رواية “العاصمة” لروبرت ميناسه.. هل يوشك الاتحاد الأوروبي على الانهيار؟
غامضاً يبدو عنوان رواية “العاصمة” لروبرت ميناسه. لكن ذلك الغموض سرعان ما سيزول مع قطع شوط كبير نسبياً في قراءة متنها؛ ليحل محله ربما الاستغراب، أو حتى الارتياب. فالمقصود هو عاصمة جديدة للاتحاد الأوروبي، في بولندا بالذات وفي مكان معسكرات الهولوكوست على وجه التحديد. فهدف ذلك الاتحاد، كان القطيعة مع العنصرية القومية التي تسببت في الهولوكوست، لكنه توارى على ما يبدو في ظل فشل ذريع لتخطي نزعات الاعتزاز القومي، وازدهار اليمين المتطرف الذي بات يناصب المسلمين بالذات العداء، ولا يُستبعد أن يعيد ممارسات اضطهاد اليهود أنفسهم مجدداً. هكذا يلح ميناسه على فكرة أنه لا بد من التذكير مجدداً بتلك المأساة الإنسانية ليكرر الأوروبيون التعهد بعدم تكرارها ويتذكروا أن ذلك هو السبيل لضمان استمرار اتحادهم.
في ثنايا العمل يبدو الأمر أشد تعقيداً. فالدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي تتآمر على بعضها البعض، وتتنافس على الاستئثار بالتجارة مع الصين مثلاً، ليتحول تكاملها الاقتصادي حبراً على ورق. فيما تتآمر الولايات المتحدة الأميركية عليها جميعاً وعلى فكرة اتحادها بالذات، وعلى الجانب الآخر، يقف الاتحاد الروسي متحفزاً، وربما يتآمر هو أيضاً من أجل تفريغ فكرة الاتحاد الأوروبي من مضمونها.
تدور غالبية أحداث العمل في بروكسيل، العاصمة الحالية للاتحاد الأوروبي، ومعظم شخصياتها هم من موظفي إدارات عدة تابعة لمفوضيته تتفاوت حظوظهم من القدرة على التأثير ليأتي موظفو الإدارة الثقافية بالذات في ذيل القائمة؛ بما أنها إدارة بلا موازانة ومن ثم ليس لها نشاط ملموس في واقع الأمر، ولذلك تُسند رئاستها عادة لممثل إحدى الدول الأوروبية قليلة النفوذ كاليونان، فيما تذهب المناصب المهمة لممثلي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. والأخيرة تخصص الرواية حيزاً من متنها لطرح إشكالية وجودها أصلاً ضمن ذلك الاتحاد، فضلا عن مأزق قرارها الخروج منه نهائيا.
وهكذا يمزج التمييز “الداخلي” الذي بات يسم سياسات ذلك الكيان الذي لطالما تمنى العرب أن يصلوا إلى ما وصل إليه، بين الديني والقومي، ليتأكد في النهاية أنه هو الذي فشل في التوافق مع فكرة الامتزاج، مع أنه لا يفتأ يوجه تلك التهمة إلى المهاجرين إليه، خصوصاً من العرب والمسلمين.
تقدم هذه الرواية سلسلة من الأشخاص الفاعلين الذين يتقابلون في متاهة المؤسسات الأوروبية في بروكسيل، إما مصادفة أو بعد ترتيب، فيعقدون تحالفات، أو يتحاربون ويحيكون المكائد لبعضهم البعض فهل أراد روبرت ميناسه بروايته “العاصمة” الفائزة بجائزة الكتاب الألماني لعام 2017 أن يحذر من أن تجربة الاتحاد الأوروبي تمضي بعد أكثر من نصف قرن على تبلورها إلى التلاشي من داخلها؛ بسبب فشل دول ذلك الاتحاد في تجاوز العنصرية، خصوصاً الدينية؟
يبدو أن ذلك هو ما أراده في تلك الرواية التي صدرت في القاهرة أخيراً بترجمة سمير جريس عن دار “آفاق”، علما أنه أنهاها بكلمة “يُتبع”؛ ما يعني أنه سيواصل ما بدأه في هذا العمل الضخم (566 صفحة) في رواية أخرى أو أكثر.
في هذه الرواية التي صدرت بالألمانية في عام 2017 عن دار “زور كامب” للنشر في برلين، “استهلال”، سبقه الاقتباس التالي عن فيكتور هوغو: “أن نحلم، فهي السعادة. أن ننتظر، فهي الحياة”. البناء الدائري للعمل يتضح من “استهلال” يتحدث عن “خنزير” شوهد وهو يركض وسط ميدان “سانت كاترين” في وسط العاصمة البلجيكية بروكسيل. وبحسب الراوي العليم، فإن أول من رآه هو ديفيد دو فريند، الذي سيتبين لاحقاً أنه الشاهد الوحيد الباقي على قيد الحياة من بين اليهود الذين خاضوا تجربة الاعتقال في معسكر أوشفيتز الرهيب.
ثم هناك “خاتمة” تسرد موت دو فريند في حادث إرهابي قبل أن يصل إليه أصحاب فكرة أن يكون هو بالذات بطل احتفال مقترح باليوبيل الذهبي للمفوضية الأوروبية. وفي تلك الأثناء تقرر إدارة صحيفة محلية وقف استطلاع للرأي كان يطلب من القراء إطلاق اسم على ذلك “الخنزير” الذي ثار جدلٌ إعلامي واسع بشأنه، إذ “حدث شيء لا يصدق. تكرر اسمٌ مئات المرات وحصل على آلاف “اللايكات”، وبهذا احتل قائمة الترتيب: محمد. لا يمكن أن تكون سوى حملة منظمة. عندما لاحظت هيئةُ التحرير ذلك، أغلقت الصفحة. أعلن عددٌ من المحكمين خروجهم من لجنة التحكيم، وأعلنوا أنهم لا يريدون المشاركة في حملة تصبح في النهاية فعلا عدوانيا موجها إلى المسلمين، شركائنا في الوطن” (ص 563)
ثم يتوجه رئيس التحرير بعد فترة وجيزة إلى مساعده بالقول: “هل لفت انتباهك أنه لم تعد تصلنا منذ أسبوعين صورٌ جديدة للخنزير؟ ولا أي خبر بأن أحداً رآه في مكان ما. لقد اختفى. اختفى من دون أن يترك أثراً”. ص564.
تجدر الإشارة إلى أن ميناسه (1954) متفرغ منذ العام 1988 للكتابة الأدبية وكتابة المقالات في النقد الثقافي، وهو سبق أن تساءل في مقالة له عما إذا كانت المفوضية الأوروبية صالحة لكتابة رواية، وأجاب عن ذلك السؤال بروايته “العاصمة” التي استغرق سنوات عدة في كتابتها وغزت فور صدورها قوائم الأكثر مبيعاً، وأحدثت نقاشاً حيوياً في المنطقة الناطقة بالألمانية، علما أنها تزاوج بين الرواية البوليسية والرواية الاجتماعية ذات الأبعاد الثقافية والسياسية الواضحة، ما يجعلها كذلك رواية أفكار.
صحيفة الحياة