
تودّع الجماهير العربية، ربّما لآخر مرّة، شخصاً يجمع عليه اللبنانيون في زمن الانقسامات. الموسيقار زياد عاصي الرحباني (1956 – 2025)، ابن السيّدة فيروز، يغادر عالمنا عن عمر ناهز السبعين. وكان زياد قد اختار الابتعاد عن الأضواء في السنوات الأخيرة بسبب وضعه الصحّي المتأزّم.
لم يكن قدَر زياد أن يكون مجرّد امتداد لعائلة الرحابنة. لقد اختار باكراً أن يكون انشقاقاً ناعماً، وصوتاً متفرّداً، حين خاطب الله في كتابه «صديقي الله»، وجسّد التمرّد الأعمق، والكلمة الأوضح في وجه السلطة الاجتماعيّة والسياسيّة على السواء. لكن ابن فيروز وعاصي، لم ينسَ أن يحمل الإرث الموسيقي الهائل من عائلته، ليعيد تركيبه على نحو خاص، فخرجت منه بصمة موسيقيّة تكتظّ بالإبداع والسخرية واليأس والموقف في آنٍ معاً.
دخل زياد عالم الفن من أوسع أبوابه وهو بعد في السابعة عشرة، حين لحّن أغنية «سألوني الناس» لوالدته في غياب والده المريض. منذ تلك اللحظة، لم يعد ممكناً الفصل بين اسمه وبين الإبداع. منح زياد الرحباني الروح الشرقية لموسيقى الجاز، وراهن على قدرتها في التعبير عن أفكاره وأفكار جيله. لم يرضخ للأنماط، بل مزج الشرق بالغرب، والقديم بالراهن، وأنتج صوتاً لا يُشبه إلا زياد. حتى أغنياته التي كتبها لعدد من النجوم من فيروز إلى ماجدة الرومي ولطيفة، فإنّ ثنائيّته مع الراحل جوزيف صقر بقيت العلامة الفارقة.
كتب للمسرح، وأخرج، وأنتج، وأدّى أدواراً في أعمال صارت جزءاً من الوعي اللبناني الجمعي. من «المحطّة» كانت البداية، تلتها مسرحيّات: «سهرية» (1973)، «نزل السرور» (1974)، «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)، «فيلم أميركي طويل» (1980)، «شي فاشل» (1983)، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993)، و«لولا فسحة الأمل» (1994). كانت هذه المسرحيّات مرويات حيّة عن وجع الحرب وآثارها، وعن الطبقات المهملة وبؤس النظام السياسي الحاكم. لاقت تجربته المسرحيّة نجاحاً واسعاً لدى الشباب، وتأثّر بها جيل كامل من الفنانين والكتّاب.
كتب الموسيقى التصويريّة لعدد من الأفلام اللبنانية، أشهرها «طيّارة من ورق» (2003) لرندة الشهّال، الذي شارك فيه بدور «زياد». وللراديو، ترك بصمات خالدة في زمن الحرب الأهلية، عبر إذاعة «صوت لبنان» في برامج مثل: «بعدنا طيبين… قول الله» (1976)، «العقل زينة»، و«نص الألف خمسمية» وغيرها من السلاسل الساخرة التي استهدفت النخبة والساسة على حدّ سواء.
في الصحافة، ومن خلال عموده الثابت في جريدة «الأخبار»، سجّل زياد حضوره ككاتبٍ يكتب بجرأة، ويوقّع بلغة حادة وخفيفة الظلّ في آنٍ معاً، واضعاً إصبعه دائماً على الجرح.
سياسياً، لم ينفصل زياد يوماً عن الحرب الأهليّة، لا حين كتب عنها، ولا حين عاش تفاصيلها. انتمى بوضوح إلى اليسار اللبناني، وانحاز إلى الفقراء والمهمّشين. رأى في الشيوعيّة موقفاً من العدالة، لا تنظيراً أكاديميّاً. دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بوصفها مشروعاً تحرّريّاً، مع احتفاظه بمسافة نقدية حين استدعت اللحظة.
في العقد الأخير، خفت صوته في العلن، لكنّه لم ينطفئ. ظهر على فترات متقطعة، في مقابلات وإذاعات وجلسات موسيقية حيّة، متحدّثاً عن خيبته من الحال اللبناني، ومُشيراً إلى استمراره في التلحين والكتابة رغم انسحابه الجزئي. في زمن الانهيارات المتعدّدة، بقي زياد أحد آخر الذين لم يتصالحوا مع الرداءة.
لم يكن زياد الرحباني مجرّد ملحّن. كان صاحب مشروع فكري موسيقي متكامل، تنقّل بين الطبقات الشعبيّة والحسّ النخبوي، بين الراديو والشارع، بين الأمل والخذلان. لم يُغنِّ «لبنان الجميل»، بل رسم ملامحه المتعبة، بواقعيّة جارحة. وربما في زمن القبح الجماعي، لا نحتاج إلى أغنية جديدة من زياد… فموروثه كافٍ لنردّد خلفه:
«نحنا بعدنا طيبين… قول الله».
صحيفة الأخبار اللبنانية