ساركوزي: «إسرائيل» لليهود فقط

الرئيس الفرنسي السابق والمرشح للرئاسة بعد عامَيْن، نيكولا ساركوزي، يزور إسرائيل كواحد من «حكماء صهيون» الجدد. يتخلى عن تقليد الكلام الرسمي، ويتجرأ على تقديم الحل العنصري الأمثل: «دولتان: واحدة لليهود، بلا فلسطينيين، وأخرى للفلسطينيين». وهو ما يفرض حتماً، انتزاع الفلسطينيين المقيمين في «دولة إسرائيل» لينضموا إلى فلسطينيي فلسطين، وإلغاء حق العودة الذي نصت عليه القرارات الدولية، منذ نشوء الكيان الصهيوني.

دعوة ساركوزي هذه، ذات بعد عقائدي. يؤسس لدعوته، انطلاقاً من فهمه للدولة ـ الأمة: «المستقبل هو لدولتين أمتين. بالنسبة لي، الأمة أهم من الدولة. (اليهود أمة والفلسطينيون أمة) وإذا لم تنشأ دولة ـ أمة، فإننا نجازف بزوال إسرائيل يوماً ما من داخلها، وليس بسبب تهديدات خارجية. لذا، يجب حل مشكلة المواطن العربي فيها».

شيء من الفاشية، بل من النازية. اليهود أمة تامة أينما كانوا، في أرض ينزلون فيها، وتكون لهم وحدهم، لا يشاركهم فيها أحد من أديان أو أعراق أو أجناس أو ثقافات مختلفة. الدولة ـ الأمة الفرنسية قامت على المواطنة. والمواطنة الفرنسية انتماء غير عرقي ولا ديني ولا مذهبي. هي الأكثر مطابقة لمفهوم الدولة ـ الأمة، ولكنها لا تقوم على عنصر أو دين أو لون. فكيف يتجرأ ساركوزي على هذا، إن لم يكن قد اهتدى إلى الصهيونية النقية. صهيونية «الآباء المؤسسين» لكذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»!

ويثور ساركوزي أمام الملأ الصهيوني على دعوة المقاطعة التي بدأت تتسع في دول الاتحاد الأوروبي، ويندد بما أقدمت عليه شركة الاتصالات الفرنسية «أورانج». علماً أن هذه المقاطعة، لا تعاقب إسرائيل على تمييزها العنصري في «داخلها»، وليست بسبب تكرار اعتداءاتها وشن حروبها على قطاع غزة، ولا بسبب منع إعادة إعمارها، بل هي ضد «حرب الاستيطان» المستمرة منذ عقود، أو، بالتعبير الساركوزي، ضد «دولة ـ الأمة الفلسطينية» المفترضة، وفق تصوّره المراوغ. لقد تجاهل الرئيس السابق التنبيه الذي وجّهه لـ «إسرائيل» في العام 2008 عندما صرّح بأنه «لا يمكن توقع سلام من دون وقف شامل وسريع لحركة الاستيطان».

لا جديد في دعم فرنسا، يميناً ويساراً ووسطاً، لإسرائيل. الحروب الإسرائيلية على غزة حظيت بتأييد ودعم الحكومات الفرنسية المتعاقبة، يساراً ويميناً. العدوان على لبنان في العام 2006، نال مشاركة حيوية، ترجمها سفيرها آنذاك في بيروت، بحيث كان يتصرف كجنرال سياسي، لا يحيد عما تريده إسرائيل من شروط لقبول وقف إطلاق النار.

الجديد هذه المرّة، هو أن «الدولة العجوز» استفاقت على هوان عجزها. بانت على حقيقتها. فهي صوتٌ بلا صدى. تحرِّض عسكرياً على أن يخوض الحرب سواها. ارتفعت عقيرتها ضد النظام في سوريا، ثم خرّت راكعة أمام الاتفاق الروسي الأميركي الذي وضع حداً للحرب على سوريا، بسبب «الكيميائي». وهي كما أعلن ساركوزي، آخر من يعلم في «الملف النووي» الذي تخوض مفاوضاته الثنائية كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية.

فرنسا التي تستذكر أدوارها التاريخية، تجد نفسها خارج الحلبة. وبازدياد ضعفها وتكاثر معضلاتها الداخلية، يزداد طلبها على المشاركة في الأحداث العالمية، وذلك عبر تبني مطالب متطرفة لعقوبات ضد روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، يلتف عليها الأميركيون لإيجاد صيغ مقبولة لهذا الصراع، مع روسيا تحديداً. فرنسا اليوم، قائدة التطرف الكلامي ضد سوريا وضد روسيا وضد الاتفاق النووي الإيراني في بعض تفاصيله، ولكنها بعيدة جداً عن أن تكون ذات تأثير في القرارات التي تصنع حروباً أو تضع أوزارها.

هذا العبث الفرنسي في الشرق الأوسط مفهوم، عبثت في ليبيا ثم انسحبت. عبثت في سوريا ثم انكفأت. عبثت في الحروب الإسرائيلية ثم تراجعت. لا قدرة لفرنسا أن تفتح باباً وتدخل منه. غير أن لفرنسا دوراً، كما لغيرها من الحكومات الأوروبية أدواراً في وقف حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومع حركة المقاطعة لإسرائيل لوقف الاستيطان الاستعماري لما تبقّى من أرض فلسطين. ففي الدول الديموقراطية، حرية واسعة وتحسس لمشكلات ذات طابع إنساني وحقوقي، تتخوّف منه إسرائيل وتخشاه الدول التي تشكل حزام أمان سياسياً دولياً لها.

في انصراف المشرق العربي إلى حروبه، وفي تبني الخراب الكبير والتدمير الاستثنائي غير المسبوق، للدول والكيانات والجيوش والمجتمعات والأحزاب والتيارات القومية، وفي مرحلة الضياع وفقدان الاتجاه، تصبح فلسطين قضية تخصّ أهلها فقط. وها هي فلسطين وحدها في مواجهة إسرائيل. حرب غزة الأخيرة أفضت إلى تكريس واقع مأساوي في غزة. المفاوضات المعوّل عليها قليلاً من قبل السلطة، لا طريق إلى طاولتها. أوباما يلوِّح بلا شيء. فرنسا ذاهبة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يلزم بالتفاوض لمدة 18 شهراً. الإدانات النادرة توقفت، وبالمناسبة، يسخر منها ساركوزي، ويعتبرها مصطنعة ولا مردود لها، ويجب ألا تخيف إسرائيل.

فلسطين، وحدها. العرب الذين انشغلوا عنها نصف قرن، مشغولون منذ أربع سنوات بحفر القبور وتسيير الجنازات وتأبيد الحرائق. الحلف القطري ـ السعودي ـ التركي ـ الأردني، مشغول بالقوس الشيعي. في كل كيان يتواجد فيه ويظلل بعضه. محور المقاومة، منصرف بعديده وعدّته للدفاع عن خطوط أمانه الفلسطيني وخطوط وجوده وتخوم حصانته.

في هذه الحروب المتناسلة، فلسطين وحيدة، لها شعبها فقط. ولقد جرّب المستحيلات كلها ولم يصل بعد. ما زال أمامه الأمل الصعب. التمسك بالقضية، التشبث بالأرض، الحق بالدولة، الشرعية الأخلاقية والإنسانية، التطلع الدائم إلى الحرية، الانصراف إلى تدبير صموده الراسخ في ظل الاحتلال، الإيمان بأن فلسطين لا تموت ولن، وأن إسرائيل لن تخلّد… والعودة إلى المقاومة لا مفرّ منها. والحجر قريب وفي متناول اليد وكذلك الزناد.

لا وجود في الأفق لأكثر من ذلك. أما المتاح، فهو الصوت. الصوت الصادق الذي يرافق حركة الحصار لإسرائيل في العالم. وفي هذا العالم من الأصوات ما يرجّح كفة الضمير على المصالح، وآخرها الطلبة البريطانيون الذين يشكلون اليوم رافداً جديداً لحركة المقاطعة وزنار الحصار. وبعض آثارها تخوُّف إسرائيل من بلوغ الشكوى مجلس الأمن الدولي، إذا ظلّ انتقام أوباما من نتنياهو يتفاعل، فيترك مهمة حراسة إسرائيل، ولو لمرة، في المنظمة الدولية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى