سمير مولر رسام الخزف بجمالياته الخفية
تحت عنوان سمير مولر رسام الفخّار، يكشف متحف نقولا إبراهيم سرسق في معرض استذكاري (يقام حتى 24 أيلول-سبتمبر) مختارات من أجمل إنجازات الفنان اللبناني الراحل سمير مولر (1959-2013)، الذي أبصر النور في قرية عين زحلتا لعائلة فخّارين، جده يوهان مولر الذي غادر سويسرا الألمانية في عام 1914 ليستقر في قرية نبع الصفا في منطقة الشوف اللبنانية حيث أنشأ فرناً لصناعة الفخّار. درّب الجدّ الخزّاف ابنه جورج على مهنة صناعة الفخّار وأسسا معاً مصنعاً صغيراً للفخّار في منطقة الكحالة شمال بيروت.
هكذا ترعرع سمير ميلر وأخوته في كنف ورش منتجات الفخّار وطرق صناعة العجائن وتجفيفها وطبخها وتزجيجها، مما شجعه على الغوص في معرفة أسرار الخزفيات المطلية بالألوان والمزينة بالرسوم التي تعود في عصور ما قبل التاريخ، لا سيما تلك التي اكتشفت في منطقة الشرق الأوسط، وذلك خلال سنوات تخصصه في فنون الخزف في فرنسا في كلية الفنون في تولوز وفي ليسيه أوغست رونوار الفنية في باريس، حيث اكتسب أسرار التشكيل الحديث بالطين وطرق خلطه بملوّنات مطحونة للحصول على جماليات مقادير الخلط بخامات النحاس (للون الأخضر) والمنغنيز (للّون البنفسجي) والكوبلت (للّون الأزرق) والأنتيمون (للّون الأصفر) والحديد (للّون الأحمر والبني) والقصدير (للّون الأبيض).
اكتشف سمير مولر خلال دراساته المعمّقة في فرنسا أن المفهوم الجديد الذي طرأ على فن الخزف ظهر في أعقاب موجة التمرد على كل من الشكل القديم وأساليب تنفيذه من حيث العلاقة الوثيقة بين الشكل والخامة وأدوات التنفيذ، وأن الاهتمام بالخزف الصناعي في مرحلة الحداثة ساهم في ولادة الانفصام الفني ما بين المذهب الانتفاعي (التصميم الصناعي والنظرية الشكلية في خزف الاستوديو) الذي أطلقه والتر غروبيوس (1883-1969) في مدرسة الباوهاوس والمذهب التجريبي الحديث الذي أطلقه بابلو بيكاسو كرد فعل في حنين العودة إلى استلهام الخزف البدائي. وقد عايش مولر جماليات هذا الانفصام ما بين الاستهلاكي والابداعي في مزاولة رغبة الإنتاج الكمي مع العائلة من جهة ومن جهة أخرى ابتكار العمل الفريد الذي يبلور شخصيته الفنية في المعارض.
سمير مولر مثقف من الطراز الرفيع، في لقاءاتنا العديدة كان يخبرني عن الخامات التي يستخدمها وعن الاختبارات التجريبية التي يمارسها في المحترف تاركاً تدويناته موقعة بخط يده على رقع من مربعات الفخار. وكان غالباً ما يردد مقولة للشاعر الألماني غوته «من لم يتعلم من خبرات ثلاث آلاف عام مضت، فليبق في الظلام وليعش من يوم إلى يوم». فقد استهواه الخزف بإمكاناته الجديدة التي تعتمد على حرية اللعب بالخامة، لذا أعطى سمير مولر لفن الخزف اللبناني المعاصر مفهوما جديداً من خلال إيجاد عامل التماسك بين الشكل والخامة والطلاوة.
فهو يعتقد أن ثمة شكل ما كان يراه ويتخيله جيداً قبل أن يولد، كان يشعر بوجوده كلما انغمس في استعمال الخامات الصحيحة والمناسبة لتقنيات إخراج الأشكال. فالخامة بالنسبة له هي محور الارتباط الوثيق بالأرض، لذا غاص لعقود في استلهام جماليات جيولوجيا الأرض في خاماتها وألوانها. فالتربة اللبنانية لها لغة خاصة وتركيبة متفردة على صلة وثيقة بهواجسه ومشاعره وإيقاعات حياته اليومية، إلا أنه شغوف بحكاية الطين والنار وبأنواع الصلصال المتلوّنة بحسب عوامل الطبيعة التي تسكب أسرارها في قلب الأرض حيث إشارات الاحتفاء بالحرائق والبراكين، التي تفصح عن زمان تجريدي لطالما بحث عنه في طبائع ومصطلحات الإيقاع الكوني للوجود.
وجد سمير مولر أن الفنون البدائية قد لامست سحر هذا الوجود وكينونته، في محاولاتها التوفيق بين العالم السفلي والعالم العلوي، حين اكتشفت عجائن الأرض وخبزتها وصنعت منها رقيماً للكتابة والتدوين كما صنعت قطعاً وأوانٍ وحفرت على ظاهرها طقوساً ومعتقدات وزخارف حياة. لذا بحث سمير مولر في تصاميمه الخزفية عن المنحى التجريدي السحري، الذي يمتلك شيئية المكان والزمان ليصبح لمعنى «التشيؤ» الخزفي قيمته الوجودية.
وهذا ما جعل ابتكاراته لأشكال الأواني الكروية والأسطوانية حافلة بالثراء والتنوع، كما اعتمد مبدأ الترقيم (التي حفلت بها لوائح الفنون البدائية السومرية) وذلك في صياغة لوحات مناظر ساحات وسط بيروت (التي حققها قبل رحيله بسنوات) وفق مربعات توافقية سواء باستخدام أنواع متباينة من عجائن الطين، أو باستغلال درجات الحرارة وصدماتها لإحداث أنواع من الشقوق والملامس والتدرجات اللونية وغيرها من الأساليب، التي حقق من خلالها أسس ارتقائه في عمليات التجريب خصوصاً في مجال الرسم التشخيصي، فضلاً عن اللعب في تشكيل الخامة وتشييد قوالبها وتلوين سطوحها، التي منحت فنه قيماً تعبيرية فريدة وحساسية شاعرية مفرطة بأناقتها وجودتها، جعلته بحق واحداً من كبار فناني الخزف المعاصر في لبنان.
صحيفة الحياة