سينما 2015.. تجارة النجوم وتجارة المحرقة
العام السينمائي الدولي 2015 مليء بألف حكاية ومسألة. الحراك الإبداعي لا يهدأ، تماماً كالتجاريّ الاستهلاكيّ. النتاجات لا تتوقّف عن ضخّ ملايين الدقائق البصرية الساحرة ـ الآسرة، أو الساذجة ـ المسطّحة، أو ما بينهما. القضايا كلّها مطروحة لنقاش واشتغال. التقنيات الحديثة والأكثر تطوّراً عاملٌ مساعد، أحياناً، على إبداع درامي ما. العام المقبل يَعِد بمزيدٍ من هذا كلّه، واضعاً بعض العناوين نفسها أمام الكاميرا للمرة المليون.
ينتهي عامٌ سينمائيّ آخر، مُحمَّلاً بتناقضات المشهد الدولي. في السياسة والاقتصاد والاجتماع: كَمٌّ هائلٌ من الانهيارات والفوضى والجنون والدم والغبار الأسود والتحوّلات الخطرة. في الثقافة والفنون: تحدّيات جمّة. العام الآيل إلى أفوله يشهد موتاً كثيراً في الاتجاهات كلّها. في فرنسا مثلاً، يبدأ العام 2015 بجريمة اعتداء إرهابي على جريدة «شارلي إيبدو» (7 كانون الثاني) تحصد أرواح 12 شخصاً، وينتهي بجريمة أفظع وأشنع (13 تشرين الثاني)، تمتد من مسرح «باتاكْلان» ومحيطه إلى أكثر من مكان في باريس وضواحيها (130 قتيلاً ونحو 350 جريحاً). الردّ الأساسي كامنٌ في حراك ثقافيّ ـ فنيّ يستكمل مشاريع المواجهة النهضوية، ويُفعِّل معنى اللغة في مقارعة سيفٍ ملطّخ بالقتل والتنكيل.
افتتاحيات أعداد كانون الأول 2015 لمجلات سينمائية شهرية فرنسية عديدة تلتقي عند فعل التحدّي والثبات والاستمرار. لكن العام السينمائيّ الدولي معقودٌ على «صراعٍ» آخر، ينتهي سريعاً لمصلحة أحد الطرفين. صحيحٌ أن المنافسة تبدو محسومة قبلاً. لكنْ مريدي كلّ طرف يرتكزون على أرقامٍ تؤكّد غلبة المنضوين في لوائه السينمائيّ، وإنْ تبدو غالبيتهم الساحقة متيقّنةً من الغلبة قبل إعلان الأرقام.
صراع فيلمَيْن
منذ نهاية صيف العام 2015، تنطلق حملات ترويجية متفاوتة «القوّة» لجزءين جديدين من سلسلتين سينمائيتين مؤثّرتين في المشهد الدولي في مستويات عديدة: جماليات بصرية، وبراعة تقنية هائلة في استخدام التطوّر التكنولوجي الهائل، وإيرادات عالية، ومعانٍ تتضمّنها نصوص متحوّلة إلى صُوَرٍ تمزج حساسية الراهن بفانتازيا الخيال العلمي، أو بما هو خارج كلّ متخيّل ممكن. حملات ترويجية كهذه تُحدِّد لمريدي السلسلتين بعض معالم الجديد المنتظر، من دون الكشف عن خفايا لا يزال بعضها مُصاناً بسرّية مطلقة لغاية الآن (ميزانية الإنتاج مثلاً).
في 6 تشرين الثاني 2015، تُفتح الستائر كلّها على مغامرة جديدة للعميل البريطاني جيمس بوند، بعنوان «شبح» (Spectre) لسام مانديز، بميزانية مُعلنة تساوي 245 مليون دولار أميركي. في 18 كانون الأول 2015، يحتلّ مئات آلاف المهووسين بـ «حرب النجوم» مقاعد مئات الصالات السينمائية في العالم، لمتابعة وقائع الحلقة الجديدة «يقظة القوّة» لجي. جي. أبرامز، من دون الإفصاح عن الميزانية الرسمية للإنتاج، علماً أن معلومات متفرّقة تشير إلى رقم 200 مليون دولار أميركي، في حين أن الموقع الإلكتروني «ديدلاين دوت كوم» ـ المتخصّص بصناعة السينما ـ يذكر أنْ «لا أحد» في شركة «ديزني»، صاحبة الملكية الفكرية والعوالم كلّها الخاصّة بالسلسلة (بعد شرائها من جورج لوكاس بـ 4 مليارات و50 مليون دولار أميركي في 30 تشرين الأول 2012)، «يؤكّد الرقم هذا».
أيّاً يكن، فإن أرقاماً أخرى تضع «شبح» العميل 007 جانباً (بالإضافة إلى قراءة نقدية سلبية له)، إذ يتبوّأ «يقظة القوّة» رأس القائمة «في وقت قياسيّ»: في 11 يوماً فقط (18 ـ 28 كانون الأول 2015)، تتجاوز إيراداته الدولية عتبة المليار دولار أميركي بـ 161 مليوناً و85 ألفاً و429 دولار أميركي. بهذا، يحتلّ الفيلم المرتبة الأخيرة (لغاية الآن) في لائحة «الـ 10 أفلام الأولى كإيرادات في تاريخ السينما»، التي يحتلّ فيلما جيمس كاميرون مرتبتيها الأولى والثانية: «أفاتار» (2009)، الحاصد بفضل عروضه الدولية مليارين و787 مليوناً و965 ألفاً و87 دولاراً أميركياً، في مقابل ميزانية تساوي 387 مليون دولار أميركي، منها 150 مليون دولار أميركي خاصّة بالـ «ماركيتينغ»؛ و «تايتانيك» (1997) المحقِّق من العروض الدولية أيضاً مليارين و186 مليوناً و772 ألفاً و302 دولار أميركي، لقاء 200 مليون دولار أميركي كميزانية. بهذا، يقترب «يقظة القوّة» من «غاضب 7» لجيمس وان (الحلقة الـ 7 من سلسلة «سريع وغاضب»)، الذي تصل إيراداته الدولية إلى مليار و515 مليوناً و47 ألفاً و671 دولاراً أميركياً، لقاء ميزانية تبلغ 190 مليون دولار أميركي فقط.
أما العميل البريطاني، فلم يتسنَّ له اللحاق بـ «عبقرية» السلسلة التي يبتكرها جورج لوكاس في العام 1977، إذ تبلغ إيراداته الدولية (6 تشرين الثاني ـ 28 كانون الأول 2015) 850 مليوناً و389 ألفاً و955 دولاراً أميركياً (الميزانية: 245 مليون دولار أميركي).
«ماركيتينغ» والمحرقة
بعيداً عن لغة الأرقام، غير المنتهية بانتهاء العام 2015 لاستمرار العروض الدولية للفيلمين هذَيْن، لم يحصل «شبح» على قراءات نقدية إيجابية، ولم يحصد «يقظة القوّة» نقداً متوافقاً ومعنى «هجومه» الكبير على الصالات السينمائية الدولية. النقد يُهاجِم التراجع «الفظيع» في الـ «نكهة» الخاصّة بجيمس بوند، و «يُعيب» على «يقظة القوّة» انغماسه الأكبر في التقنيات الأحدث والأكثر تطوّراً. غير أن الصحافة تتجاوز هذا إلى نمط آخر من التعامل مع الفيلمين، ينضوي ـ بشكل أو بآخر ـ في إطار الـ «ماركيتينغ» الخاصّ بها، أو بالفيلمين: أعداد مستقلّة لمجلاتٍ، بعضها سياسي أسبوعي، تروي فصولاً تاريخية وراهنة من حكاية السلسلتين. صحيحٌ أن الغلبة، هنا أيضاً، لـ «يقظة القوّة»، إذ تمّ استدعاء العلوم كلّها تقريباً لتحليل «كلّ شاردة وواردة» في السلسلة. لكن جيمس بوند، بدوره، قادرٌ على استقطاب عارفين بشؤون إنسانية وثقافية وفنية مختلفة، لقراءة تاريخه وتحوّلاته ومساراته وارتباطاته بأزمنة وانقلابات وحكايات.
بالنسبة إلى «يقظة القوّة»، فإن عديدين هم الذين ينقّبون في معالمه: علماء اجتماع ونفس وتاريخ وفكر سياسي، ودارسو حضارات قديمة ورموزها. هوسٌ ثقافي فكري يُمعن تحليلاً وتفكيكاً، ويعرّي «حرب النجوم» برمّتها، كاشفاً تفاصيل وخفايا، ومُسقطاً على مضامينها الدرامية أفكاراً وإيديولوجيات وعلوماً.
غير أن العام السينمائيّ 2015 لن يكون محصوراً بالفيلمَيْن هذين. «ابن شاول» للهنغاري لازلو نيميس يُعيد طرح سؤال صناعة أفلام المحرقة، ومدى علاقتها بصناعة المحرقة نفسها. هذا على الرغم من تمتّع الفيلم بلغة سينمائية متماسكة ومتينة الصُنعة ومؤثّرة وساحرة، في مقابل غياب بصري شبه كامل لفعل الجريمة النازية بحدّ ذاتها. لغة تختلف كلّياً عن لغة أفلام سابقة في الإطار نفسه، وجماليات تتفوّق على وجع الجريمة ونتائجها. الفعل الجُرميّ ماثلٌ عبر عينيّ يهوديّ مجريّ يبحث عن سبيلٍ لدفن دينيّ شرعيّ سليم لصبيّ مراهق، ما إن ينجو من موت محتّم داخل أحد أفران الغاز في «أوشيفتز» (1944)، حتى يخنقه طبيب نازي برتبة ضابط. أهمية الفيلم تتشعّب في اتّجاهات عديدة: نصّ محبوك بمتانة درامية وإنسانية مؤثّرة؛ تصوير يُلغي كل ما يُحيط بالشخصية الرئيسة، عبر كاميرا تبدو كأنها محمولة على كتفي الممثل غيزا روهر (أو بالأحرى داخل عينيه)؛ ابتعادٌ عن الفعل المباشر للجريمة، في مقابل توغّل درامي ـ إنساني في أعماق ذوات ذاهبة إلى حتفها، أو داخل نزاعات قائمة بين يهود؛ إلخ.
فيلمٌ كهذا يُشاهد في بودابست بكثافة. تقارير صحافية تفيد أنه أول فيلم محليّ يستقطب نحو 300 ألف مُشاهد في الأسابيع الأولى لبداية عرضه التجاري. «حرّاس المحرقة»، وعلى رأسهم كلود لانزمان، يُشيدون به. لكنه لن يدخل في قوائم «أفضل 10 أفلام في العام 2015» إلاّ نادراً. يفوز بـ «الجائزة الكبرى» في الدورة الـ 68 (13 ـ 24 أيار 2015) لمهرجان «كانّ»، وبجائزة «أفضل أول فيلم» من «جمعية النقّاد السينمائيين في نيويورك» (2 كانون الأول 2015)، ويتمّ اختياره في اللائحة القصيرة لترشيحات «أوسكار 2016» في فئة «أفضل فيلم أجنبي».
هذه ملاحظــــات ومعطيات. العام السينمائي المنتهي اليوم يتّسع لكثيرٍ من الحكايات. العام المقبل أيضاً.
«تاكسي» باناهي
مرّة جديدة، يحتلّ الإيرانيّ جعفر باناهي واجهة المشهد الدولي. مفاعيل القرار القضائيّ الإيراني بمنعه من تحقيق أفلام وبإقامة جبرية مستمرّة في إبرازه والاهتمام به. 3 أفلام يُحقّقها منذ العام 2010، تاريخ صدور القرار هذا، آخرها «تاكسي» (2015) الفائز بـ «الدب الذهبيّ» في الدورة الـ 65 (5 ـ 15 شباط 2015) لـ «مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)».
يُجمع عديدون على أن ظاهرة باناهي لم تعُد سينمائية. الاحتفال الدولي به منطلقٌ من منبع لا علاقة له بالفن السابع. «تاكسي» أقلّ أهمية سينمائية من عناوين سابقة له، وأقلّ براعة في تفكيك الاجتماع والسياسة الإيرانيّين. مع هذا، يُمنح جائزة أولى في أحد أهمّ 3 مهرجانات دولية.
أفضل 10 أفلام أجنبية في الـ 2015
هذه لائحة شخصية مختارة بشيء من الصعوبة، إذ تتكاثر الأفلام الأجنبية المثيرة لمتعة المُشاهدة، والمحرِّضة على مزيد من التفكير والتأمّل والنقاش:
1ـ) «ابن شاول» (Son Of Saul) للازلو نيميس.
2ـ) «صحراء» (Desierto) لجوناس كوارون.
3ـ) «ذي بيغ شورت» (The Big Short) لآدم ماكاي.
4ـ) «يوميات مُراهِقَة» (The Diary Of A Teenage Girl) لمارييل هيلّر.
5ـ) «أجْدَدُ عهدٍ جديدٍ» (Le Tout Nouveau Testament) لجاكو فان دورميل.
6ـ) «سبوتلايت» (Spotlight) لتوماس ماك كارثي.
7ـ) «شباب» (Youth) لباولو سورّينتينو.
8ـ) «حقيقة» (Truth) لجيمس فاندربيلت.
9ـ) «الكركند» (The Lobster) ليورغوس لانتيموس.
10ـ) «النهر الذي لا نهاية له» (The Endless River) لأوليفر هرمانوس.
صحيفة السفير اللبنانية