رواية تمزج تقاليد الأدب الروسي بالحداثة الفرنسية

تتميز تجربة الكاتب جايتو جازدانوف «1903 – 1971» بسمات وخصائص عدة فريدة من نوعها، فهي تمزج تقاليد الأدب الروسي العريقة بالحداثة الفرنسية، وتُعدُّ مثالاً رائعاً على كتابات ما يُعرف بجيل «الأدباء المهاجرين من روسيا» إلى الغرب، والتي تكشف عن عوالم جديدة وتمزج بين خبرات وثقافات متباينة.
وتُعدُّ روايته «أمسية عند كلير» الصادرة في طبعة جديدة عن دار «الكرمة» بالقاهرة، ترجمة هفال يوسف، نموذجاً معبراً عن تلك السمات رغم أنها العمل الأول للكاتب الروسي الذي هاجر من روسيا مبكراً بعد أن شارك في معركة عسكرية خاسرة في الحرب الأهلية ببلاده، ثم استقر به المقام في فرنسا.
تتحدث الرواية عن صبي اسمه «نيكولاي»، يشبه المؤلف في تجربته الحياتية، كان في السادسة عشرة من عمره عندما انضم إلى «الجيش الأبيض» في الحرب الأهلية الروسية؛ ما اضطره لاحقاً إلى الفرار من بلده عندما هُزم الجيش، وبعد فترة من التشرد والتجوال، يصل إلى باريس، حيث يلتقي الفرنسية الفاتنة «كلير» التي كان قد أغرم بها منذ 10 في بطرسبورغ ما قبل الثورة.
يزور نيكولاي كلير كل مساء؛ آملاً أن تبادله المشاعر، وكل حديث بينهما يذكّره بطفولته ووالديه وأصدقائه والحرب الأهلية، ويغمره بالشوق إلى البراءة التي فُقدت إلى الأبد في بلد لم يعد موجوداً.
«أمسية عند كلير» هي أول رواية نشرها جازدانوف وأصبحت إحدى روائع أدب المهاجرين الروس، والسبب في ذيوع صيته بصفته أحد أهم الأدباء، وقد شبهه كثير من النقاد بكل من بروست وكافكا ودوستوفيسكي معاً.
ولد جازدانوف عام 1903، وفي السادسة عشرة من عمره قطع دراسته ليلتحق بالجيش الأبيض المناهض للشيوعيين وحارب في صفوفه حتى خروج هذا الجيش من القرم 1920. انخرط فيما بعد في طريق الهجرة الروسية التقليدية إلى تركيا ثم بلغاريا، حيث أنهى دراسته الثانوية، وأخيراً استقر في باريس 1923.
في العاصمة الفرنسية، تنقل بين أعمال متعددة حسب الظروف فعمل حمَّالاً ومنظف عربات القطار، وميكانيكياً في مصنع «ستروين» للسيارات، ومدرس لغة فرنسية ولغة روسية، ومتسكعاً، كما عمل سائق سيارة أجرة ليلياً أكثر من خمس وعشرين سنة، وقد سمح له عمله الليلي بمتابعة دراسات عليا في السوربون فدرس تاريخ الأدب والألسن وعلم الاجتماع.
كتب أولى قصصه «فندق المستقبل» في القسطنطينية 1922 ونشرها 1926 في مجلة أدبية في براغ، ومنذ ذلك الحين نشر المقالات الصحافية والأدبية بشكل مستمر في أهم مجلات الاغتراب الروسي. أصدر أول رواية له «أمسية عند كلير» 1929 ونالت استحساناً كبيراً. نشر 9 روايات، منها «عودة البوذا» و«دروب ليلية» و«طيف ألكسندر وولف» ولُقّب بـ«ألبير كامو الروسي» لتأثر كتاباته بالفلسفة الوجودية.
انتقل للعيش في ميونيخ ابتداءً من 1953، حيث عمل في «راديو ليبرتي»، وبقي في هذه المدينة حتى وفاته جراء سرطان في الرئة 1971. تعرضت أعماله للإهمال بعد وفاته وأعيد اكتشافها في تسعينات القرن الماضي فتربعت على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في بلدان أوروبية عدة.
ومن أجواء الرواية نقرأ:
«كلير كانت مريضة، كنت أمكث عندها مساءات كاملة وعند مغادرتي يفوتني كل مرة قطار الأنفاق الأخير، فأعود سيراً على الأقدام من شارع رينوار إلى ساحة سان ميشيل التي كنت أقيم على مقربة منها. أمرُّ من أمام إسطبل المدرسة الحربية وتُسمع من هناك صلصلة السلاسل التي تربط الخيول وتفوح رائحة عرق الخيل النفاذة الغريبة تماماً بالنسبة إلى باريس. في المساء أنطلق من جديد إلى منزل كلير، لقد سافر زوجها قبل بضعة أشهر إلى سيلان وكنت وإياها وحدنا لا يقطع خلوتنا أحد غير خادمتها عندما تحضر الشاي والبسكويت على صينية خشبية عليها صورة رجل صيني نحيل مرسومة بخطوط دقيقة، هي امرأة في الخامسة والأربعين من العمر تقريباً تضع نظارة أنفية؛ ولذلك لم تكن تشبه خادمة.
كانت دائماً مستغرقة في التفكير في شيء ما، فتنسى إحضار ملقط السكر تارة والسكر تارة، وتارة تنسى إحضار صحن أو ملعقة، فتدخل وتسأل إن كان يلزم (المدام) شيء. وكلير المتأكدة، لسبب ما، من أن خادمتها ستشعر بالإساءة إن هي لم تطلب شيئاً، تقول أجل أحضري الحاكي والأسطوانات من مكتب (المسيو) من فضلك، مع أن الحاكي لم يكن له لزوم مطلقاً، وبعد خروج الخادمة يبقى حيث وضعته وتنساه كلير فوراً».
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية