زيناتي قدسية يصنع مسرحه من قاموس الخوف
ذهب المخرج زيناتي قدسية في تجربته الجديدة مع «المسرح القومي» إلى إعداد نص «حفلة على الخازوق» لـلكاتب محفوظ عبد الرحمن، معوِّلاً على قوة الحبكة الدرامية التصاعدية التي وظّفها الفنان الفلسطيني لمصلحة العرض الذي احتضنه مسرح الحمراء، لتكون هذه التجربة مقاربة للواقع الراهن عبر ترميز يأخذ مستويات عدة في ملامسة فضائح البطانة الفاسدة، وما تجره من ويلات على البلاد والعباد في آنٍ معاً.
القراءة التي قدمها المخرج لنص الكاتب المصري الراحل ركزت على توليف متقن بين الضوء والموسيقى والأداء الجماعي للممثلين، متكئاً على انسجام هذه العناصر في إدارة صراع حار ومتفاقم جعله صاحب «كأس سقراط الأخيرة» أفقياً، وذلك عبر مكاشفات أدارتها شخصيات العرض الأساسية: «مدير السجن» (جمال العلي) ونائبه (محمود خليلي) و «المحتسب» (علي كريّم) و «نائب الزعيم» (قصي قدسية).
أتت أحداث «حفلة على الخازوق» (إنتاج مديرية المسارح والموسيقى) ضمن طابع توليدي درامي، كان الكاتب قد اقتبسها من حكايا «ألف ليلة وليلة». فتبدأ بحدث اعتقال الحرس لشاب يدعى حسن عبدالله فرج الله (رائد مشرف) من أجل الزجّ به وتقديمه ككبش فداء لإرضاء شخصية «الزعيم» (زيناتي قدسية)، ودرءاً لبطشه والخوف من إقالة مدير السجن. وهنا تتدخل هند (صفاء رقماني) خطيبة الشاب لإنقاذ حبيبها من أحابيل مدير السجن وأعوانه (زهير بقاعي- نورس أبو علي)، موقعةً إياهم بغرامها عبر التغرير بهم وإغوائهم ليظفروا بها، فيما هم يقعون في أحابيلها واحداً تلو الآخر.
هذه الحكاية تختتم أحداثها المتلاحقة عبر حبس هؤلاء في صناديق خشبية صنعتها الصبية الحسناء بالتعاون مع نجار شاب (مصطفى المصطفى)، كان أيضاً يأمل بالظفر بها، ليكون ضحية هو الآخر لشهوته وجموحه، وليقع هؤلاء أخيراً في شر أعمالهم ويفتضح أمرهم أمام زعيم البلاد الذي يعزلهم من مناصبهم لسوء استخدامهم للسلطة. إلا أنّ النائب يبقى كدلالة على أبدية سلطة الشرّ والفساد والتسلّط، فتعود الكرّة مع دائرة متجددة من الظلم واستعباد الناس والبطش بهم على الشبهة.
مفارقات عدة استثمرها مخرج العرض الذي استعاد رائعة المخرج الكويتي صقر الرشود، والذي كان هذا الأخير قد حققها لفرقة «الخليج العربي» وقدمها في مهرجان دمشق المسرحي عام 1977، ليكون الجمهور أمام بناء مشهديات متجاورة بين التمثيل والرقص، بالتعاون مع فرقة «يائيل للمسرح الراقص» وإضاءة الفنان نصر الله سفر. وساهمت «قفشات» ممثلي العرض وبراعتهم في الأداء على الانتقال من العصر الحجري إلى الزمن العثماني، وبعدها إلى الزمن النازي، كتورية اعتمدها مخرج العرض للمراوغة من الرقيب، وجعل قصة العرض هائمة عبر الأزمنة، مما جعل هذه التجربة قوية في احتيالها على الرقابة، لكنها في الوقت ذاته ظلت محايدة مع الزمن الراهن الذي ظل رهناً للإسقاطات التي تجنّبها العرض بشكلها المباشر، تاركاً الإحالة على مفردات الواقع الراهن من خلال بعض الإشارات الخجولة من مثل «التفييش» على الكومبيوتر، و «هلا بالخميس» وما إلى ذلك. وبهذا يكون الخوف هو الموضوعة الأساس في معالجة قدسية. الخوف بقاموسه المرعب من الضحايا والدهاقنة وعيون السلطان وعسسها.
ضمن هذه الرؤيا إذاً أحالنا «قدسية» على أغنية الشيطان ذاتها عبر العصور، وكيف يُعمِلُ الخوفُ أنيابه في أجساد الضحايا وأعصابهم، فيحيلهم على أكباش فداء وقرابين ومسوخ جاهزة، فالجميع هنا في دائرة الخوف ذاته من غيبية السلطة ومعامل تعذيبها، من النسيان في أقبيتها المرعبة أمام سطوة الجلاد وحماقته وهوسه بالتعذيب والانتقام السادي من المتهمين للفتك بهم وإلباسهم ثوب الإعدام والخيانة العظمى. مرافعة سوف تكون جارحة ومؤلمة فيما لو تم فك الهيكل الكوميدي الساخر عنها في «حفلة قدسية» لكنها بالمقابل اتخذت حلولها الفنية من أجواء السجون وبلاطات الحاكم بأمر الله، لتنوب الضحكات عن صرخات التعذيب، والقهقهات عن تفحم رأس الضحية فوق كراسي الكهرباء.
تظل اللغة عائقاً في هذا النوع من المسرح الذي لا يزال يحتفي بالفصحى، على حساب «الكلام» جوهر اللعبة المسرحية القادرة على إنتاج الأفعال، بعيداً من تتويج اللغة كمنبر معدني وجاف يقترب من نبرة مسجدية للخطاب، فيعيق حدوث «الكثارثيس»- التطهير الأرسطي المأمول من فرجة جريئة في طرحها السياسي والاجتماعي، في محاولة نبشها المسكوت عنه، لكنه يبقى خيــــاراً فنـــياً يحتمل نقاشاً هادئاً للشـــكل الفني للعرض، والذي توخى صاحب «القيامة» صياغته في فضاء منقبض ودموي، مسخراً طاقة ممثليه في دفع السوداوية والقتامة عنه، مرةً عبر لعبة الإغواء من قبل المرأة لرجال الزعيم، ومرات عبر الارتجال والتـــنويع على الألفاظ واللعب على مفردات شعبية، ساهمت في ارتداء قبعة الإخفاء من الرقـــابة، وكرّست مدرسة الأداء الجماعي واللعب الحر والبريء بغية الوصول إلى شرائح متنوعة من الجمهور، مع الحفاظ على خطوط تماس مع السلطة، وإعـــادة إنتاج جماعاتها الخفية والمستحكمة برؤوس البشر ومصائرهم.
صحيفة الحياة اللندنية