سُلالة العجائبيّ| في روايات كاتب ليبي.. النّاقد التّونسي البشير الجلجلي
من لا يتصدّر للعجائبي لا يُدرك معناه، ومن يحبّ أن يُكرِم كلّ عجيب ومعجب ومستعجب وعُجاب فما عليه إلاّ أن يتتبع خطاه ليدرك كنه أصله ونبع مأتاه. وهذا بالضّبط ما فعله النّاقد البشير الجلجلي عندما تصدّر للكتابة عن “العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الرّوائية” فجاء كتابه بالعنوان نفسه مرآة عاكسة للعجائبي وغوصا فيه بذائقة تغوص وتمتص الرّحيق، رحيق العجائبي، حتّى تثمُل فيكون الحديث عن العجائبي من طينة المتن المتحدّث عنه يخرج من بين فرث روايات الكوني ودمها عجائبيا صِرفا سائغا للقارئين.
أجدني وأنا أقرأ كتاب “العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الرّوائية” للناقد البشير الجلجلي (دار سوتميديا للنّشر 2020) أعود إلى مكتبتي لأتصفّح كتابا لعبدالملك مرتاض بعنوان “الميثولوجيا عند العرب، دراسة لمجموعة من الأساطير والمعتقدات العربيّة القديمة” الصادر عن المؤسّسة الوطنية للكتاب والدار التونسية للنّشر 1989. بينما أجدني أمْيَلَ وأنا أقرأ أيّ عمل روائي من أعمال إبراهيم الكوني إلى الغوص في كتاب للمغربي محمّد أوسوس بعنوان “دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي” الصادر عن المعهد الملكي للثّقافة الأمازيغية بالمغرب سنة 2007 خاصّة وأنّ العجائبي عند إبراهيم الكوني حسب ما ذهب إليه الجلجلي وأحسبه على صواب ليس مجرّد حِلية أو مرجع أو مطيّة من مطايا التّسريد وإنّما هو “سُلالة سرديّة” (الجلجلي ص 15- 16) تنهل من موروث عربيّ تراثيّ تليد لا شكّ أنّ الكوني قد تشبّع به من خلال ثقافته ومطالعاته وأبحاثه وتشرّبه أيّما تشرّب حتّى رشح منه في كلّ أدبه، من خلال انتمائه الثّقافي والحضاري إلى الحضارة العربيّة الإسلامية في أبعادها المختلفة.
كما تنهل من حضارة حاضرة آنا ومكانا، يحيا فيها الكوني، ويحياها، ويحيا بها، فتُحييه ويُحييها كتابة وسردا من خلال ما سمّاه الجلجلي “سُلالة العجائبي”، وذاك جوهر الجدل في الحضارة الأمازيغية عموما والطّوارقية على وجه الخصوص بين العناصر الثلاثة، الأرض واللّغة والإنسان. ذلك الجدل الذي جسّده الكوني في أعماله الرّوائية ودراساته النّظريّة التي تكشف كما تفطّن إلى ذلك الجلجلي مدى عجائبيّة هذا الرّجل الموغل في الأصالة بمصراعيها الأمازيغي الأصيل والعربي الترّاثي التّليد والضّارب خيمتَه في خضمّ الحداثة وهو الباحث المتمرّس المتقن لتسع لغات والمرتحل الذي لا ينقضي عنه الرّحيل كما يقول محمود المسعدي.
فإذا العجائبي عند الكوني كما نفهم من خلال كتاب الجلجلي سفر الإنسان القَلِق بين الشّكل والمعنى في بحث مطّرد عن إجابة عن سؤال المعنى. فالكوني هو ذلك الواقع في أحابيل الحداثة والتقدّم فكرا وثقافة وربّما نمط حياة، لكنّه أيضا ذاك المضمّخ بعطر الأصالة من إخمصيْ قدميه إلى أمّ رأسه، ذاك الذي يركبه سؤال التقدّم والنّهوض الذي لا يراه ينبجس من أرضه ومهده وعشيرته الأقربين مع أنّ كلّ مقوّماته متوفّرة في الفضاء الشّاسع الغنيّ بموارده وبإنسانه المعاند المصرّ على الحياة، ذاك الذي مثّل له الكوني بــ”أسوف” المتحوّل إلى “ودان” هروبا من الكابتن “بورديللو” يُراق دمه في لحظة تردّد مارقة تعصف بـ”آدم” فينشأ العجائبي فيه ومنه سفرا قلِقا بين الشّكل والمعنى وقد ركبه السؤال حول “أسوف” و”الودّان” ومعنى تحوّل الأوّل إلى شكل الثّاني. لحظة التردّد التي نشأ فيها العجائبي لحظة فارقة تنبّه إليها الجلجلي بفطنة النّاقد الحصيف ودقّة الباحث الثّاقب. ولذلك فقد قالت عنه الدكتورة مريم جبر من الأردن “تتأتّى أهمّية هذه الدّارسة من مركزيّة منطلقها النّظري والإجرائي الذي تخيّره الباحث ليتتبّع جماليات سرديّة التعجيب في بعض الأثر من تجربة الكوني الإبداعية التي تركت أثرها في مسيرة الرّواية والنّقد العربيّيْن على حدّ السّواء”.
هذا التفطّن الدّقيق إلى لحظة انبجاس العجائبي هو حتما سليل وعي نظريّ وخبرة في البحث والنّقد يشهد بها له الدكتور عبدالعالي بوطيّب من المغرب حين يقول “امتلك النّاقد البشير الجلجلي في عمله هذا إضافة إلى المعرفة النّظريّة الدّقيقة الخاصّة بمفهوم العجائبي في علاقته بالمفاهيم المجاورة كالغريب والعجيب والفوق طبيعي، فله قدرة عالية مكّنته من تصريف المفهوم وتوظيفه في مقاربة روايات إبراهيم الكوني. وهو ما جعل هذه الدّراسة إضافة هامّة إلى المشهد النّقدي الرّوائي العربي”. بينما يكتسي هذا الكتاب خطورة بالغة عند النّاقد التونسي رضا بن صالح لما يتوفر فيه حسب رأيه من حفر في المجالات التي يرتادها الكوني في أعماله الإبداعيّة والنظريّة إذ يُشيد به قائلا “يكتسي هذا الكتاب خطورة كبيرة لكونه قد تصدّى لتجربة إبراهيم الكوني المنقّب في اللاوعي الجمعي للطوارق. ولا تقف خطورته عند حدود المدوّنة بل ترتبط بموضوع العجائبيّ وما يطرح من مزالق ورهانات كبرى. ويعود مصدر الخطورة الثّالث إلى تنزيل روايات الكوني منزلتها المابعد حداثيّة وتبيّن ميسمها التّجريبي في المنجز الرّوائي العربي”.
ولئن كان الكوني منقّبا في اللاوعي الجمعي الطّوارقي كما جاء في قول بن صالح، فإنّ الجلجلي في هذا الكتاب كان منقّبا في وعي إبراهيم الكوني ولاوعيه، في دراساته البحثيّة الدّقيقة وفي كتاباته السّردية التي لا تخلو من بحث ونظر وتدقيق. فالكوني كما قد فهمنا من خلال الجلجلي يكتب نصّا مركّبا تتّسع فيه الدّوائر بقدر ما تضيق، وتضيق فيه بقدر ما تتسّع وتلك بعض سمات الأدب مابعد الحداثي.
فأعمال الكوني تدور رحاها غالبا في دائرة ثقافة خاصة إثنية ولغوية مخصوصة لا يخفيها الكوني، بل لا يستطيع أن يُخفيها حتّى وإن أراد ذلك فأعماله تشي بذلك وتشدّد عليه. غير أنّ ذلك لا يمنعها من أن تتّسع لتسع العالم فتعولمه شكلا ومضمونا بما تعالجه من قضايا إنسانية وما تطرحه من أفكار ناشئة في بيئة الكوني العجيبة ومن شخصه العجيب.
هذه البيئة التي تستميت لتحيا، وهذا الإنسان والكوني بعضه الذي يصرّ على الحياة والانتصار والبقاء وإلاّ ما معنى أن تسيل دماء “أسوف” فتكتب على اللّوح الحجري “بـ”التيفيناغ” وليس بغيرها من الأبجديات. و”التيفيناغ” رمز للحياة ولعودة اللّغة والهويّة والحياة. أليست “التيفيناغ” هي تلك الحروف التي يرسمها الطّوارقي على الرّمل لشأن ما ثمّ ما يفتأ أن تذروها الرّياح لكن الطوارقي يجدّد رسمها في لعبة محو ومعاندة لا تنتهي بين الإنسان والصّحراء. وعليه ندرك من خلال كتاب الجلجلي أنّ الكوني قد قصد إبرازها لأنّ مشروع الكوني مشروعٌ هوويّ لا يكتمل إلاّ ببناء الإنسان وتحقيق جدله الدؤوب مع الأرض واللّغة.
ومن كلّ هذا يتوالد العجيب وينثال علينا في هذا الكتاب مشروحا مدروسا مبسّطا بشكل أكاديمي مبوّب يجعل من يقرأه ينتشي انتشاءه بقراءة الأصل، أي أعمال الكوني، رغم أنّ الجلجلي نفسه يعترف أنّ الكتابة على الكتابة صعبة كصعوبة الكلام على الكلام. وبسبب تلك النّشوة المزدوجة فقد عنون الدكتور فؤاد القرقوري تصديره للكتاب بـ”ومن العجائبي ما قتل…” بينما عنون الدكتور الحبيب العوّادي تصديره بـ”لعبة العجائبي”.
ومن القتل بما هو جدّ مفرط ومن اللّعب بما هو مزاح أو ترفيه وهزل مفرط أحيانا يتولّد العجائبي مسفوحا دمه بين مصطلحات عديدة هي “الغريب” و”العجيب” و”الفوق طبيعي”. وكي لا يلتبس الأمر على القارئ فقد قدّم الجلجلي بين يديه وعينيه ولبّه تدقيقا نظريّا في هذه المصطلحات موغلا في الإمساك بتفاصيلها وفي تبيين الفويرقات بينها ليستقرّ به الأمر في الاطمئنان لمصطلح “العجائبي” الذي سيتتبع في الكتاب تجلّياته وأثره وتمظهراته الشّكلية ومآتيه في أعمال إبراهيم الكوني.
واقتداءً برأي عبدالملك مرتاض في الرّواية حين قال عنها في مقدّمة كتابه “في نظريّة الرّواية، بحث في تقنيات السّرد” الصادر عن سلسلة عالم المعرفة عدد 240 لشهر ديسمبر 1998 “الرّواية هذه العجائبيّة…”، فقد عكف الجلجلي على أعمال الكوني وأشبع بعضها تدقيقا ونخلا حتّى يُخرج ملامح هذه العجائبيّة، وتمظهراتها، ومآتيها في تتبّع شيّق رائق بعد أن ميّز بجلاء بين مصطلح “العجائبي” والمصطلحات المجاورة بدقّة. لذلك قام الكتاب على ثلاثة أبواب:
خاض الباب الأوّل في “إشكالية مفهوم العجائبي في الرّواية العربيّة الحديثة” من خلال ثلاثة فصول اعتنى في أوّلها باستقصاء مفهوم العجائبي ومرادفاته في المدوّنة الغربيّة والمدوّنة العربية ثمّ في أعمال إبراهيم الكوني. وبعد هذا الاستقصاء قدّم الباحث في الفصل الثّاني “حدّ العجائبي” لغة واصطلاحا. ثمّ خلُص في الفصل الثّالث إلى أنّ “العجائبي علامة تجريبيّة في الرّواية العربيّة الحديثة” من خلال نماذج من الرّواية العربيّة الحديثة ومن خلال رواية “الخسوف” لإبراهيم الكوني بشكل خاص.
ثمّ جمع جمّ خلاصاته في خاتمة الباب الأوّل لينطلق بالقارئ إلى عوالم العجائبي في “نزيف الحجر” لإبراهيم الكوني في الباب الثّاني الموسوم بـ “من مظاهر العجائبي ومآتيه في نزيف الحجر” الذي جعله بعد تمهيد فصلين. كان الأوّل بعنوان “من مظاهر العجائبي” وتتبّعها من خلال ثلاثة مظاهر هي “تعجيب الشّخصيّات” و”تعجيب الفضاء” و”تعجيب الزّمان”.
في حين عنون الثّاني بـ”من مآتي العجائبي” وقد ركّز فيه بعد تمهيد على أربعة منها وهي “الديني” و”الأسطوري” و”التّاريخي” و”الصوفي”، ليخلص في خاتمة الباب إلى القول في الصفحة 104 “وفي المحصّلة، حاولنا أن نظفر ببعض مظاهر العجائبي في ‘نزيف الحجر’ والتي اعتمدنا فيها الشخصيات والزّمان والمكان. وقد أبانت رسوخ الرّواية في ‘العجائبي’ الذي قُدّ من خيوط عديدة أوّله ديني وثانيه أسطوري وثالثه تاريخي ورابعه صوفي. وقد حاول الكوني أن يعرّي بعض وجوه العجائبي من خلالها، تاركا للقارئ مهمّة الكشف عن خباياه وهي مصادر اعتمدها الكوني لبناء ‘شخصيّة العجائبي’ في الرّواية كتقنيّة فنّيّة أثّرت في المسار السّردي تأثيرا فنّيّا ودلاليّا”.
ولأنّ مهمّة القارئ الكشف عن الخبايا في الرّواية فقد أراد الجلجلي لنفسه أن يكون قدوة في هذا المضمار، ولذا واصل الحفر في الباب الثّالث الذي سمّاه “العجائبيّ منحى فنّيا ودلاليّا” حيث تناول فيه بعد التّمهيد في الفصل الأوّل “العجائبيّ عنصرا فنّيّا بؤرويّا” مبرهنا على ذلك من خلال تقديم نماذج في “تعجيب اللّغة” بالاعتماد على جداول إحصائية مهمّة تنبئ بدقّة الباحث وأخرى في “تعجيب السّرد” وثالثة في “تعجيب الوصف” ليصل إلى محاولة الإجابة عن دلالات هذا التعجيب في الفصل الثّاني “العجائبي وروح الدّلالة” الذي تناولها من خلال ثلاثة نوافذ الأولى أطلت بنا على “الرّواية والدّلالة” والثّانيّة وقفنا من خلالها على “العجائبي ولعبة الحضارة” بينما تلصّصنا بعين الباحث من الثّالثة على “العجائبي ومشروع الهُويّة (الأيديولوجيا المقنّعة)”. ليصل بنا ككلّ باحث جادّ لا يطمئنّ لما وصل إليه إلى السؤال حين يصرّح في الصفحة 153 “ولكنّ السؤال الرّئيس: ألم يُصِب إبراهيم الكوني روايته بـ’الخرس’ الدّلالي عندما اعتمد كلّيا على الصّحراء فضاء تدور فيه جل أعماله القصصيّة، لهاثا حثيثا وراء الوطن المفقود من خلال بحث ‘الطارقي’ عن ‘واو الصّغرى’ واو ‘الوطن – الحلم’؟ ولكن ألا يندرج هذا الانحياز إلى الفضاء الواحد (الصّحراء) في صُلب مشروع روائي قدّه إبراهيم الكوني من خصوصيّات الوطن العربي وامتداد صحاريه جغرافيّا وعبر الذّاكرة الشّعريّة والشّفوية ربطا بالأقانيم وخلقا لفنّ روائيّ جديد”.
ثمّ يغلق مصارع الكتاب ككلّ باحث جادّ بمسرد ثمين للمصطلحات الواردة في الكتاب باللّغات العربية والفرنسية والإنجليزية. فكان الكتاب بذلك عجائبيّا في موضوعه، طريفا في تناوله وعجائبيّا في تتبّع عجائبيّة إبراهيم الكوني في أعماله. وهي عجائبية تدعو إلى التّوسل بكتاب “العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الرّوائيّة” لفهمها واستجلاء مظاهرها ومآتيها وإدراك دلالاتها وأبعادها.
مجلة الجديد اللندنية