سوريا … الإسلاميون الجهاديون الغرباء (سمير حمادي)
سمير حمادي
اعتمدت منذ الأيام الأولى للثورة وسائل إعلام النظام الرسمية حملة دعائية تقوم على إتهام الثورة بخلفيتها السلفية الجهادية؛ وبأن مقاتلين من القاعدة وإرهابيين من الخارج يقودون أعمال العنف ضد الدولة، ودأبت على عرض جثث تزعم إنها لهؤلاء المقاتلين. مع ذلك لم يكن هناك أدلة ملموسة على مثل تلك الادعاءات مع بدايات الثورة تفيد بأن جهاديين عرب أو إسلاميين قدموا إلى سوريا لتقديم دعم مباشر أو غير مباشر للثوار. فقد كان مجرد التلميح لمثل هذا الأمر يتعرض للنفي الشديد من قبل كل أطراف المعارضة، بل إنه أصبح مادة للتهكم في كثير من الأوقات.
لكن مع مرور الوقت واشتداد العنف، ولجوء النظام إلى الخيار الأمني والعسكري المتطرف والاستئصالي بدأ يتسرب ما يفيد عن وجود جهاديين عرب وإسلاميين في بعض الأوساط والبينات الثورية الإسلامية، وبدأ العديد من الصحافيين الأجانب في جولاتهم الميدانية وتقاريرهم يلحظون ذلك وإن بأعداد قليلة تحرص على عدم الظهور إعلامياً. فقد كانت قيادات المعارضة والجيش الحر على السواء يدركون جيداً الكلفة الباهظة لوجود هؤلاء الجهاديين في حسابات المنافع التكتيكية مقابل كلفة الخسائر الاستراتيجية لهذا الأمر في العلاقات مع أصدقاء الثورة في الخارج والغرب تحديداً وعلى الصورة الإجمالية للثورة.
كان التطور التكتيكي الذي أظهره الثوار في عملياتهم ضد الجيش النظامي، وخصوصاً في طرق استعمالهم للمتفجرات والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة؛ والتي برعت فيها جبهة النصرة وكتائب أحرار الشام منذ العام 2012 مؤشراً على خبرات جهادية بدأت ترد للثوار السوريين من جهاديين إسلاميين من الخارج، وخاصةً من جماعات تمرست في القتال في العراق. إلا أن ظهور هؤلاء الجهاديين في مقاطع فيديو قطع الشك باليقين، وخاصةً حين ظهر مقاتلي الجيش الحر إلى جانب مجموعة لم تكن معروفة آنذاك باسم "مجلس الشورى" في العملية الشهيرة التي أدت إلى تحرير معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا. وقد ترافق ذلك مع توقيف صحفيين غربيين مع مكان آخر على الحدود لمدة أسبوعين من قبل عناصر جهادية تم إطلاقهم بعد عملية قام بها الجيش الحر لتحريرهم، ما أدى إلى توتير الأجواء بين الجيش الحر وهؤلاء الجهاديين في المنطقة، نتج عنه فيما بعد صدام حسمته مجموعة من كتيبة الفاروق اختطفت وأعدمت رئيس مجلس الشورى وهو المعروف بأبي محمد الشامي العبسي.
لم يعد مجدياً إنكار وجود جهاديين إسلاميين في سوريا، إلا أن الوقائع تشير بوضوح إلى الكثير من التضخيم ينسب إلى أدوارهم ووجودهم، ولا يتردد النظام عبر إعلامه من الزعم بأن كل الثوار هم أجانب متسربون عبر الحدود وانه لا يواجه ثورة بل يقاتل القاعدة، في الوقت الذي تشير معظم الروايات والأدلة، وخاصةً تلك التي أرسلها الصحافيون الأجانب من الميدان مباشرة، إلى أن غير السوريين يشكلون جزءاً صغيراً من المقاتلين، وأن معظمهم يعملون في الفصائل السلفية، بما فيها المجموعة التي يقودها مهدي الهراتي، الجهادي الليبي الذي كان أحد قادة المجموعات ضد نظام القذافي.
لا شك إن الثورة السورية منذ انطلاقها قد مرت في تحولات في صراعها مع النظام، فقد بدأت سلمية وتحولت إلى صراع دامٍ ومدمر برزت فيه بشكل تدريجي الفصائل السلفية المسلحة. إلا أن هذا الانطباع لا يعبر عن الصورة الحقيقية لأنه مرتبط بانسداد جميع المخارج والبدائل السياسية في مواجهة النظام الذي اختار الحل الأمني والاستئصالي، ولم يبقَ أمام الشعب السوري إلا خيار المقاومة الشعبية، والتي لم تعد قادرة وفق النمطين التونسي أو المصري على تحقيق أي تقدم، والتي ثبت عقمها على النمط الليبي لجهة طلب الحماية أو التدخل الدولي.
لذلك أخذت الأطروحة "الجهادية" الكثير من الجاذبية على الرغم من أن كتائب الجيش الحر قد باشرت المقاومة المسلحة ضد قوات النظام؛ إلا أن مقاومتها لا تتمتع بجاذبية الخطاب "الجهادي السلفي" وهي جاذبية ذات مصدرين الأول له بعد عقائدي إيماني إذ يعطي الشعور يتلقي الدعم من الأمة الإسلامية بأكملها، في الوقت الذي تشعر فيه باقي المجموعات المسلحة بالإحباط والشعور بالتخلي عنها من كل ما يسمى "المجتمع الدولي والعربي". والثاني ساهمت فيه الخبرات والمواد والأسلحة والتبرعات التي تدفقت على الفصائل السلفية بكافة أنواعها، بحيث وفرت شيئاً من "الزخم" والدعاية لها، إلا أن هذا لا يعني إنها أصبحت القوة الرئيسية في الثورة والمعارضة، فمن المبكر الإدعاء بذلك، خاصة وان النزعة السلفية لم تكن حالة أصيلة في المجتمع السوري كتيار سياسي، وهي إن قدر لها في ظروف الصراع واحتدامه اليوم أن تحقق بعض الانتشار وسط صفوف المقاتلين، فإن هذا لا يشكل دليلاً على "أصالتها" وجذورها العميقة والتي يمكن أن تشكل الهوية الشعبية السورية فيما بعد.
وخير دليل على ذلك أن كل الفصائل السلفية المستقلة ميزت نفسها عن أساليب "جبهة النصرة في بلاد الشام" وأعلنت رفضها بوضوح لأساليب التفجير والعمليات الانتحارية في مناطق التجمعات السكنية، الأمر الذي شكل ضغطاً على الجبهة نفسها التي تراجعت عملياً عن مثل هذه التكتيكات.
والأكثر من ذلك أن غالبية الفصائل السلفية رغم اللهجة المذهبية الحادة في موادها الدعائية، إلا أنها لم تذهب إلى القطيعة والمفاصلة مع "الأقليات" في سوريا، بل بقيت تميز دائماً بين من يقف مع النظام ويقاتل معه ومن يقف في دائرة الحياد أو مع الثورة.
والأهم من هذا كله أنه وبمجرد أن أعلن في شهر تشرين الثاني المنصرم عن توحيد فصائل المعارضة ضمن "الائتلاف الوطني السوري"، سارعت مجموعة الفصائل الإسلامية في حلب إلى الإعلان عن رفضها له داعية إلى إنشاء دولة إسلامية، إلا أن لواء التوحيد، أبرز وأقوى هذه الفصائل في حلب نفى صحة هذا الأمر. وتبع ذلك الاجتماع الشهير الهادف لتوحيد المجالس العسكرية للجيش الحر، والذي اجتمع فيه ما يقرب من 550 قائد ميداني من الكتائب والألوية، حيث اختاروا قيادة موحدة بالانتخاب تألفت غالبيتها من الضباط العسكريين وبعض القادة المدنيين، وقد اعتبر هذا التوحيد من أهم الإنجازات الهيكلية للجيش الحر والذي انعكس ميدانياً على أدائه وعلى طبيعة علاقاته والمساعدات التي سوف يتلقاها والاعترافات التي سوف يحظى بها.
انتخب العقيد سليم إدريس رئيساً لهيئة الأركان في القيادة العسكرية المشتركة للجيش الحر، اللافت في هذا هو استبعاد "جبهة النصرة" عن عملية التوحيد هذه رغم تأكيد إدريس إنه ليس مقصوداً استبعاد أحد وأنه ليس هناك متطرفون وإرهابيون بين الثوار مؤكداً تفهمه لمخاوف الغرب لكنه يؤكد إن الإسلام المعتدل هو الموجود في الثورة وليس بيننا متطرفون.
كل هذا لم يمنع من صدور قرار أميركي يضع جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، هذا القرار الذي أثار ردود فعل غاضبة في أوساط المعارضة السورية بكل اتجاهاتها. بدا واضحاً أن الذكريات الأميركية المريرة من أفغانستان ما تزال تفعل فعلها، وهي لا تريد تكرار الخطأ. علماً أن المعارضة السورية في قطاعاتها الواسعة لا تتفق مع أهداف جبهة النصرة لإقامة دولة إسلامية ونظرتها الجهادية عموماً، إلا إنها تحمّل الغرب الذي لا يزال يتلكأ في تقديم الدعم الضروري للثورة السورية وللجيش الحر والذي يسمح بتسليحه بما يكفي لوقف هجمات النظام. والمعارضة تعتبر إن جزءاً كبيراً من مسؤولية توغل ظاهرة التشدد الإسلامي ونموها تتحمل مسؤوليتها تلك المماطلة الغربية في دعم قوى المعارضة وعدم اتخاذ مواقف حاسمة ضد النظام.
خلاصة الأمر أن الفصائل السلفية المقاتلة ضد النظام اليوم في سوريا لا تحمل جميعها خلفية جهادية متصلة بإيديولوجيا القاعدة، وإذا ما استثنينا جبهة النصرة إلى حد ما والتي يمكن أن نجد العديد من القواسم الإيديولوجية المشتركة بينها وبين القاعدة، وإن كانت مؤخراً أبدت شيئاً من التكيف والتعاون مع باقي الفصائل وبطليعتها الجيش الحر، فإن التمعن في خطاب باقي الفصائل السلفية وتحليل مصطلحاته ومكوناته يفيد أنه أقرب إلى السلفيات الحركية والدعوية ذات الطابع والدفاعي القابل والقادر على التكيّف بواقعية، والذي لم يصل إلى حدود التكفير والمفاصلة الكاملة مع "الآخر" وإن كان لا يخفي مشروعه ومقاصده الإسلامية.
خلاصة من بحث سمير حمادي 'القاعدة في سوريا'، ضمن الكتاب 73 (يناير 2013) 'ربيع القاعدة: سوريا- سيناء- مالي' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي
ميدل ايست أونلاين