم عليها ليست دينية وحسب، هناك أصولية علمانية قوية جدا، الكاتب الباكستاني شبري أختار سماها (The Liberal
الجديد: ثقافة المثقف العربي خلال هذا القرن صيغت، تقريبا، لتجعله قابلا لأن «يكون أوروبيا» والثقافة العربية جرى تلقيحها عبر الترجمة إلى العربية التي نشطت خلال هذا القرن. عبر هذه الثقافة تسللت خطابات المستشرقين نحو المرأة العربية، وكذلك الصورة الأوروبية للمرأة وإشكاليات وجودها؟
رنا قباني: هناك مسألة مهمة تتعلق بالاستشراق، ربما لم تطرح كثيرا. نستنتج أن الاستشراق حنّط التقليدية، وأخذ من الحضارتين الإسلامية والعربية ما هو ضد المرأة، أو ما يتجنّى على المرأة. لماذا؟ أولا: الاستشراق منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن، لم يتطور. الذي تغير فيه، أنه تحول إلى فيديو، وفيلم وأغنية وموضة، وفوتوغراف وبوستر سياحي، لكنه لم يتغير. على الرغم من أنه تجاوز أسوار الجامعة والأكاديميا، ووزارة الخارجية، وتعددت أهدافه، وتشعب حضوره.
أما لماذا اختار الاستشراق أن يصوغ هذه النظرة نحو المرأة العربية والمسلمة، فلأن النظرية الغربية للمرأة الغربية في القرن التاسع عشر كانت كذلك، وبالتالي وصل الغربيون إلى منطقتنا قادمين من حضارات أبوية ومعادية للمرأة. مثلا اليوم هناك في الطرح الغربي، خصوصا النسائي منه، حملة كبيرة على عمليات الختان. ونحن نعرف أنه في القرن التاسع عشر في إنكلترا وأميركا كانت تتم عمليات الختان على مستوى واسع، وأيّ امرأة متحررة قليلا ولديها ميل لأن تكون حرة، أو أن ترفض الدور الصغير المعطى لها كانت تجرى لها عملية ختان، هذا كان يحدث في إنكلترا حتى نهاية القرن التاسع عشر، والدكتور كوشنغ، وضع مؤلفات عديدة حول الطريقة الوحيدة ليضبطوا النساء.
كان هذا الطرح عاديا، وعندما كتب المستشرقون، امتدحوا الطرق التي كان يتّبعها الشرق في ضبط النساء، واعتبروها أفضل من طرقهم، وبالتالي جرى تثبيت هذا الشيء.
أيضا كان هناك سبب آخر وهو أن الرجل الغربي لم يكن قادرا على التحرر وتحرير نسائه، لذلك أوجد مشروعية لقوله إن الغربيين يعاملون نسائهم بأفضل مما يعاملها الشرقيون في الشرق، وبالتالي بالغ في وصف إجرامية الشرق.
الجديد: لو انتقلنا إلى شخصية المثقفة العربي وموقفه من المرأة.. نحن طالما وُوجهنا بحالات تعبر عن ازدواجية صارخة، وكأن ثقافة المثقف هي طموح يقمعه سلوكه الاجتماعي، كلما جرب أن يتغير عبر الفكر؟
رنا قباني: أنا كفرد لديّ أزمة كبيرة مع المثقف العربي، وربما لأنني من عائلة أخرجت شاعرا عربيا كبيرا هو نزار قباني، ولأن ظروف حياتي جعلتني أحتكّ كثيرا بكتّاب وشعراء عرب، الحقيقة، أحس أنهم ضعفاء وهشون في موقفهم من المرأة. الكاتب العربي رجل وليس إنسانا. بصراحة وما دام الكاتب العربي لم يفلح في أن يكون أكثر من رجل، فإن هذا يبدو سببا من بين أسباب تجعلني غير معنية بكتابته عمليا. مثلا عندما يكتب نزار قصيدة عن المرأة اليوم تبدو ساذجة بالنسبة إليّ، إنها تمثل شيئا لا يهمني أو يمسني. تمثل مراهقا في سنة 1920 في دمشق.
الجديد: هل ينسحب توصيفك مثلا على شاعر كبدر شاكر السياب؟
رنا قباني: بدر شاكر السياب هو من بين كل شعراء العرب الحديثين، يبدو الوحيد الإنسان، وأسباب ذلك كثيرة في حياته.
أولا الفقر والمرض اللذان عاشهما، ثم لكونه كان يتيما بلا أم، وهذا أثّر في شخصيته، وفي موقعه من المرأة كثيرا. خذ لؤي كيالي، مثلا، من بين الرسامين العرب، حياته تشبه في مأساويتها مأساوية حياة السياب. وهو استطاع أن يخرج من صيغته كرجل، ونحن نجد ذلك في قلقه الوجودي ثم ألوانه وموضوعاته، وجملة معالجاته الفنية.
الجديد: وأنسي الحاج، أما تعتقدين أن شعره يتيح لنا قراءة تستدرك المعنى الذي تقصدين؟
رنا قباني: أنسي، كما أتصور، ظل أسير قالب رومنطيقي، لكنه غير مؤذ في موقفه من المرأة. أهميته أن لديه القدرة على أن يقول الحقيقة، أن هناك فجوة كبيرة بين تجربة الرجل العربي، وبين تعبيره.
الجديد: كيف تنظرين من الزاوية نفسها إلى محمود درويش في شعره، ولعل أن لا يكون هذا السؤال محرجا، لكونكما كنتما مرتبطين في زواج؟
رنا قباني: محمود شاعر لدية قدره على وصف تفاصيل علاقته بالمرأة، وهو ما يجعلها تحضر. شاعر حساس. لكنه لم يتطور كرجل، ربما هو أبويّ النزعة.
وبكل محبة أقول إن محمود ما يزال لم يكتب العمل العظيم الكامن داخله.
عندما يستطيع أن يصف تجربته الحقيقية كما هي، بتفاصيلها الجميلة والبشعة والمريرة، وبالصدمات التي شهدتها هذه التجربة، بشكل حقيقي وصريح، سوف يقدم عملا عظيما. أتذكر مثلا قصيدته «النهر غريب». قصيدة مؤثرة، تصف موت العلاقة بين الرجل والمرأة. استطاع أن يصف هذا الموت بشكل شفاف ودقيق.
أذكر حديثا في بيروت قبل نحو سبعة عشر عاما كنا إلياس خوري ومحمود وأنا في جلسة عشاء. وكان الحديث يدور حول الشاعر الفرنسي صاحب عيون إلزا. إلياس كان يقرأ أراجون، ويصف وصف أراجون لإلزا، وكان متأثرا جدا بهذا الوصف، فالتفت محمود نحوه، وقال ساخرا: ما هذا الشاعر الذي يجعل من امرأة موضوعا كليا له؟ كيف يمكن أن تكون المرأة موضوعا نهائيا للشاعر! قالها بعنف شديد، إلياس صدم. ونظر نحو محمود قائلا: إذا كنت لا ترى أن المرأة موضوع كبير بالنسبة إلى العالم، فأنت إذن مازلت لم تنضج كفنان، طبعا وقع صدام كبير بينهما… هذا الحديث كان مميزا.
الجديد: أراجون يعتقد أن المرأة هي مستقبل العالم. ربما هو يرى ذلك لأنها مقصاة من حاضر العالم !
رنا قباني: أنا أضيف على أراجون أن الرجل هو الماضي. لقد أصبح الماضي حقيقة. الرجل يمثل الحروب، ويمثل التفرقة العنصرية، يمثل الاستعمار، يمثل المجازر، يمثل بيع الأسلحة، يمثل البورنوغرافي، يمثل العنف، يمثل تدمير الكون والأرض. الرجل يمثل هذه الأشياء البشعة كلها وغيرها أيضا.
الجديد: إذا كانت المرأة هي المستقبل. والرجل هو الماضي، كم من المفارقات المأساوية سيكون هناك. إلى أن يعي الرجل «هذه الحقيقة» المقترحة لصورته.
رنا قباني: جيلي هو جيل بداية الأزمات الحقيقة. علاقة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل هي في أزمة كونية منذ نحو ربع قرن. الآن وصلت هذه الأزمة إلى مفترق. لماذا؟ حدثت تطورات كثيرة مكنت المرأة من السيطرة على أمرها. حبوب منع الحمل مثلا أتاحت للمرأة فرصة السيطرة على جسمها، بينما أتاح انخراط المرأة في العمل، على نحو واسع، فرصة للتحرر الاقتصادي، وبالتالي فُتح لها الباب واسعا للاستقلال عن الرجل، في وسعها أن تقول لا، ولم يكن هناك وقت سابق في التاريخ تستطيع المرأة فيه أن تقول لا.. ومن قبل، حتى النساء اللواتي كن ينتمين إلى أسر غنية، أو إلى عائلات حاكمة، كن يحبلن، كن مضطرات إلى ذلك. الآن النساء في وسعهن أن يحملن أو لا يحملن أو يتبنين طفلا، أو ينجبن طفلا من دون رجل. باتت هناك إمكانات كبيرة. لم يعد هناك فرق بايالوجي حاسم التأثير.
الشيء الآخر مادامت المرأة تحصل على معاشها من عملها، فهي تستطيع أن تترك البيت، أن تكون لها خيارات عديدة. سطوة الرجل على المرأة انتهت، فعليا انتهت. لكن ما تزال أمامنا مئة سنة حتى تتحلل هذه السطوة نهائيا. ولهذا في رأيي هناك أصولية في العالم اليوم. ما أراه أن هناك أصولية ليس بسبب الدين الإسلامي أو الدينين اليهودي والمسيحي، بل بسبب المرأة لأنه لم يعد هناك رادع للمرأة، فالمرأة كسرت كل العلب التي وضعت فيها والأصولية مثلها مثل الديناصور. وهو اليوم في هجمته الأخيرة قبل فنائه.
الجديد: ألا ترين أنه يمكن للمرأة والرجل معا في هذه البرهة التاريخية الخوض في حوار حول المستقبل، يعاد على أساس منه ترتيب طابع مختلف للعلاقة والمساكنة والعيش.
رنا قباني: الآن، لا. ليس هناك حوار الآن. لماذا؟ المرأة غير مضطرة للحوار مع الرجل. الرجل هو المضطر كثيرا للحوار معها. لكنها لن تحاور.
الجديد: مهما كانت مادة الحوار.
رنا قباني: ربما تحاور رجلا في التفاهات. أما الأشياء المهمة، فليس هناك حوار فيها، والسبب بسيط أن الرجل ملغى من مستقبل العالم. الرجل انقرض، واستعمل مفردة الرجل هنا، والرجل الذي يمكن أن يخلع عنه رجولته ويتحول إلى إنسان له استمراريّته في المستقبل.
مجلة الجديد اللندنية