كتب

سردية القتل الأول

منى أبو النصر

دعاء إبراهيم تعيد توظيفها في «فوق رأسي سحابة»

 

في روايتها «فوق رأسي سحابة» الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة تشيّد الكاتبة الروائية المصرية دعاء إبراهيم عالماً تخييلياً ينهض على واحدة من أقدم قصص التراث الإنساني، فتُعيد تأويل قصة «قابيل وهابيل» ضمن سياق نفسي معاصر، فمنذ الجملة الافتتاحية لروايتها تستدعى «الغراب»، ليس بوصفه نذيراً للشؤم كما في التراث الشعبي فحسب، إنما بوصفه رمزاً للموت القريب، وشاهداً على الذنب الذي يُلازم بطلة الرواية كظلّ لا ينزاح عنها.

ومن ثم، لا تبدو «السحابة» التي يشير إليها العنوان، رغم شاعريتها الظاهرة، سوى تمثيل مبطن للذنب الذي يُعيد إنتاج نفسه في سياقات مختلفة، فالبطلة التي تعبر القارات في رحلة تأخذها من مصر إلى اليابان، لا تنجح عبر تلك المسافات الطويلة أن تنفصل عن عالمها النفسي المُظلم بفعل صدمات الطفولة، بداية من الأم التي استبدلتها بزيجات مُتكررة، وجعلتها دوماً على الهامش، والأب المُتخلي الذي يتركها ليؤسس أسرة جديدة في اليابان، فتذهب إليه بعد موت أمها أملاً في فصل جديد ينزعها من عملها المرير في مستشفى حكومي وسط مستنقع اجتماعي وعائلي بائس، فتنتقل إلى القارة البعيدة محتفظة داخلها بميراثها الغاضب تجاه هذا الأب بعد أن تخلى عنها طفلة: «رأيتني من دمه، أحمل اسمه، ملامحه، طريقته في الحديث، ربما أحمل نذالته أيضاً لكنه لا يزال غريباً، غريباً وعدواً».

طفولة معقدة

كأرضية، ترفنا الرواية، التي جاءت في 200 صفحة، بسنوات الطفولة المعقدة للبطلة، وصولاً لعملها رئيسة للممرضات، أو ما يعرفن مجازاً بـ«ملائكة الرحمة»، فيما المفارقة أنها تُمارس جرائم القتل الرحيم تحت ستار التمريض تحت ذريعة «تحقيق العدالة» على طريقتها الخاصة، لتتحوّل تدريجياً إلى شبح غراب «الجريمة الأولى»، وبذلك تخلق الرواية تقاطعات بين سردية قصة «قابيل وهابيل»، وبين عالم البطلة المضطرب التي يتراءى لها فيه «قابيل»، لا بوصفه القاتل فحسب، بل كامتداد خفي لذاتها، فتقودها ضلالات مُجسدة في صوت نعيق الغراب وكأنه يوسوس لها بالقتل: «سيموت اليوم». هكذا تسمعه يستشرف موت من تختارهم للرحيل، فيما يتحوّل «قابيل» في لا وعيها إلى مجاز للحب والرغبة، فتبدو بعض مشاهد الرواية أقرب إلى تخيّلات لحالة عشق تجمعها به، في تماهي سردي يربط بين الحب والجريمة والذنب، فتتساءل: «هل كنت أعرف أنني البنت التي أحبها القاتل الأول منذ آلاف السنين؟».

نسق ياباني

يبدو اغتراب البطلة أبعد من حدود الجغرافيا والمكان، فتتغرب عن «بيت الجدة» الحنون لتجد نفسها أسيرة «فوتون»، عبارة عن مرتبة تُفرش على الأرض للنوم، في شقق اليابان التي لا تتجاوز الستين متراً. وبهذا الانتقال المادي من مصر إلى أقصى الشرق الآسيوي، تكشف الرواية عن تفاوت كبير بين الأنساق الثقافية في البلدين. لكن اليابان برغم صورتها كمجتمع متقدّم ومنضبط، لا تُقدم هنا كملاذ، بل على العكس، فهي تُعيد قولبة الفرد في منظومة مغلقة، قوامها الامتثال الكامل والتلاشي داخل الجماعة، فيصبح والدها الذي تقطع الأميال من أجله «يابانياً أكثر مما ينبغي» كما تصفه، فلا يمثل حضناً عائلياً مستعاداً، بل يصبح نموذجاً لفقدان المرجع، والذوبان الكامل: «بدا لي المجتمع من الخارج مجتمعاً كاملاً من الملائكة، هذا ما جعلني أكرههم. بدوا جامدين كروبوتات من حديد، مهذبين لدرجة محرجة، يتشابهون في كل شيء؛ طريقة الحديث، وإيماءات التعجب والاستغراب، وتناول الطعام، وأوقات تناولها، كأنهم جميعاً خرجوا من مصنع واحد، مسخهم جميعاً على هيئة واحدة».

مواجهة جديدة

في اليابان، لا تجد البطلة خلاصاً، بل مواجهة جديدة مع منظومات أكثر صرامة وتعقيداً، فتبدأ في العمل في مطعم صغير تتعرف فيه على معايير طبقية مغايرة عن تلك التي كانت تعانيها في مصر كرئيسة للممرضات، بكل ما يتعرضن له من إهانات من مرضى وأطباء على السواء، حيث تُزامل في المطعم الذي تعمل به طلبة من كليات الطب بعد انتهاء اليوم الدراسي ليتمكنوا من سداد مصاريف الجامعة في اليابان، وتبدو البطلة منفتحة على تعلم اللغة اليابانية، والانفتاح على «التطور» الثقافي الذي حررها نسبياً من الحصار الذكوري المُشوّه في مصر الذي كان يمثله أفراد من عائلتها، ولا سيما «الخال»، و«حارس العقار»، فنشأت عندها أزمة تخص علاقتها بجسدها وهُويتها، إلا أن «غُرابها» الملازم لها، يدفعها إلى منعطف يعصف بهذا المُستقبل المضيء المحتمل في اليابان، فيحرضها على قتل الأب بالأسلوب نفسه؛ القتل الرحيم، ومن بعدها تُتهم بقتل «تومودا سان»، زوجة أبيها اليابانية، لتنتقل إلى مواجهة مع «عدالة أخرى» مُشددة داخل السجون اليابانية، التي لا يفارقها فيها غُرابها ولا سيرة قابيل.

لا يبدو وصول البطلة إلى محطة السجن في نهاية الرواية إدانة ولا تبرئة لها، بل ذريعة فنية لفتح أفق سردي يُحكم السيطرة أكثر على تضاريس البطلة النفسية المشروخة، ففي تلك العزلة المغلقة، تنسحب البطلة ذهنياً داخل سردية «قابيل والغراب»، فيتلاشى المكان لصالح هلاوس تعتمل بداخلها المضطرب، وهنا، ينقلب الغراب عليها بعد أن كان مُرشداً لها فتقول: «سمعت الغراب يصرخ في أذن قابيل يُحرضه على قتلي: ستموت اليوم، لولاها ما قتلتَ أخاك» لتنفتح الرواية على أفق بدائي ومُجرد، لا تعود الجريمة فيه فعلاً فردياً، بل نمطاً وجودياً، وذريعة قابلة دوماً للتُجدد في كل سياق، وتحت كل سحابة.

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى