
عندما تقرأ تقارير الياهو ساسون، التي كتبت منذ ما يقارب القرن من الزمن، وتقارن مضمونها بما يجري اليوم، تصبح القناعة حتمية بأنّ هذا النوع من النظام السياسي في لبنان لم يتغير. أداء المسؤولين فيه يتطابق مع من سبقوهم، لا بل أصبح «يهود الداخل» -كما كان يسمّيهم أنطون سعاده- أكثر وقاحة وخساسة بهدف المحافظة على المناصب التي أوصلوهم إليها ولو على حساب الدمار والموت الذي يتعرّض إليه اللبنانيون. الوثائق ليست بحاجة إلى تحليل، إنها فاضحة.
قائد الدرك مندهش لأنّ جيش الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية التي تسانده لم ينجحوا بعد في القضاء على ثوار فلسطين. لكنه يطمئن زائره الياهو ساسون، بأنه أمر بتنفيذ قرار الحكومة بإقامة المزيد من حواجز التفتيش والرقابة على الطريق ما بين صيدا-الناقورة، لمنع تدفّق الرجال والسلاح إلى فلسطين. أمن الصهاينة والاحتلال اليريطاني من «واجبات الرجل الوطنية». وبما أنّ أمين الحسيني، مفتي فلسطين، قد تمّ نفيه إلى لبنان، يطمئن قائد الدرك زائره ساسون، بأنه عيّن «شرطيَّين في منزل المفتي، مهمّتهما تسجيلُ أسماء الزوّار، ومراجعة الرسائل الواردة والصادرة، والاستماع إلى المحادثات التي يجريها المفتي مع أهل بيته والزوّار».
واللافت في لقاء ساسون مع رئيس الوزراء، أنّ الأخير أبلغه بأنه خاض معركة داخل مجلس الوزراء والبرلمان، ضدّ الذين اعتبروا أنه ليس من واجب الحكومة اللبنانية حماية حدود أرض فلسطين، لكنه انتصر عليهم. والمهمّ بالنسبة إلى رئيس الوزراء أنّ تكاليف إقامة نقاط المراقبة بين صيدا والناقورة هي 25 ألف ليرة، واللبيب من الإشارة يفهم. نحن نتحدّث عن ما جرى عام 1938، أمّا اليوم ما عليكم فقط سوى المقارنة ما بين الأداء السابق والأداء الحالي.
التالي ملخّص ما جرى في لقاء الياهو ساسون، مع قائد الدرك نور الدين الرفاعي ورئيس الوزراء خالد شهاب:
زيارةٌ إلى بيروت – لقاءاتٌ ومحادثاتٌ
بيروت 21 تموز 1938
أمس، عند الساعة العاشرة صباحاً، وصلتُ إلى بيروت. وفي طريقي من الميناء إلى الفندق التقيتُ بيهوديَّيْنِ محلّيَّيْن تحدّثا عن الكآبة والخوف السائدَيْن بين أبناء الطائفة اليهوديّة نتيجةَ القنابل التي أُلقيت على يهود صيدا. وأشارا إلى أنّه لم تُصدر أيُّ صحيفةٍ في بيروت إدانةً للحادث، وأنّ زعماء الطائفة لم يجدوا من المناسب المثولَ أمام السلطات للمطالبة بمعاقبة المعتدين.
عندما وصلتُ إلى الفندق، قرأتُ في الصحفِ رسالةَ الدعوةِ إلى المشاركةِ في «المؤتمرِ البرلمانيّ العربي» (1)، التي وجّهها علي علوبة باشا إلى رئيس مجلس النوّاب اللبنانيّ. فقرّرتُ أن أتعامل مع هذين الموضوعين معاً.
اتّصلتُ هاتفيّاً بقائد الدرك العامّ (2) ورئيس الوزراء (3) وطلبتُ مقابلتَهما. وقد استقبلني قائدُ الدرك على الفور في مكتبه، بينما استقبلني رئيسُ الوزراء اليوم عند الساعة الثانية بعد الظهر في منزله.
خُلاصةُ الحديث مع قائد الدرك:
سألني عن الوضعِ في أرض فلسطين، وأبدى دهشتَه لأنّ الحكومة لم تنجحْ حتّى الآن في القضاء على الإرهاب وفرض النظام في البلاد. ثمّ قدّم لي تفاصيلَ عن مراكزِ الشرطةِ الجديدةِ التي أنشأتها حكومةُ لبنان مؤخراً على طريقِ صيدا – الناقورة، وعن الرقابةِ والحراسةِ القائمةِ هناك. وقد اختارت اللجنةُ وفداً ليتوجّهَ إلى لندنَ لعرضِ مطالبِ العربِ على البريطانيّين.
تمّ فرضُ رقابةٍ من قبل دائرة الأمن على اللاجئين العرب من أرض فلسطين. ومن بين الإجراءات التي اتُّخذت أن الدائرة عيّنت شرطيَّين في منزل المفتي، ومهمتهما تسجيلُ أسماء الزوّار، ومراجعة الرسائل الواردة والصادرة، والاستماع إلى المحادثات التي يجريها المفتي مع أهل بيته والزوّار. ومع ذلك، لا يُتوقّع حدوث أيّ تغييرٍ في سلوك المفتي أو نشاطه؛ فكما تمكّن من شراء ذمم العديد من موظفي الحكومة والمفوّضية الفرنسية والصحافة، سيتمكّن أيضاً من شراء ذمّة هذين الشرطيَّين ومواصلة نشاطه دون عوائق. ويبدو أن هذه الترتيبات لم تُتخذ لإزعاج المفتي، بل لقطع حجج البريطانيين في بيروت ودمشق بشأن نشاطاته المعادية لبريطانيا.
عندما أثرتُ قضية صيدا، أجاب القائد بأن السلطات هناك، بناءً على تعليمات الحكومة، اتخذت إجراءاتٍ صارمة ضدّ المعتدين. وقد زار بنفسه صيدا ووضع، بالتعاون مع المسؤولين عن الأمن، خطةً للتحقيق وأساليب لحماية اليهود. وفي أثناء إقامته في صيدا، التقى بزعماء المسلمين هناك، وجميعهم – دون استثناء – أدانوا أمامه الحادث ووعدوا بمساعدة السلطات. ويرى الجميع أنّ للإرهابيين القادمين من أرض فلسطين يداً في الحادث، وبرأيه لا مبرّر لخوف يهود بيروت. ومع ذلك، ولضمان الأمن وطمأنة اليهود، سيسعى لدى وزير الداخلية ومدير دائرة الأمن إلى الموافقة على إنشاء نقطتين أو ثلاث نقاط شرطة جديدة في الأحياء اليهودية.
ملخّص الحديث مع رئيس الوزراء:
شكرتُه على التدابير الإضافية التي اتخذتها حكومة لبنان على الطريق بين صيدا والناقورة. وقال إنّ هذه الإجراءات ستكلّف الحكومة 25 ألف ليرة سورية سنوياً. وعند اتخاذه هذه الترتيبات، واجه معارضةً شديدة من بعض زملائه في الحكومة والبرلمان، الذين رأوا أنه ليس من واجب الحكومة اللبنانية حماية حدود أرض فلسطين. ومع ذلك، نال تأييد الأغلبية. وذكر أنّ الحكومة اللبنانية تؤمّن الطرق وتهتمّ بسلامة المصطافين القادمين من مصر وأرض فلسطين.
كرّرتُ شكري له على الإجراءات الصارمة ضدّ المعتدين في صيدا، فأكّد ثقته بعدم تكرار الحادث. صدرت أوامر مشدّدة لجميع عناصر الأمن في لبنان، وتمّ تكليف عشرة محقّقين بكشف الأشخاص الذين حرّضوا المعتدين على تنفيذ فعلتهم. وشدّد على ضرورة أن أعمل على حثّ الصحافة اللبنانية على إدانة حادث الاعتداء والمطالبة بمعاقبة الجناة بأقصى درجات القانون. وقد وعدتُه بالاهتمام بهذا الأمر.
بعد ذلك، أثرتُ موضوع الدعوة التي وجّهها علي علوبة باشا، وسألتُ عن موقفه وموقف البرلمان اللبناني منها. فأجاب أنّ رئيس مجلس النواب لم يتحدّث معه بعدُ حول الدعوة، وأنه يتشاور حالياً مع زملائه في البرلمان. وقد علم أنّ النواب المسلمين، ومن بينهم خير الدين الأحدب، أعربوا بالفعل عن تأييدهم لمشاركة لبنان في المؤتمر البرلماني.
الصحافة:
كتبتُ ست مقالات: ثلاث منها تندّد بما حدث في صيدا، وثلاث أخرى ضدّ مشاركة لبنان في المؤتمر البرلماني العربي. وطلبتُ من رجالنا في بيروت أن يتأكّدوا من نشر هذه المقالات في صحف مختلفة كمقالات رئيسية.
حتى الآن نُشرت أربع مقالات، أمّا الاثنان المتبقّيان فسينشران غداً أو بعد غدٍ في صحيفة «الحديث»، وهي من أهمّ الصحف المسيحية وأكثرها انتشاراً في بيروت والعالم العربي، ويصل توزيعها إلى نحو (6,500 نسخة).
هوامش:
(1) انعقد المؤتمر البرلماني العربي في القاهرة بين 7 و 11 تشرين الأول 1938.
(2) كان نور الدين الرفاعي يتولّى منصب قيادة الدرك في تلك المرحلة.
(3) تولّى خالد شهاب رئاسة الحكومة اللبنانية ما بين آذار 1938 وتشرين الثاني 1938 في عهد الرئيس أميل إدّه.
* كاتب لبناني
صحيفة الأخبار اللبنانية



