خاص
أطلَّ الكاتب الراحل سهيل الذيب علينا من علبة الزمن الأبدي الذي وضعوه فيها . رأيته ملفوفاً ببياض روحه وقلبه، مسجى كحبة كستناء ذابلة تفوح رائحتها كعطر أزلي يمتد من جديلة الشعر البيضاء التي كان يربطها عند نقرته يوم تعرفت عليه، وصولاً إلى البياض الذي أحاط بجنازته..
شممته ، وقبلته، وقلت :
إيه ياسهيل هاقد متَّ، وأنت الذي لاتحب الموت!
ضحك، وهمس من داخل الكفن :
ــ أنتم الموتى!
غريب هذا الصوت الذي سمعته، طغى على صوت الباكين من حوله : زوجته أم مروان وابنته راشيل والأصدقاء محمد الطاهر ومحمد الحفري وجمال الزعبي وحشد ممن التفوا حول التابوت. أحسست أنه يلقي علينا نظرة الوداع، فهو الذي يحب الحياة حتى في كفنه، ونحن الموتى حتى ونحن نشيعه .
أنا أعرف تماماً أن صديقنا الراحل سهيل الذيب لا يحب الموت، وكيف يحب الموت وهو الذي كان يردد على مدار الوقت أن الحياة حلوة، وكثيراً ما سألتُ نفسي : لماذا يصف هذه الحياة بهذه الطريقة؟
ولم أجد رداً.
هذه المرة ، جاءني الرد منه : انتم الموتى!
هل صحيح أننا موتى، ثم متى يكون الواحد منا ميتاً، ومتى يكون حياً؟!
تمتمتُ : رحمك الله ياسهيل.
ولم أبك. ابتعدت عن علبة الزمن الأبدي المسجى فيها، وشعرت بعطش شديد ، فقد جف حلقي، وأحسست برغبة شديدة بشرب الماء، فابتعدت عن الناس ، وبحثت عن الماء لأشرب حتى أرتوي.
لا يمكن استعادة كل شيء عن سهيل إلاّ باستعادة صوته ، وصوتُه كان دائما مجلجلاَ بعبارات الحب والإنسانية والقلب المفتوح على العالم، أستعيد صوته الآن : ياحبيب القلب! هكذا ببساطة يسمي أصدقاءه أحبة القلب.
كان بسيطاً كالماء، غنياً في عواطفه كعاشق، كريماّ يده مفتوحة على المدى..
أستعيد ذكرى دخوله غرفة العمليات في مشفى الطب الجراحي، لم يكن خائفاً، وكعادتنا نحن المتطفلين على المرضى، نخفف من آلامهم، أخبرته أن العملية سهلة وستنجح لأنه قوي، فابتسم بضحكته الجميلة وهو يسايرني في تعاطفي، ورأيته يبتعد في العربة الطبية، المتجه إلى مبضع الجراح، وغاب قرابة ساعتين ، وعاد ويومها استيقظ من المخدر، ولم يعرفني !
هاهو يعرفني الآن، يستلقي في علبة الزمن الأبدي، ويتهمنا بالموتى .
له ياسهيل ! هل نحن موتى فعلاً ؟ هل صحيح أننا أجساد متحركة بلا نبض؟!
أقفلوا العلبة عليه، فسمعت ضحكته المجلجلة ساخرا منا نحن الموتى.
حملوا جثمانه إلى الصلاة ، وكان نائماً ينصت إلى التراتيل، يصغي جيدا إلى معناها، فقد يرى الأبدية في الحياة، وعندما انتهت الصلاة، تركته يذهب وحيدا بين الجموع إلى المقبرة، وشعرت أننا مدفونون في الحياة، وكان سهيل وحده يرسم ابتسامة أمل قادم!