سركون بولص.. مخالب الشعر
العراقي سركون بولص، أحد أبرز شعراء ما بعد الحداثة العربية، تكفّل شعره بتأسيس القصيدة العربية الجديدة وتفعيلها واقعًا حيًّا ووجودًا ملموسًا، بنقل القصيدة من حيّز التجريدي والرمزي المسكون بالأساطير إلى ما هو واقعي ويومي، جاعلاً الواقع نفسه أسطورة لما يحفل به من غرائبية ومفارقة تُفجِّر الدهشة. فبعد أن كانت الأسطورة في شعر ما قبل الحداثة بمثابة قناع رمزي يحتل من لوحة الشعر الشكل، فيما الحدثي والوقائعي كانا بمثابة ظلال لها أو أرضية (خلفية)، فقد صارت (الأسطورة) ـ كما في شعر سركون بولص ـ عنصرًا من عناصر اللوحة ومكونًا من مكونات الخلفية، يزواجه الشاعر بالواقع كأحد أنسجته. لقد صار الوجود، أي شيء بالوجود ـ في الفكر الأسطوري الما بعد حداثي ـ قابلاً للأسطرة،
وبحسب ـ رولان بارت ـ فإنّ «كل ما يخضع للخطاب من شأنه أن يصبح أسطورةً. الأسطورة لا تُعرَّف بموضوع رسالتها. إنما من خلال الطريقة التي تلفظها بها: هناك حدود شكلية للأسطورة، ولا وجود للحدود الجوهرية فيها. إذن كلُّ شيءٍ يمكن أن يصبح أسطورة؟ نعم، أعتقدُ هذا، لأنّ العالم معينٌ لا ينضب من الإيحاءات. فكل موضوع من موضوعات العالم يمكنه الانتقال من وجودٍ مغلق، أخرس إلى حالة شفوية منفتحة أمام امتلاك المجتمع، لأنّ ما من قانون طبيعي، أو غير طبيعي، يمنعنا من الكلام على الأشياء»، وهو ما وعاه سركون بولص في جعله الواقع بكل ما فيه من واقعية وتجربة معاشة أسطورة لشعره، كما يقول سركون في قصيدة «ألف ليلة وليلة»:
«كان ذلك/عندما أبصرتُ رمزي المفضَّل/ يهبط كالنسناس من راحة يدي/ويدلني على أماكن مجهولة يتصاعد منها تنُّفس الأحياء/ تبعتُه وعينايَ معصوبتان/ بريش معرفتي القليلة/ ويدايَ مقيّدتان بالحريّة وأسنانها/ تنغرز في رسغي والألم/ يجعلني أتطوّح كالسكّير في أزقة غريبة أسرارُها لم تنجح/ في مواساتي/ واثبًا في الهواء بحركات/ المعذَّبين الخرقاء».
فلسفة الشاعر
يُفصح الشاعر عن فلسفته الشعرية واستراتيجيته الترميزية التي تتأسس على إطلاق الرمز وتحريره من قبضة الشاعر وارتياده أراضي جديدة والخوض به في مناطق غريبة لم يطأها من قبل، وكما يبدو من خلال الصورة التي يرسمها الشاعر لتحولات الرمز لديه (أبصرتُ رمزي المفضَّل يهبط كالنسناس من راحة يدي) فقد أخذ الرمز (يهبط) في إشارة لتخلي الرمز عن تعاليه ونزوله لمستوى الأرضي والواقعي، كما أمسى الرمز (كالنسناس) في إشارة لانتقال الصور الشعرية وعمليات الترميز لطور وحشي، بدائي، تراجعًا عن الأساليب البلاغية والطرائق التصويرية المتعالية، فالصورة عند سركون بولص تباغت المتلقي ورُبما تصدم أفق توقعه بما يوسع من «المسافة الجمالية» (Distance Esthetic) التي يقطعها الأداء الشعري التي تتمدد ـ بحسب ياوس ـ بمباعدة الكتابة عن أفق توقعات التلقي والقراءة.
تناقض؟ يبدو أن الشاعر قد تخلى عن رؤاه الفنية السابقة بخصوص صناعة الشعر للرموز، فالشاعر (الصياغة الشعرية) يبدو وكأنّه يترك الرمز يسكن مناطق مجهولة، فضاءات لم يبلغها الشعر من قبل، فيما يُمثِّل خروجًا على التراث الشعري وتمردًا على آلياته التقليدية في صناعة الرموز وانتهاكًا لمقدساته في تشكيل صوره. وهو ما جعل الشاعر (يتطوح كالسكير) في إشارة لأثر الشعرية الجديدة على الشاعر إذ تدخل به في نشوة كالسكر بعد أن تخلخل مستقراته وتهز ثوابته وهو ما يجعله يتطوح، في حركات أقرب لأفعال الانتشاء الصوفي.
لقد تخلى الشاعر عن دوره كإله متعالٍ يجافي الواقع، يخلق رموزًا غريبة عن هذا الواقع، فبعد أن كان الشعر سجينًا في عالم المثال المفارق والرمز المتعالي، نجد الشاعر يطلق سراح الرمز لينطلق في عوالم الواقعي واليومي:
«كأنّ طيور الأرض التي اجتمعتْ تحت صدري/ تبدأ انتفاضها الموسمي في الأعماق/ وكان ذلك/ عندما اكتشفوا عنقاء الشعراء بالصُّدفة/ تختبئ في سراديبَ سرّية وتُشعلُ نفسها من حين لحين/ بكبريت الوقائع اليوميّة/ باحتقار الدخول إلا اقتحامًا/ من الأبواب المحصّنة».
اليومي والواقعي
يُمثِّل لنا الشاعر لانتفاضة شعرية تجتاحه وتثوِّر الشعر نفسه لما يلعبه اليومي والواقعي في إعادة خلق الأسطوري وتوجيه الرمزي، إذ إنّه «ليس هناك أي تنافر بين الواقعية والأسطورة» بحسب بارت. وإذا جاز لنا أن نعتبر الطيور التي اجتمعت تحت صدر الشاعر هي الرموز، فالطير رمز، وأما إسنادها للفعل (اجتمعت) والتموضع المكاني (تحت صدري) فيشير إلى تشكُّل هذه الرموز وسكناها أعماق الشاعر بما يشي باستقرارها نوعًا ما ـ فلنا أن نتابع ما تفعله (عنقاء الشعراء) التي ترمز إلى (الأسطورة)، لتلك العنقاء/ الكائن الأسطوري الذي ما إن يتحرّق في النار حتى يبعث في رمادها طائرًا جديدًا وكائنًا جديدًا مشابهًا للذي كان، وكأنّ الوقائع اليومية بمثابة كبريت يُشعِل الأسطوري ليبتعث من جديد، ما يفضي لانتفاض الرمزي (طيور الأرض) في ذات الشاعر، فالعنقاء رمز الميلاد الجديد لا يكون ميلادها الجديد ـ في الكون الشعري ـ إلا من خلال الوقائع اليومية، فكأنّ الشاعر يعيد رؤاه وصياغاته الرمزية وفقًا لفعل اليومي والواقعي بما هو أسطوري، فالشعر باستراتيجاته الجديدة التي تتبنى اليومي والواقعي ليكون أساسًا لأسطوريته الجديدة إنما يخترق بذلك الأبواب المحصنة، وتحطيم القواعد الكلاسيكية للشعر التي عدّها المحافظون تابوهات محصّنة، وذلك بإعادة تعريف مفهوم الشعر نفسه وتحديث آلياته وإعادة صياغة مفهوم الأسطورة.
ولكي يصنع الشاعر أساطيره من فيض الوقائع اليومية تلازم هذا مع انحيازه المُرجِّح للشعر اللاتفعيلي، «قصيدة النثر»، رغم تمكُّنه الفني وقدرته على كتابة الشعر الموزون، «قصيدة التفعيلة»، لاتساع الحرية التي تتيحها القصيدة اللاتفعيلية أو قصيدة النثر للشاعر، فيقول سركون:
«على النثر أن ينشب مخالبَهُ/ في رقبة الشعر الهزيلة».
وكأنّ الشاعر يرى بحاجة الشعر لقالب «قصيدة النثر» تجديدًا لدماء الشعر، وتقويةً له، ومقاومة لهزاله، لذا كانت «قصيدة النثر» خيارًا حرًا ونابعًا من قناعة فنيّة من سركون بولص باحتياج الشعر لها تثويرًا له، وكأنّ مخالب النثر هي مخالب الشعر أيضًا.
صحيفة السفير اللبنانية