زكريا محمد: الشعر لغة اليأس
باريس | هو الصبي الذي لا يزال مندفعاً حتى الآن، وهو الحكيم الذي لا يريد أن يُحسب مع الحكماء «لأنهم سهام توقفت لتنظر خلفها». درس الأدب العربي في «جامعة بغداد» في العراق (1975).
بعدها، انتقل إلى بيروت، محملاً بتجارب يوسف الصائغ (1933) وسعدي يوسف (1934) واقتراحات فنية وأفكار صادمة وجديدة؛ أخرجت مجايليه من زملائه الشعراء ــ كغسان زقطان وأمجد ناصر الموجودين في بيروت وقتها ــ من محليتهم لتطلعهم على تجارب واقتراحات فنية جديدة أثَّرت في تجربتهم الأدبية. مجموعته الأولى خرجت تحت عنوان «قصائد أخيرة» (1981)، لكن الشاعر لم يسكت بعدها. إلى جانب الشعر، اشتبك مع الرواية والمسرح وأدب الأطفال والميثولوجيا والتاريخ. صاحب «أشغال يدوية» (1990) و«أحجار البهت» (2008) ورواية «العين المعتمة» (1996) و«نخلة طيء؛ كشف لغز الفلسطينيين القدماء» (2003) و«عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية» (2009)، يصدر كتباً ويرفعها على الشبكة العنكبوتية ليقدمها للقراء والمهتمين، هكذا مجاناً ببلاش، يكتب بجد وغزارة وهدوء، ولا يطالب بـ«بأي قطعة من الكعكة الأدبية»، فحصته قد تخلى عنها، مكتفياً بوضع «قدمه الحافية على الصخرة، ويسير» مبتعداً قدر الإمكان عن الأضواء.
بالرغم من إنتاجه الغزير، لم يترجم بعد مثلاً، في وقت تتهافت فيه الترجمات على كتاب سُلطات وأيديولوجيات وبزنس وعلاقات عامة، هو يَعتبرُ الكتابة عملاً تطوعياً، وتقريراً عن حياة وتصورات عليه أن يرفعه. تقرير يحاول أن ينجزه ويصلي للطبيعة أن تمنحه وقتاً كافياً. قابلناه في تموز (يوليو) الماضي في باريس؛ حين حضر ليقرأ شعره في «بيت الشعر الفرنسي» الذي امتلأت قاعته عن آخرها. بعد الأمسية، وقف خارج القاعة يوزع كتبه بيديه على أصدقائه ومحبيه، هو الشاعر الذي يشبه قصيدته ويتماهى معها إلى حد بعيد، النبيل في إخلاقه وصدقه وعطائه ومسيرته الهامة على الساحتين الأدبية والفكرية الفلسطينية والعربية. هنا مقابلة مع الشاعر الفلسطيني زكريا محمد (نابلس ـ 1951)
■ في المجموعتين الأخيرتين «كشتبان» (دار الناشر ـ 2014) و«علندى» (دار الناشر ـ 2016) جاءت النصوص كلها بدون عناوين، لماذا؟
في «علندى» أنا أتكلم، أو بشكل أدق أستأنف كلاماً. كل مقطوعة استئناف لكلام قيل في ما سبقها. لهذا السبب، ربما تخلت هذه المقطوعات عن الأسماء. أنت تسمي المقطوعة أو القصيدة حين تكون كياناً منفصلاً قائماً بذاته. الاسم يفرضه انقطاعها عما قبلها وما بعدها. مقطوعاتي في «كشتبان» و«علندى» ليست كذلك. كل مقطوعة استئناف للحديث ذاته. ولأنني أتكلم بشكل ما، فهناك مستمعون مفترضون. لذا، فالمقطوعات تقول: خبروني، قولوا لي، أعطوني، سأعطيكم. بل إنها تقول: واسمعوا الخبرية. وفي هذا تشابه ما مع التقليد الشعري العربي القديم، تقليد «يا صاحبيّ» أو «يا صاحبي رحلي». ليست هناك رحلة في مقطوعاتي بالطبع، لكن هناك كلام وحوار. أنا لا أنشد لهم، بل أصل إلى النشيد معهم.
في هاتين المجموعتين، اختلفت قصيدتي، أو مقطوعتي. لم تعد كما كانت في السابق. كانت قبلاً تبدأ من نقطة محددة، ثم تصعد إلى أن تصل إلى نقطة محددة، حيث تفجر نفسها. أي أنها كانت تبني نفسها تصاعدياً. كانت أشبه بمنحوتة تلتمّ على ذاتها حين تكون ناجحة. أي كانت في الحقيقة شكلاً متماسكاً منسجماً، أو هكذا أرادت أن تكون. هذا انتهى تقريباً في «كشتبان»، ثم بلغ التغيير ذروته في «علندى». القصيدة ــ المقطوعة لم تعد تبدأ من نقطة واحدة فقط، بل من نقاط عدة، يعاكس بعضها بعضاً، وينقض بعضها بعضاً. تبدأ بالشيء وضده. هي لا تتوقف في نقطة محددة. وحين تتوقف، فتوقفها طارئ في الحقيقة. تتوقف لأن الليل قد حل فقط. وهي تتوقف كي تسيل من جديد، وكي تستأنف ذاتها في المقطوعة التي تليها. لذا، فـ«علندى» عملياً «نشيد» واحد. أسماء القصائد غابت فيه لأن القصيدة بشكلها القديم غابت. استُبدلت العناوين باستراحات تنفسية فقط. لهذا حين قرأت مرة ــ مرة واحدة فقط ــ من «كشتبان»، لم أكن أعرف ماذا أفعل من دون العناوين. كنت أصمت قليلاً ثم أبدأ بالقطعة التالية. أسكت لحظة ثم أبدأ بالتي بعدها. كان التقطيع خارجياً لا داخلياً. لا حاجة إلى العناوين لأن الغناء لا يتوقف في الحقيقة. إيغال الليل فقط كان هو ما يفرض على حكواتي عنترة أو الزير سالم أن يتوقف. هو لا يتوقف لأن هناك فصلاً جديداً بعنوان جديد، بل يتوقف لأن وقت النوم قد حان. هل نسمي هذا نثراً وسرداً؟ لست أدري.
على أي حال، مقطوعتي التي تضارب على بعضها، تحاول أن تلمّ نفسها في السطر الأخير، أو في السطور الأخيرة، بشكل ما. السطر الأخير يوحي بأنه حل التعارض، أو ربما أخفاه بشكل أدق. التضارب داخل القصيدة يولد إحساساً ما يجعلني راضياً حين تكون القطعة ناجحة. وهذا يعني أن التضارب لا يخلّ بالقطعة، بل يقيها من الجمود، ويفتح لقارئها طاقات ما.
■ إذاً، ماذا تسمّي ما تكتبه؟ قصيدة نثر أم ماذا؟
لست خبيراً بالأشكال الشعرية. بالطبع، أنا أكتب كلاماً غير موزون، وأستخدم السرد، لكنني لا أعرف إن كان ما أكتبه قصيدة نثر. لكن حين أكتب، لا أحاول أن أكتب شيئاً اسمه «قصيدة نثر»، أو هذا ما أظنه على الأقل. من ناحية ثانية، فمقطوعتي تحاول أن تكون أغنية. تبدأ كما لو أنها سرد، لكن هدفها هو الأغنية. كيف يمكن الغناء من دون وزن؟ لست أدري. لكنني أحاول أن أصل إلى الغناء. مقطوعتي تملك إيقاعاً كذلك، وهي تتقصده. هي بلا وزن لكنها موقعة بشكل ما.
مقطوعتي أيضاً لا تنتمي إلى شعر التذاكي، أو شعر المفارقة، شعر النهفات. ليس هناك ذكاء ولا تذاكٍ في ما أكتب. أعاقب نفسي بشدة حين أحس أنني تذاكيت. أضع قدمي الحافية على الصخرة وأسير. وأحاول أن أجمع بين البساطة والعمق. هذا هي المعادلة التي أحاولها.
من ناحية أخرى، تحولت مسألة قصيدة النثر إلى معسكرات ايديولوجية. وقد كان هذا مفهوماً قبل ثلاثة أو أربعة عقود، حين كانت تكافح كي تثبت وجودها. أما الآن، فلا حاجة إليه. الغالبية الساحقة تكتب نثراً الآن. قصيدة الشطرين انتهت تقريباً. قصيدة التفعيلة ظل لها جيوب صغيرة هنا وهناك، أي أن النثر انتصر. لذا، يجب تفكيك المعسكرات، وإلا صار أمرنا مثل حلف الناتو. فقد انتهى حلف وارسو، وانتهت حتى الأحلاف السياسية مثل حركة عدم الانحياز وغيرها، لكن الناتو لم يفكك نفسه. كأنه سيظل حلفاً أبدياً. حين يتساقط أعداؤك صرعى، يجب أن تخلع بدلتك العسكرية، وأن تعلق بندقيتك على الجدار. لا معنى الآن لرفع لواء قصيدة النثر بعدما استولت على الشارع والرصيف والساحة. لا معنى للمواجهة حولها، فلم يعد لها أخصام.
■هل تنظر إلى الكتابة كفعل تغيير أم كمبرر للوجود، أم غيرهما؟
تكون دوافع الكتابة في بداية حياة المرء الأدبية مباشرة: التقدير، الحب، الشهرة، إضافة إلى متعة اللعب باللغة طبعاً. لكن الدوافع تتغير بعد ذلك، أو تضاف إليها دوافع أخرى. في مرحلة ما، كان تغيير العالم ضمن دوافعي للكتابة الشعرية. ولم أكن وحدي في هذا. كان جيلي بأكمله يربط بين التغيير والشعر. لكننا كنا ندرك، وإن بغموض، أنه يصعب على الشعر تغيير العالم. يمكن أن يسهم في تغيير بعض الأرواح، لكن ليس أكثر من هذا. مع تقدم العمر، صارت المسألة أشد تعقيداً وغموضاً. يكاد المرء أن لا يدرك بدقة لماذا يكتب الشعر. بالطبع، الدوافع القديمة المباشرة تظل موجودة بشكل ما، لكن دوافع أعمق وأكثر غموضاً تبعدها إلى الخلف. لم أكتب الآن؟ لست أدري بالضبط. أكتب كي أصل إلى الشكل، إلى متعة الأشكال. أكتب كي أثير ظلالاً ومعاني. وربما أكتب أيضاً لأنه حان الوقت كي أقدم تقريراً عن جهودي وعن حياتي. فلا بد للشاعر من أن يقدم تقريراً لأحد ما في نهاية الأمر. كازنتزاكي اليوناني رفع تقريره إلى غريكو (تقرير إلى غريكو)، الذي ربما هو روح اليونان. وربما كان درويش، يفكر في أنه يكتب تقريراً لفلسطين. فقد كان يكتب على مرأى من «نشيد الإنشاد»، كما قال مرة. أي أنه كان يحاول كتابة نشيد إنشاد مضاد. أما أنا، فأظن أنني أرفع تقريري إلى الله. مخطوطة «علندى» كانت جزءاً من التقرير الذي وضعته، وسأضع ما تبقى منه لاحقاً، بين يدي الله. وضعته على الطاولة، وقلت: «هذا هو يا رب. هذا ما استعطت أن أفعله. أينفع ذلك؟».
بشكل ما، حل الله محل البشر. أو قل دُفع الناس إلى الوراء قليلاً، وتقدم الله. بالطبع أنا هنا لا أتحدث عن الإيمان. الإيمان خارج الموضوع هنا. أنا أتحدث عن اللغة والكتابة. الكتاب الأول في العربية (القرآن) كتاب من صنع الله. اللغة من صنع الله، كما يخبروننا. الله صانع أمهر. بالطبع ليس الله وحده هنا. في اللغة، يوجد امرؤ القيس أيضاً. امرؤ القيس صانع أمهر كذلك. وأنا أحياناً أكتب لامرئ القيس ذاته. الله وامرؤ القيس معاً. اللغة والشعر معاً.
على كل حال، لا يمكن الجزم نهائياً بدوافع الكتابة عند الكهولة. يمكن الجزم بشأن الأهداف الواعية. لكنّ هناك أهدافاً من خلف الوعي. ومن المحتمل أنك تكتب لأن على العجلة أن تتدحرج فقط. الناس دوماً موجودون عند الكتابة. لكن بأي درجة؟ هذا هو السؤال. مثلاً: لمن كانت إميلي ديكنسون تكتب حين كانت تربط البطاقات الصغيرة التي تكتب عليها، وتضعها في الجارور؟ أكانت تكتب لوالدها؟ لصديقين أو ثلاثة؟ لله؟ للمتعة؟ لهوميروس؟ الأمور غامضة.
■ وضعت مجموعة من الأعمال والدراسات المتعلقة بميثولوجيا المنطقة العربية، غرفَ شعرك من مواضيعها، وخلافاً لشعراء كثر استخدموا الميثولوجيا بشكل كلاسيكي في شعرهم، اشتبكت الميثولوجيا في نصوصك مع الواقع واللغة البسيطة، هل كان مرد ذلك كونك باحثاً مختصاً أم مجرد تجاوز فني عن شعراء وظفوا الأسطورة في أعمالهم؟
ما كتبته من شعر أخيراً يغرق في الميثولوجيا. لديّ سلسلة من الرموز التي انبثقت تلقائياً: التلة، الصخرة، النخلة، الغراب، التيس الجبلي، الطائر، جبل القرنطل، اليمامة، انقلاب الفصول. وهي سلسلة مترابطة. هذه الرموز على علاقة وطيدة جداً بهوسي بالميثولوجيا والأديان القديمة. من هناك منبعها. هذا الهوس هو ما خلق لي «كشتبان» و«علندى»، بشكل ما. ولعل الفضل يعود له أيضاً بشأن ما ورد فيهما من اقتراحات فنية. على السطح، لا تبدو لقصائدي علاقة بالميثولوجيا. فهي لا تردد أسماء أساطير. ذلك أنني لا «أوظف» الأسطورة في عملي الشعري. الأسطورة جزء مني ومن شعري. لقد هضمنا أنا وشعري الأسطورة العربية معاً. هضمناها وأفرزناها كرموز. «توظيف» الأسطورة في الشعر تعبير يشير إلى غربة الشاعر عن موضوعه الأسطوري. هو يستعيره، ويدخله في قصيدته. الأمر ليس هكذا عندي. لا فاصل لديّ في مجموعتَيّ الأخيرتين بين الشعر والأسطورة. هما يسيران معاً كأنهما شيء واحد. الغراب والتيس الجبلي والنخلة عندي ليست مخلوقات واقعية، بل مخلوقات ميثولوجية أيضاً. جئت بها من كهوف الأساطير. هكذا كان الأمر في الشعر اليوناني القديم. وهكذا كان أيضاً في الشعر العربي القديم، وعلى الأخص الجاهلي، والأموي إلى حد ما. هناك العشرات من الأساطير لم نعرف عنها إلا من خلال الشعر. وفي العصر الأموي، كان شعر الرجز موطن الأساطير. العجاج وابنه رؤبه نهر أساطير. كتاب الأساطير العربية كتاب هائل الحجم. لكن مفهومنا القاصر عن الأساطير، صوّر لنا أنه لا توجد عند العرب أساطير. هذا كان الرأي السائد حتى فترة قريبة.
على أي حال، فإن المشكلة تتمثل في أن وعي الرمز يفقده قيمته. يكون الرمز قوة دافعة حين لا تعي أنه رمز. وعند وعيه، يفقد طاقته. يصبح عبئاً على القصيدة. لكن هناك لحظة ما تقع بين إدراكك بأنك عثرت على رمز، وبين سبر أعماق هذا الرمز. إنها مثل لحظة عثورك على بئر وأنت في سفر. تضع رأسك في خرزة البئر وتنظر في عتمته. تدرك أن هناك ماء، لكنك لا ترى الماء. في هذه اللحظة، يمكن العمل على الرمز بقصدية. يمكن استخدامه. وهي لحظة لا تطول. لذا فحين أقول لك إنّ الغراب والنخلة والتيس الجبلي رموز، فهذا يعني أنني بدأت أعي هذه الرموز، التي انبثقت تلقائياً في البدء. وحين أعيها تماماً، فإن هذا يضعها على حافة الموت. أي أنها تصبح عبئاً عليّ وعلى مقطوعتي.
■ شعر زكريا محمد على علاقة وطيدة بالطبيعة، هل الطبيعة في شعرك بمثابة عزاء لإخفاقات البشر، أم رثاء لها؟
مرة قرأت في أمسية شعرية في عمان منتصف التسعينيات. حين انتهيت، وقف أحدهم، وصاح قائلاً: «هيي يا زكريا، لقد نسيت القرد». وكان يقصد أن ما قرأته مليء بالحيوانات، وأن القرد هو من أفلت مني فقط. وفي تلك اللحظة، انتبهت إلى هذه الحقيقة. لم أكن مدركاً لحقيقة أن الحيوانات تتجول في قصائدي. لم أكن أدرك أنها رموزي. لم أكن أدرك أنني كنت «شاماناً» أرقص بأقنعة حيوانية. جرى تصعيد هذا في أعمالي الأخيرة. الطبيعة كلها الآن صارت تتجول في قصائدي. لا كرمز بل كحقيقة. أنا أجول فيها، وهي تجول في قصيدتي. وبشكل ما، فأعمالي الأخيرة مرثية للطبيعة. الطبيعة عندنا تنتهك وتدمر. وهذا يجرح قلبي. أحاول البحث عن قطعة من الطبيعة لم تلوث، وبالكاد أجد. الطبيعة في خطر عظيم. غطتها علب الكولا، وأكياس البلاستيك. لذلك، تحاول قصيدتي أن تستعيد طبيعة الطفولة. أيام كانت الطبيعة طبيعة. بذا، فالطبيعة عودة إلى الطفولة بشكل ما. أنا أستحضرها، وأصنع لها تمثالاً في قصيدتي. قصيدتي تمثال للطبيعة، ومرثية لها في آن.
من ناحية ثانية، قصيدتي تهرب أيضاً إلى الصحراء، والكثبان، والظباء، والضباب، والعظاءات. وهذا نوع من مديح الطبيعة الفارغة من الإنسان من جهة، وخروج من المشهد المألوف شعرياً من جهة ثانية، الطبيعة الحرة المتوحشة وقاية لي ولشعري.
■ في مقدمة مجموعة «كشتبان»، كتبت أن الفايسبوك كان له دور في إنتاج المجموعة، هل نحن مقبلون على جنس كتابي جديد بالرغم من الأصوات العديدة التي تدّعي أن الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي أفسدت الشعر؟
نعم. كانت المقدمة عن ظروف إنتاج «كشتبان»، وكانت أول مرة أكتب فيها مقدمة لمجموعة من مجموعاتي الشعرية. كنت أحس بأن شعري آخذ في التغير، وأنا أحاول أن أفهم جذور هذا التغير. وكانت المقدمة نتيجة لذلك. وقد كتبت فيها: «ما فعله الفايسبوك يتخطى هذا. فهو لم يلغ الزمن الفاصل بين الكتابة والنشر، بل ألغى تقريباً الزمن الفاصل بين لحظة الكتابة والقارئ. بعد ثوان من كتابة القصيدة، تكون قد وصلت إلى قارئ ما. وهو من جهته يكون قادراً على أن يبدي، وخلال أقل من دقيقة، رد فعله على القصيدة، لكي يلتقطه الكاتب من ثم مباشرة. وهكذا صرنا أمام دورة إنتاج واستهلاك لم يسبق لها مثيل. دورة في منتهى العجالة. هناك بالطبع من قرأ هذه المقدمة، وقال لي: «لمَ تفعل هذا؟ لم تربط شعرك بالفايسبوك يا رجل. يعني: هذا غير جيد بحقك». لكن الحقيقة أن النشر على الفايسبوك منحني فرصة فريدة حقاً. لقد أتى في اللحظة التي كان فيها شعري يتغير، وقد ساعدني على تغييره. لا أريد تكرار ما قلته في المقدمة. فهي هناك، ومن أحب فليعد إليها. لكن أرى أنه كان للفايسبوك تأثير إيجابي على الشعر، وخاصة شعر القصائد القصيرة. وشعري أنا كله تقريباً يقع في هذا الباب. الفايسبوك جنة الشعر القصير. بالطبع هناك ألف مشكلة في الفايسبوك. لكن الشعر كسب منه شيئاً.
■ قلت إنّ «الشاعر نتاج شعراء آخرين. لا يوجد شاعر صنع نفسه بنفسه»، من صنع زكريا محمد؟
قصدت بقولي هذا أن الشاعر يصنع نفسه من «خشب» الآخرين لا من خشبه هو، أي أنّه يصنعها مستنداً إلى مواد الآخرين، ونصوصهم. لكنه في النهاية هو من يبني بيته بيديه. وخشب الآخرين موجود في بيتي. خشب أبي العلاء، خشب امرئ القيس، خشب سعدي يوسف، خشب كافافي… خشب أوربي، خشب صيني، خشب عربي، وخشب من كل مكان. كما أن كتابة الشعر في النهاية عمل جماعي أيضاً. حين تكون الحلقة الشعرية التي تحيط بك، حلقة زمانك وجيلك، حلقة قوية متفردة، يمكنك أن تصير أنت أيضاً متفرداً. لا يمكن لفرادتك أن تظهر إلا بالآخرين. بذا، فتأثيرات جيلك تكون فيك أيضاً. وخشبها يكون في بيتك.
■ قلت إن محمود درويش أجبرك على الذهاب لتزرع في الصحراء، هناك حيث أفلتَّ من تأثيره، هل تعتقد بأن تأثير محمود درويش لعب أحياناً دوراً سلبياً على كثير من شعراء اليوم؟
شعر كل شاعر كبير يلعب، عند لحظة محددة، دوراً سلبياً ما. الشعراء الكبار في كل زمان لهم وطأتهم. وحين يتكرسون، يتحولون بشكل ما إلى قيد. ليس بإرادتهم، وإنما بمشيئة الأمور ذاتها. ومن هنا، تحدث التمردات على الشعراء الكبار دوماً. لا أحد يتمرد على الشعراء الصغار. بقدر حجمك، يكون التمرد عليك. هذا هو القانون. وحين يجري التمرد عليك تكون هذا في الواقع أنك قد أنجزت مهمتك. أي أنجزت نمطاً، أسلوباً، لغة، ترسخت وصار من الضروري التمرد عليها. لذا، لا يجب فهم التمرد بشكل سلبي. على العكس، إنه إقرار بالشاعر الكبير من جهة، وإقرار بأن الزمن الجديد يريد أن ينتج شعراءه المختلفين.
في ما يخص علاقتي بشعر درويش، فأنا لم أتاثر به، أي لم أتأثر بأسلوبه وطريقته. هربت منه نحو طريق أخرى. وهذا بحد ذاته تأثير. لكن درويش رفع سقف الشعر الفلسطيني، وهذا أدى إلى ارتفاع هاماتنا الشعرية جميعاً. بهذا المعنى أيضاً أثّر درويش فيّ وفي غيري.
■ في أحد نصوص مجموعة «علندى» تقول «خير للمرء أن يقتل على حاجز اليأس من أن يشغل نفسه بالأمل»، هل ألقيت الأمل فعلاً «ككرة حديدية إلى قاع البحر»؟ هل تتفق هنا مثلاً مع برتراند رسل حين قال «الأمل للقطط والأغبياء»؟
بشكل ما أوافق على جملة رسل، رغم قسوتها. يهيأ لي أحياناً أن الشعر نتاج اليأس لا نتاج الأمل. وفي إحدى مقطوعات «كشتبان»، قلت: «كل ما عملته كان بفعل اليأس. الأمل لم يكن دافعي أبداً». الأمل يدفعك إلى الانخراط في حركة العالم، حركة الواقع. وهذا يستهلكك. أما اليأس، فيدفعك إلى ذاتك، وإلى لغتك. في الشعر، يكون اليأس أحياناً هو الأمل ذاته. مرة سئل كاتب لم أعد أتذكر اسمه: لماذا قتلت الطفل في روايتك؟ فأجاب: قتلته كي يتوقف الناس عن قتل الأطفال في الواقع. أي القتل في الرواية يحدث تأثيراً معاكساً في الواقع… تأثير يدفع إلى حماية الأطفال. وربما كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الشعر واليأس. الشعر بحاجة إلى اليأس كي لا يجري تخريبه، كي يحمي ذاته. شعر كثيّر قتله الأمل في اعتقادي.
■ الذاكرة وقضاياها حاضرة دائماً في أعمالك، اللعب على الذاكرة ومراوغتها، وتعاملك معها «كلجام يُعلك حتى الموت»، لكنها ليست ذاكرة مجردة بل تتقاطع مع الحاضر. هل الذاكرة مجرد شاهد، أم قد تكون فعلاً دليلاً للمستقبل؟
لا يمكن تخليص الشعر من الذاكرة. يمكن التحايل على الذاكرة، لكن لا يمكن الخلاص منها. الشعر مثل الحلم الفريدوي مسبوك من قطعتين: قطعة من الماضي، وقطعة من الحاضر، أو قطعة من ذاكرة الطفولة، وقطعة من ذاكرة الأمس. وذاكرة الطفولة كهف من كهوف الشعر الكبرى. وفي كل حال، فإن الكهوف التي يخرج منها الشعر هي الكهوف ذاتها من عهد جلجامش إلى عهد هوميروس إلى عهد درويش. وهذه الكهوف هي: الطفولة وخيالاتها ومخاوفها، الماء، الليل، الحب، الموت، الغياب، الحركة… الشعر لا يغادر أبواب هذه الكهوف.
■ تكتب بصمت، مبتعداً عن الأضواء وتنأى بنفسك عن التحالفات والتكتلات الثقافية وغيرها، هل هي محاولة نأي النفس عن محيط مضطرب، مع أنّ بعضهم قد يحسب ذلك تعالياً؟
نعم، فرضت على نفسي عزلتي الخاصة. وأنا لا أطالب بأي قطعة من الكعكة الأدبية. حصتي تخليت عنها. ثم إنه لم يعد لديّ وقت كي أضيعه. عليّ أن أنجز التقرير النهائي وأقدمه لمن يهمه الأمر. وهذا يحتاج إلى جهد ووقت. قبل أعوام، أصبت بسرطان القولون، ثم نجوت. أحسست بأنني نجوت كي أنجز مهمة ما كُلّفت بها. لقد أعطيت فرصة أخرى كي أنجز هذه المهمة. وأنا أحاول أن أنجز ما عليّ أن أنجزه. لديّ مشروعات كثيرة، ولا أعرف إن كان الوقت سيسعفني لإكمالها. أما بخصوص التعالي، فمشكلتي دوماً هي «التسافل»، أي التواضع الزائد عن حده. أحياناً، أغضب على نفسي بشدة لأنني أتواضع لمن لا يدركون معنى التواضع. ورحم الله أبا العلاء إذ يقول: «دُعيت أبا العلاء وذاك مين/ ولكن الصحيح أبو النزول» والمين هو الكذب.
■ تعكف على كتابة عمل جديد يتعلق بالديانة اليهودية في فلسطين، كيف سيكون شكل هذا العمل، ومتى سيتم إصداره؟
أنجزت هذا الكتاب وسوف يصدر قريباً عن «منشورات المتوسط» بعنوان: «حين سُحقت حية موسى: نشوء الديانة اليهودية بفلسطين في العصر الفارسي». العمل يقدم فرضية مختلفة جذرياً عن نشوء اليهودية. أما الكتاب الذي يليه، فهو بعنوان: «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية»، وهو كتاب أعمل عليه منذ عقد تقريباً. وهو يمثل انتقالي من دراسة ديانة العرب قبل الإسلام إلى دراسة الأديان الكونية. الروزنامات في العصور الموغلة في القدم كانت جوهر الأديان. الدين هو الروزنامة.
صحيفة الأخبار اللبنانية