سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [10]

حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة مهمّة شارك هو في صنع بعضها.

دارَ الحديثُ في الحلقة الماضية عن ميليشيا أسّسها صائب في حرب السنتيْن وأوكلَ أمر قيادتها لتمام سلام. لم تعمِّر الميليشيا لأن الجمهور الإسلامي في بيروت انجذب نحو «المرابطون» وتنظيمات ناصريّة ويساريّة أخرى. لكن ما يجب التنويه به في هذا الصدد أن صائب—باعترافه هو في يوميّاته—لم يُنشئ الميليشيا للمشاركة في الدفاع عن أهل بيروت بوجه هجمة انعزاليّة طائفيّة لم توفّر مسلماً بريئاً في لبنان، بل إن كل همّ صائب انصبَّ على مواجهة الخطر الشيوعي في بيروت. ولعلّ المشروع (الذي انطلق—وبعفويّة شديدة—بعد زيارة طلب تمويل من صائب إلى السعوديّة حيث وجد صائب أن أمراء آل سعود متعاطفون مع الانعزاليّين في لبنان بسبب انتشار الشيوعيّة بين المسلمين. ويومها، أدلى صائب بتصريحات قال فيها إنه «صحّحَ» النظرة تلك عند أرباب النظام) كان يهدف إلى إنقاذ زعامة صائب في زمن اضمحلال الزعامات التقليديّة.

وتقاطعَ موقف صائب في الحرب—باعترافه—مع موقف النظام السعودي في تأييده لموقف «الكتائب» حول «ضرورة إيقاف المدّ الفلسطيني المسيء للسيادة اللبنانيّة، وإيقاف المدّ الشيوعي المتزايد» (ص. 679، ج2). لكن يختلف سلام مع النظام السعودي عندما يحمّل فرنجية وشمعون والجميّل المسؤوليّة في فساد الحكم وفلتان الأمن، كما أنه يرى أن أفعالهم زادت من المدّ الفلسطيني والشيوعي.

ويقول صائب إنَّ جهده «الأكبر» في فترة حرب السنتيْن انصبّ على تنظيم الشباب في «حركة روّاد الإصلاح» وتوجيه «المقاومة الشعبيّة» (أي الأداة الضاربة للحركة). ويزعم صائب أنه كان لإعلان قيام الميليشيا «صدى واسع، محليّاً وعربيّاً» (ص. 682، ج2). وفي قوله هذا مبالغة فظيعة لأن بعضنا يتذكّر كمّ النكات والسخرية الذي طال إنشاء الميليشيا، والتي كان أهل بيروت الظرفاء يطلقون عليها اسم «روّاد الفضاء». أمّا التمويل، فيقول صائب هنا: «كنتُ أموّلها من مالي الخاص ممّا كان متجمّعاً لديّ من بيع أراضٍ تملكها زوجتي في مشروع الدوحة، وما كنت أستدينه من بنك «المشرق» بواسطة أحد مديريه رياض ناصر». وعانى التنظيم من نقص في السلاح والتمويل، حسب صائب.

أمّا رشيد كرامي، فلا تنقص عزيمة صائب في تعييره في اليوميّات عبر السنوات. تجد كرامي دائماً على عتبة الانهيار النفسي. وأسلفتُ من قبل أنني سألتُ في هذا شخصيّة معروفة وكان قريباً جداً من كرامي ونفى لي أن يكون كرامي قد عانى من تلك الأزمات النفسيّة التي نسبها له صائب باستمرار في اليوميّات. يقول عن نهاية عام 1975، «وبعد ذلك توجهتُ آخر الليل إلى رشيد كرامي لأجده منهاراً، عازماً على الاستقالة… وشددتُ من عزيمته ورفعتُ معنوياته، قائلاً له إنّنا اليوم نؤيّده أكثر من أيّ وقت مضى… كل ذلك جعل شعبيّته متدنيّة جداً عند المسلمين كما عند المسيحيّين». (ص. 683، ج2). لكن صائب لا يتحدّث عن تدنّي شعبيّته هو عند المسلمين. ألم يكن هذا سبب عدائه لكمال جنبلاط الذي أصبح أكثر شعبيّة من صائب عند المسلمين؟ وصلت شعبيّة صائب في حرب السنتيْن إلى درجة جدّ متدنيّة، ما سمح لإبراهيم قليلات (وكان في 1958 واحداً من أتباعه) بأن يتوِّجَ نفسه زعيماً على بيروت. وشكّل قليلات عقدة عند صائب لأنه لم يكن يتوقّع أن يصل قليلات إلى هذا الموقع في القيادة السياسيّة (طبعاً، استفادَ قليلات من تغيّر مزاج الرأي العام البيروتي الذي انصرف عن الزعامات التقليديّة، وكذلك من تمويل سخيّ من ليبيا ومن حركة «فتح»). ثم يقول صائب في ما بعد عن كرامي إنه أصبح «مضغةً في الأفواه. يتندَّر الكلّ عليه. كرامي يكتفي بجلسات تلفزيونيّة باتت متكرّرة لا جديد فيها» (ص. 695، ج2). صائب قاسٍ وفظُّ جداً في نقده، لكن أداء كرامي كان ضعيفاً بالفعل في تلك الفترة. وفي صيف 1975 أدلى بتصريحات جزمَ فيها أن لا جولة رابعة من القتال في لبنان ونصح اللبنانيّين بالتوجّه إلى شاطئ البحر وتنشّق الـ«يود» (أذكر ذلك التصريح، إذ كنا في صوفر في الصيف وكانت الاشتباكات تتكرّر بين الاشتراكيّين ومناصري الانعزاليّين في الشبانيّة وحمّانا. ورأيتُ ذات يوم وليد جنبلاط موفداً من قبل والده وهو يحاول أن يهدِّئ من روع أنصاره).

وفي رواياته عن تفاصيل اجتماعاته، لا يصدقنا صائب القول دائماً. خذ مثلاً اجتماعه في بيروت مع طارق عزيز. يخبرنا أن عزيز أبدى إعجاباً بشخص ميشال خوري (الذي كان صلة الوصل السريّة—وخارج الأقنية الرسميّة—بين شارل حلو والإدارة الأميركيّة، ولم ينكشف ذلك إلا بعد الإفراج عن الوثائق الأميركيّة عن تلك الحقبة). صائب يقول إنه كان بدوره معجباً بميشال خوري مع أنه يأخذ عليه «انغلاقاً جزويتياً» (ص. 684، ج2). كيف تُعجب به وأنتَ تقول إنه منغلق جزويتي؟ ثم يشرح صائب لطارق العزيز آراءه وعن الضرر في الصراع بين سوريا والعراق ويعترض على الإنفاق العراقي في «الشارع الإسلامي». لكننا نكتشف عرضاً بعد ذلك أنه كان هناك بحث بتسليح عراقي لـ«روّاد الإصلاح»، إذ يعترف صائب بأن أبو عمّار أبدى استعداداً لتوفير سيّارة عسكريّة لنقل «قطع السلاح (100 رشاش كلاشينكوف) التي وعدنا بها العراقيّون» (ص. 685، ج2). متى وعدك بها العراقيّون؟ لم تخبرنا عن ذلك؟ وهل رافق ذلك تمويل للميليشيا السلامية؟

ثم نقرأ عن خبر مصالحة بين صائب وكمال جنبلاط. فقد أخبره الصحافي في «النهار»، نبيل ناصر (وكان قريباً من موسى الصدر)، أن كمال جنبلاط يريد الاجتماع به. وتم اللقاء بين صائب وجنبلاط واشتكى الأخير من تصرّفات رشيد كرامي. ويضيف صائب: «بعد ذلك قال لي إنه لا ينظر بعين الرضى إلى نشاطات الشيوعيّين وإنه ضدّهم، وبات يخشى، جديّاً، من تماديهم في التمدّد» (ص. 686، ج2). يبدو أن كمال كان مثل ابنه وليد: يقول في السرّ غير ما يقوله في العلن. وهذه من فوائد يوميّات صائب أنه صريح في نقل ما دار بينه وبين سياسيّين من أحاديث فيظهر الفارق بين ما يقولونه في الغرف المغلقة وما كانوا يقولونه ويصرّحون به علانيةً للإعلام. وقال جنبلاط لسلام إنه—خلافاً لما كان يقوله في العلن، وخلافاً لموقف الحركة الوطنيّة الرسمي—«لا يتمسّك بمبدأ النسبيّة» في القانون الانتخابي. وكان جنبلاط قد كلّف عصام نعمان بوضع قانون انتخابي على أساس النسبيّة وأصبح ذلك من ضمن برنامج الحركة الوطنيّة. ويبدو أن موقف وليد جنبلاط في معارضة النسبيّة هو موقف أمين للموقف الحقيقي لوالده.

ويعترف صائب في بداية عام 1976 بأنه توقّف عن تدوين اليوميّات لانشغاله بالأحداث الجسام التي طالت لبنان في تلك السنة. ولعلّ هذا هو السبب لغياب تغطية في اليوميّات لسنوات صائب في الحكم في عهد فرنجيّة. يبدو أن صائب لا يدوّن إلا عندما يكون قليل المشاغل والمسؤوليّات ما يفتح ثغرة في اليوميّات. وكان يمكن تلافيها لو أنه جالس صحافيّاً في سنوات تقاعده كي يملأ فراغات اليوميّات. وكان ذلك بالضبط ما فعله مع شكري نصر الله حسب شهادة الأخير، لكن اليوميّات خلت من نصوص تلك الجلسات بينهما. ويبدو أن صائب فوجئ بحملات التهجير الطائفي من قبل «الكتائب» وحلفائه، فهو يذكر «عمليّات تهجير جماعيّ تتمّ عن طريق القتل والإرهاب لألوف المسلمين من حي الكرنتينا وجلّهم من الفقراء المعدمين، وألوف من الدامور والجيّة من المسيحيّين» (ص. 691، ج2). لكن صائب على خطأ في التوازي: قامت الأحزاب الانعزاليّة بعمليّات تهجير طائفي وإثني مقصودة من المناطق الخاضعة لسيطرتها، لكن لم يكن هناك خطة موازية في التهجير في مناطق الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. معركة الدامور أشعلها حزب الكتائب الذي كان يقطع الطريق الساحلي باستمرار، وأهل الدامور والجيّة قرّروا الرحيل لأن الرجال كانوا بمعظمهم مقاتلين في الأحزاب اليمينيّة وقد روّعوا عبر السنوات أهالي المنطقة المحيطة بهم. ويتحدّث صائب عن دور جيش التحرير الفلسطيني في تعزيز الموقف العسكري للحركة الوطنيّة. وهو على حق في قوله «لولا دخول «قوات اليرموك» التابعة لجيش التحرير الفلسطيني قادمة من سوريا لما تمكنت قوات المقاومة الفلسطينيّة ومَن يساندها من اللبنانيّين، من الصمود في وجه قوّات الموارنة» (ص. 692، ج2). إن خطة بشير الجميل في اقتحام منطقة الحمرا والاستيلاء على المصرف المركزي كان يمكن أن تنجح لولا تدخّل القوّات الفلسطينيّة في معركة الفنادق التي ردّت القوّات الانعزاليّة على أعقابها (لعبت حركة «فتح» و»الجبهة الشعبيّة» و»القيادة العامّة» و»الجبهة الديموقراطيّة» أدواراً كبيرة في تلك المعركة وإن نالت حركة «المرابطون» رصيداً وذلك بسبب تمرّس إبراهيم قليلات في الاستعراض الدعائي ولأن المقاومة الفلسطينيّة لم تكن تريد أن تجاهر بدورها في الحرب الأهليّة).

ويعيب صائب—وعن حق—على الميليشيات في «الغربيّة» سلوكَها المشين في الحرب، لكنه—للأمانة—يعترف بأن «جماعات قليلة ظلّت حتى اليوم تحافظ على شيء من التصرّف الأخلاقي وعدم التورّط في الخطف والسرقات، ومن هذه الجماعات القليلة قوّات «المقاومة الشعبيّة» التابعة لحركة «روّاد الإصلاح» بقيادة تمّام سلام». لكن لم يكن هناك دور يُذكر لـ«رواد الإصلاح»، والفساد وأعمال السرقة والجريمة شابت تجربة كل الأحزاب والميليشيات اللبنانيّة باستثناء الشيوعيّين والقوميّين السوريّين، وأقول ذلك عن معرفة بتجربة الحركة الوطنيّة في تلك المرحلة. أمّا عن ميليشيا صائب، فيحدّثنا في ذلك مرّة أخرى وأخرى: «والحقيقة أننا اليوم لم نتلقَّ درهم عَوْن من أحد، إلا مبلغ 25 ألف ليرة قدّمها لنا شاب شهم صاحب مطعم في الرياض من آل سنّو. أما باقي المصاريف التي بلغت مئات ألوف الليرات، فكنتُ لا أزال أدفعها من جيبي الخاصّ، وبفضل قطعِ أرضٍ أملكها في الدوحة، وبفضل قروض أحصل عليها. أما ما أسمّيهم «المتكالبين على المال» من أصحاب الملايين، فلم يقدّموا شيئاً رغم مطالبتي المتكرّرة لهم منذ شهرين» (ص. 692، ج2). لكن أيّ مطالب متكرّرة؟ ألم تقل لنا من قبل إنك قطعتَ التواصل معهم لأنهم رفضوا طلبك بتقديم مبلغ 200 ألف ليرة عن كلّ واحد منهم؟ ثم، كيف أنفقتَ هذه المبالغ الطائلة وأذكر أننا كنا نقول في تلك الفترة—ومن دون سخرية—إن أفراد حركة «روّاد الإصلاح» يحتاجون إلى سيّارتيْن عسكريّتيْن فقط لنقلهم. حجم ميليشيا «روّاد الإصلاح» كان صغيراً جداً ولا يزيد عن أعضاء «حزب النجادة» في حينه.

ويحدّثنا سلام عن اجتماع للقيادات الإسلاميّة في مطلع عام 1976 ويقول إن اللقاء تميّز بـ«الخناقة الحادّة التي وقعت بين رشيد كرامي وكمال جنبلاط اللذين راح كلّ منهما يكيل الشتائم للآخر بالألفاظ النابية مخوّناً إياه، وبشكل ندَرَ أن وقع بين حليفيْن في مثل هذا الجمع» (ص. 692، ج2). لو أن تلفزيون لبنان أمَّن لنا نقل ذلك اللقاء حيّاً على الهواء كي يستمتع الشعب اللبناني بمشهد احتدام الخلاف بين حليفيْن في الصف الإسلامي. لو أن هناك نصّاً مدوَّناً لحفلة الشتائم تلك. وجرى بحث في مشاريع الإصلاحات الدستوريّة المزمعة، وكان الفريق السوري يحاول أن يوفّق بين موقف فرنجيّة وموقف المعارضة الإسلامية و«الوطنيّة». وطرحَ صائب مشروعاً خاصاً به في تشكيل مجلس رئاسي من ستة أعضاء. وهذا الحلّ، بالرغم من أنه من ضمن التسويات الطائفيّة، كان يمكن أن يكون أفضل من إصلاحات الطائف التي نقلت الصلاحيات من رئيس الجمهوريّة إلى رئيس الحكومة (مشروع المجلس الرئاسي مُستقى من التجربة السويسريّة وكانت في الماضي محصورة بكوتا «كانتونيّة»، لكنها تحرّرت من ذلك أخيراً).

ويعطي صائب وصفاً دقيقاً لخلفيّة ما جرى في معركة الدامور، إذ يقول: «وصلت الأمور إلى ذروة رعبها (في كانون الثاني، 1976). فقد اشتدّ الضغط الوحشي على أهالي الكرنتينا الفقراء وعلى سكّان منطقة المسلخ، من قبل الكتائب والأحرار، بعدما سبقت ذلك أعمالٌ وحشيّة ضد مخيّم ضبيّة وفي سبنيه، وكان هجوم جيش التحرير الفلسطيني على أشدّه لمساندة أهل البقاع ردّاً على تهديم حوش الأمراء ورداً على الأعمال التي كان الكتائب والأحرار يقترفونها في كل مكان. وهكذا راحت القوات الفلسطينيّة تساند أهل برجا وحارة الناعمة ضدّ مسلحي الناعمة والدامور والسعديّات» (ص. 694، ج2). بإيجاز شديد يعطينا صائب السياق الحقيقي الذي جرت فيه معركة—وهي بالفعل معركة—الدامور. هناك جيل جديد من اللبنانيّين لا يذكر من كل هذه الجرائم الحربيّة إلا «مجزرة الدامور» لأن «الكتائب» هُزمت في الحرب، لكن سرديّتها عن الحرب لا تزال سائدة. وحركة 14 آذار بعد اغتيال الحريري اعتنقت السرديّة الكتائبيّة بالكامل وأصبح هناك من يصدّق أن القوات الانعزاليّة لم تشهر الحرب إلا ضد… التوطين، كأن المسلمين كانوا هم أيضاً يجسّدون مشروع التوطين الفلسطيني.

ويحدّثنا صائب عن لقاءيْن له مع حافظ الأسد وكيف أنه نصح بتدجين كمال جنبلاط (هو يقول إنه حذّر حافظ الأسد من «مغبّة مجابهة جنبلاط بعنف»، أي أن الموضوع العنفي طُرحَ أمامه) وروَّج لترشيح ريمون إده للرئاسة، لكن حافظ الأسد أفحمه عندما قال له إن السعوديّة تماشي الموقف السوري في معارضة ريمون إده (ص. 698، ج، 2. لكن سلام يكتشف في ما بعد، بناءً على زيارة من هاني الحسن وابنه فيصل، أن السعوديّة تفضّل إده وترفض سركيس، ص. 700، ج2، أي أن حافظ الأسد خدعه). قام ريمون إده في تلك الفترة بزيارة لواشنطن للترويج لترشيحه وقد علمتُ عن مضمون الرحلة من خلال الوثائق الأميركيّة المُفرَج عنها لأن إده في حينه زعم أنه زار واشنطن للاستطلاع. لكن جيمس ستوكر يقول، بناءً على الوثائق، إن أميركا لم ترتح إلى إده لكثرة ما كان يذكر «التآمر» بين سوريا وأميركا في لبنان (جيمس ستوكر، «حيّز التدخّل»، ص. 190). ولا يضير صائب الاعتراف بلجوئه إلى حيَل وأساليب ملتوية في العمل السياسي. يعترف بأنه سرّبَ إلى جريدة «النهار»، «وعلى لسان بعض النوّاب» (ص. 698، ج2) أن «السوريّين متمسّكون بإلياس سركيس ويقاومون مجيء إده لرئاسة الجمهوريّة». ويعلّق صائب: «وكان لذلك التسريب أثر قويّ، حيث شعرتُ بأن إلياس سركيس خسر أمام الرأي العام. على أيّ حال، سارعتُ أنا إلى نفي أن يكون مثل هذا التصريح قد صدر عنّي» (ص. 699، ج2). صائب يكذب؟ هل هذا معقول؟

ويلتقي سلام بالقائم بالأعمال الأميركي لامبراكيس (وذكرتُه في الحلقة الماضية)، لكن هذه المرّة لا يشير إليه بـ«الوزير المفوّض» تعظيماً لمقامه. ويفهم منه سلام أن هناك تفاهماً أميركياً – سوريّاً على التدخّل العسكري السوري في لبنان وعلى ترشيح إلياس سركيس ورفض ترشيح ريمون إده (ص. 699، ج2)، مع أن إده سعى لنيل التأييد الأميركي. لكن الوثائق الأميركيّة تذكر أن واشنطن فضّلت سركيس لعدة أسباب؛ منها أنه أكثر قابليّة للاتفاقات السريّة (مع واشنطن) وعدم الإفصاح عنها. لقد سعى سلام جاهداً لإيصال إده إلى الرئاسة، لكن جهات عديدة، داخليّة وخارجيّة، لم تكن تحبّذ ترشيحه.

ويتحدّث سلام ساخراً عن تقلّب موقف «المسيحيّين» (هو يقصد زعماء وأحزاب الموارنة وحلفاءهم) من التدخّل السوري في لبنان. فيقول إن «الكتائب» وشمعون «ارتموا في أحضان سوريا» ولم يعودوا يسألون «عن السيادة أو يبالون بـ»الاحتلال»» (ص. 701، ج2). ويقول إن هنري فرعون المعروف بتعصّبه المسيحي، زاره وبدا له «أشدّ من الكتائب رغبةً في «الاحتلال السوري» و»الحكم السوري» للبنان». تعود للصحف في تلك الفترة لتقرأ تصريحات مذهلة في التملّق للنظام السوري من قبل قادة الأحزاب اليمينيّة الذين روّجوا في ما بعد لأسطورة مقاومتهم المجيدة لسيطرة النظام السوري في لبنان. مديح بيار الجميل وشمعون وأتباعهم لحافظ الأسد في صيف 1976 لم يسبقه إليه مديح ولم يتبعه مثيل في المدح. وينقل سلام قولاً لرئيف أبي اللمع عن الموارنة (وفي هذا ظلم للموارنة ككلّ، طبعاً) إذ يقول: «إن الموارنة إذا جاء الإنكليز من فلسطين ليحكموا لبنان، ثق بأنهم سيفرشون المخمل الأحمر، ويلمّعون الصلبان ويسرعون حتى الناقورة لاستقبالهم، أما إن كان الأتراك سيعودون لاستعادة حكمهم في لبنان، فإن الموارنة سوف يسبقونكم إلى انتزاع سناجق الجوامع، ويتوجّهون إلى الإسكندرون لاستقبالهم. أما إذا جاء السعوديّون لحكم لبنان، فإنني أنصحك بشراء كلّ ما في السوق من «عقالات» وكوفيات، لأن سعرها سوف يرتفع كثيراً» (ص. 702، ج2).

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية