روفينو.. أو قصة العبودية في الكاريبي
في الوقت الذي تتوافر فيه مؤلفات وأبحاث عديدة عن الإسلام وتجارة البشر السود البشرة «العبيد» في شرق أفريقيا، فإننا بالكاد نعثر على مثيلاتها عن غرب أفريقيا، وعن علاقتهما بأميركا اللاتينية. «قصة روفينو: العبودية والحرية والإسلام في الكاريبي» (منشورات جامعة أوكسفورد ـــ 2020) يسمح لنا بإلقاء نظرة على تلك الجوانب والعلاقات بينها، إضافة إلى تاريخ تلك التجارة غير الإنسانية ودور «العبيد» المحررين فيها وفي تنميتها وليس القضاء عليها، متذكرين أن الإسلام يشجع على تحريرهم، لكنه لا يحرم امتلاكهم وامتلاك الرقيق من الجنسين، وهو «تقليد» ما زال قائماً في دول عربية، وفي مقدمتها موريتانيا. وقد سبق لنا عرض مؤلف أجنبي عن ذلك. وكيف ننسى دور التنظيمات الإرهابية في استعباد البشر، وفي مقدمتها قطعان الإرهابي المنتحر إبراهيم البدري، وكذلك عصابات بوكو حرام في غرب أفريقيا التي تحولت إلى بوكو حريم لكثر ما تستعبد الفتيات والنساء!
يورد الكتاب أنّ التاريخ المكتوب للأفارقة في البرازيل خلال أوقات العبودية، يعتمد إلى حد كبير على سجلات الشرطة، والشخصية المركزية هنا ليست استثناءً. ففي 2 أيلول (سبتمبر) عام 1853، ألقت الشرطة القبض على روفينو خوسيه ماريا في منزله، بعدما صار وقتها رجلاً حراً من دولة «ناجو» العرقية، حيث تم ترحيل الأفارقة الناطقين باليوروبا إلى البرازيل، والذين يعيشون حالياً في جنوب غرب نيجيريا والجزء الشرقي من جمهورية بنين المجاورة. تاريخياً، قاد روفينو في «ناجو» (المسلمين المعروفين بماليس) ثورة «العبيد» الشهيرة في كانون الثاني (يناير) عام 1835، وربما شاركوا أيضاً في الانتفاضات السابقة بين عامي 1807 و1835 التي بلغ عددها نحو ثلاثين. روفينو هذا كان مسلماً، واسمه الأصلي أبونكر (يظن مؤلفو الكتاب أنه مشتق من الاسم عبد الكريم).
يلفت مؤلفو الكتاب إلى أن المعلومات المباشرة عن روفينو، ليست متكاملة كما هي الحال على نحو عام مع السير الذاتية لأشخاص في موقعه الاجتماعي. والكتَّاب قالوا إن شخصيته كثيراً ما كانت تتسلل من بين أيديهم، مع أنهم غالباً ما كانوا يقتربون منه إلى درجة رؤية ظله في زاوية من الأرشيف، لكنهم صادفوا شخصيات أخرى بدت كأنها تريد أن تسرق الأضواء من الأفريقي. كثير منهم كانوا من أصحاب الثروة والسلطة من مالكي «العبيد» وتجار «العبيد» والزعماء والمسؤولين والصحافيين. لذلك، فإن هذا المؤلف يروي أيضاً قصصهم، خاصةً عن الأفراد المتورطين في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي خلال الفترة التي كانت فيها غير قانونية بالفعل. هذه المقاربة مكّنت من فهم ظروف روفينو وخبراته من خلال الأشخاص الذين عبروا طريقه، ومن ثم إعادة بناء العالم المضطرب الذي عاش فيه وسافر، والذي ساعد في إنشائه في أركان عديدة من المحيط الأطلسي.
يحكي المؤلف قصة روفينو أو أبونكير الذي استعبدته في سن المراهقة مجموعة عرقية منافسة، ثم وقع في أيدي تجار الرقيق البرازيليين الذين أخذوه إلى بلادهم «عبداً» في وقت ما في أوائل عشرينيات القرن الثامن عشر. لاحقاً، تمكن روفينو من ابتياع حريته بالمال الذي كسبه «عبداً» مستأجراً، وربما أيضاً من صنع التمائم الإسلامية، ثم وجد عملاً في ريو دي جينيرو طاهياً على متن سفينة «عبيد» متجهة إلى لواندا في أنغولا، مع أن تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي كانت غير قانونية في البرازيل منذ عام 1831. روفينو هذا استحال تاجراً صغيراً «للعبيد»، وقام ببعض الرحلات قبل أن يستولي البريطانيون على سفينته ويقتادوها إلى سيراليون في عام 1841 لمحاكمتها أمام اللجنة الأنغلو-برازيلية المختلطة لتحديد إذا ما كانت مجهزة لتجارة الرقيق. وخلال الأشهر الثلاثة التي فصلته عن قرار المحكمة، عاش روفينو بين مسلمي اليوروبا وشعبه، وحضر دروساً في القرآن الكريم واللغة العربية، ثم عاد إلى سيراليون شاهداً في قضية أمام المحكمة، وحضر دروساً مع سادة مسلمين لمدة عامين تقريباً. فور عودته إلى البرازيل، أسّس نفسه زعيماً روحياً يخدم البيض والسود، والأحرار و«العبيد»، والبرازيليين والأفارقة، والمسلمين وغير المسلمين.
مع أن تجارة البشر عبر الأطلسي كانت في المقام الأول عملاً قام بها رجال برازيليون وبرتغاليون بيض (وفي أوقات مختلفة أيضاً من قبل البريطانيين والأميركيين والجامايكيين والإسبان والكوبيين والفرنسيين من بين آخرين)، كان الكريول، أي المنحدرين من زواج مختلط بين البشر السود والبيض أو الآسيويين، وكذلك البشر السود الأفارقة من خلفيات مختلفة، يشاركون فيها أيضاً على جانبي المحيط الأطلسي. وبالمثل، إذا كان البيض هم الأكثر استعباداً، فإن الأفارقة وأحفادهم امتلكوا «العبيد» أيضاً، ليس فقط في أفريقيا، بل في العالم الجديد أيضاً. الذين لم يكونوا مطلعين على تاريخ الرق وتجارة الرقيق، فإن هذا الجانب ليس أكثر إثارة للدهشة فحسب، بل حتى يصعب قبوله من وجهة النظر المعنوية والأخلاقية؛ بل إنه مؤلم حقاً.
هذا ليس مؤلفاً أنموذجياً عن العبودية الأفريقية، لكن يمكن عدّه إلى حدّ كبير تاريخاً لتجارة الرقيق واقتصادها وتنظيمها واستراتيجياتها التجارية ومراكزها التجارية والسفن المستخدمة والشخصيات المختلفة المعنية وفظائعها وحملات قمعها عندما انخرط الرجل الأفريقي الحر في التجارة السيئة. هذا المؤلف أكثر من سيرة رجل واحد، إذ إنه تاريخ اجتماعي لتجارة الرقيق والرق في حوض المحيط الأطلسي، يسترشد بتجارب روفينو خوسيه ماريا.
قصة روفينو هي في كثير من النواحي استثنائية، لكن نضالاته وإنجازاته كأفريقي ومسلم تضيء على نحو حيوي العوالم العديدة التي سكنها خلال العقود الآتية من تجارة ما زالت بصمتها المأساوية ظاهرة على جانبي المحيط الأطلسي.
صحيفة الأخبار اللبنانية