يُمكِنُنا القولُ إنَّ الحُضورَ السُّوريَّ في مُقاوَمةِ الكيان الصهيونيِّ في فلسطينَ المُحتلّة ولبنان، كانَ أساسَ الدَّعْمِ والتمويلِ والبِناءِ والتّدريب، وهذا كلامٌ يُثْبِتُهُ التاريخُ، وتُؤكِّدُهُ الجغرافية من خلال مراكز التدريب التي انتشرَتْ في الأراضي السورية كُلِّها، من أجل تدريب المُقاتلِينَ والفدائيّينَ لمُقاوَمةِ المشروع الصهيونيّ، وقبلَ ذلك، ما نَهَضَ بهِ أبناءُ سورية، وعلى رأسهم عزُّ الدِّين القسّام، وفوزي القاوقجي قائدُ جيشِ الإنقاذ، الذي كانَ أساسُهُ نُخبةً من الضُّبّاط السُّوريّين وعدداً كبيراً من صفِّ الضُّبّاط والجنود السوريّين، وقد شُكِّلَتْ أفواجٌ عدّة من المُتدرِّبينَ السُّوريّينَ والعراقيّينَ وبعض العرب، ليَدْخُلُوا لاحقاً الأراضي الفلسطينيّةَ المُحتلّةَ، بعدَ تدريبهم مُدّةً في مُعَسْكَراتٍ في منطقة “قطنا” في مُحافظةِ ريفِ دمشق على أيدي ضُبّاطٍ وعسكريّين سُوريّين وتحتَ إشرافهم، بل إنَّ تعزيزَ الفِكْرِ المُقاوِم، عملاً، لا قولاً، كانَ مبدأً لا يتزعزعُ من مبادئ حزب البعث في مَنْحِ العُضويّةِ إلى الراغبين، بعدَ اشتراطِ تنفيذِ عمليّةٍ تستهدفُ الصهاينةَ في الأراضي المُحتلّة.
والحقيقةُ أنّ هذا النَّهْجَ كانَ من ثوابتِ الدولة السورية في تاريخها الحديث والمُعاصِر، وكانَ أساسَ الرؤية التي انطلقَ منها الرئيسُ الخالدُ حافظُ الأسد، وهو الذي أسهمَفي تأسيسِ مراكز تدريبِ الفلسطينيين على الأراضي السورية وتعزيزها منذُ أنْ كانَ وزيراً للدِّفاع، وهو ما يعني دوراً بارزاً لسورية في تأسيس الفصائلِ والحرَكاتِ المُقاوِمَة وتخريجِ قادَةِ الصفِّ الأوّل للمُقاوَمة من المُعَسكرات السورية، وغالبيّةُ هذه الحركات أُسِّسَتْ في نهاية السِّتينيّات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بمعنى أنّها أُسِّسَتْ برعاية الدولة السورية ودَعْمِها وتدريبها، وهو ما يعترفُ به ويُؤكِّدُهُ قادَةُ المُقاوَمة ومُؤَسِّسُو حرَكاتِها وفصائلِها، ومنهم الأمينُ العامُّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين- القيادة العامة- أحمد جبريل، فقد تحدّثَ عن تقديمِ وزير الدِّفاع الرفيق حافظ الأسد كُلَّ أشكال الدعم في سبيل مُقاوَمة العدُوّ، ولا سيّما بعدَ وُصولِه إلى الحُكْم،إذ زادَ الدَّعْم السُّوريّ لقُوى المُقاوَمة، وزادَت المساحاتُ المُقدَّمة إليها لتدريبها، وهو ما حدثَ معَ الشهيد صلاح خلف “أبو إياد”،إذ قدّمت الدّولةُ السُّوريةُ مساحةً كبيرة في منطقة “الهامة” في ريف دمشق لتدريب المُقاوِمين.
وعلى الرغم من وجود اختلافاتٍ في بعضِ وجهات النظر بينَ الدولة السُّوريّة وبعض الفصائل المُقاوَمة، لكنَّ الالتزامَ المبدئيَّ الثابتَ لسورية في دعم القضيّة الفلسطينية دُونَ شروطٍ كانَ هو النَّاظِمَ لعلاقتِها بقُوى المُقاوَمة، ولهذ ادعمتْ جميعَ الفصائل والتنظيمات المُقاوِمَة للمشروع الصهيونيّ، سواء أكانتْ قوميّةً أم إسلاميّةً أم يساريّة، وكانَ الاحتضانُ السُّوريُّ لها كاملاً، عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، وهذا ما كانَ لهُ الأثرُ الأكبرُ في مُواجهة الاحتلال الصهيونيّ، وأدّى إلى حالةٍ من العداء والحصار الغربيّ، والاعتداءات الصهيونية المُستمرّة على سورية، كما أنّ الدَّعْمَ السُّوريَّ الكبيرَ لحركاتِ المُقاوَمة اللُّبنانيّة، وعلى رأسها حزبُ الله، منذُ تأسيسِه في مطلع الثمانينيات، كانَ لهُ الدَّورُ الأكبرُ في تقوية الحزب وتحقيقِهِ كثيراً من الانتصارات التي تمّتْ بفضلِ صُمودِ الحزبِ ومُقاوَمتِه والدَّعْمَينِ السُّوريِّ والإيرانيِّ الكبيرَينِ له، وهو ما أكّدَهُ الأمينُ العامُّ لحزب الله القائدُ الشهيدُ حسن نصر الله في أكثرَ من مُناسبة، ففي كلمةٍ لهُ عقبَ رحيلِ الرئيس حافظ الأسد قالَ نصرُ الله: “نحنُ نفهمُ قيمةَ هذا الرَّجُلِ في مُعادَلةِ الصِّراعِ العربيِّ الصهيونيّ من خلال هذه التجربة، ونحنُ في العشرينَ سنةً نُقدِّرُ ما فعلَهُ هذا الرَّجُلُ لمشروع المُقاوَمة في المنطقة”، وقد استمرَّ هذا الدعمُ على أعلى المُستَوَيات في زمن الرئيس بشّار الأسد، وكانت نتائجُهُ واضحةً في حرب تمُّوز عام ٢٠٠٦م،من خلال الدَّعمِ الماديِّ والعسكريِّ الكبير للحزب وفَتْحِ الحُدودِ كافّةً لتقديم كُلِّ ما يحتاجُإليهِ الحزبُ والمُقاوَمةُ في لبنان، إضافةً إلى الدعم السوريِّ السياسيّ المُطلَقِ له في المَحافلِ العربيّة والدوليّة والتّصدِّي لمُحاولاتِ إدانَتِه أو النَّيلِ منهُ وتفكيكه، وإذا كانَ الشهيدُ حسن نصر الله قد أكّدَ في خطاباته وتصريحاته أنّ الشهيدَ اللواءَ قاسم سُلَيماني نهضَ بدورٍ فاعل في تطوير العلاقة معَ فصائلِ المُقاوَمة الفلسطينيّة كُلِّها على اختلافِ توجُّهاتِها وانتماءاتها، فإنّهُ كشفَ بوضوح أنّ إيصالَ صواريخ “الكورنيت” إلى فصائل المُقاوَمة الفلسطينيّة في غزّةَ كانَ من خلال الشّهيد سُلَيماني، وأنّ “الكورنيت” التي استخدمَها حزبُ الله في حرب تمُّوز عام ٢٠٠٦م،حَصَلَ عليها من السُّوريّينَ الذينَ اشْتَرَوها من أموالهم، وكانتْ نتائجُها فاعلةً وكبيرةً في تلك الحرب، وأوضحَ الشهيدُ نصرُ الله أنّ الرئيسَ بشّار الأسد وافقَ على إيصال “الكورنيت”، التي اشتَرَتْها دمشقُ من الرُّوسِ، إلى “حماس” و”الجهاد الإسلاميّ” في غزّة، ولم تكُنْ لدى الرئيسِ السُّوريِّ مُشكلةٌ في وُصولِها إلى هذه التنظيمات، كما كانَ مُتَفهِّماًعلاقةَ الحزبِ معَ حركة حماس بعدَ الحرب على سورية عامَ ٢٠١١م.
ويُؤكِّدُ المُعاوِنُ السّياسيُّ للأمين العامِّ لحزب الله حسين خليل في لقاء على قناة المنار “أنّ الجيشَ السُّوريَّ قدّمَ الإمداداتِ العسكريّةَ إلى المُقاوَمة طوالَ أيام حرب تمّوز”، مُؤكِّداً أنَّ”الرئيسَ بشار الأسد شريكٌ أساسيٌّ في الانتصار على إسرائيل، وموقفُهُ لا يُنسى، ولا سيّما أنّ الجيشَ السُّوريَّ فتحَ مخازِنَهُ، وأرسلَ جميعَ الأسلحة النّوعيّة إلى المُقاوَمة، وكانَ لهذه الأسلحة الدّورُ الكبيرُ في مجزرةِ دبّابات الميركافا الصهيونية”، والحقيقةُ أنّ الإصرارَ السُّوريَّ على تقديم الدَّعم بأشكاله كافّةً إلى مختلف التنظيمات والقُوى المُقاوِمة،حتى في أصعب الظروف التي عاشَتْها سورية، نابعٌ من الالتزام السُّوريِّ الثابت بالموقف المركزيِّ للمحور المُقاوِم، وهو التزامٌ يَعُدُّ القضيّةَ الفلسطينيّةَ ثابتاً لايتغيّرُ من ثوابت السياسة السُّوريّة، وهو الموقفُ الذي جعلَ قادةَ المُقاوَمة يتوَجّهُونَ بالشُّكر والتقدير إلى سورية لدَوْرِها البارزِ في دعمِ القضيّة الفلسطينية، وعلى رأسِهم القياديُّ في حركة حماس يحيى السّنوار.
ولمّا كانت القضيّةُ الفلسطينيّةُ أحدَ أهمِّ الثوابت في السياسة السورية كانَ موقفُ الرئيس الأسد راسخاً،ولايحتملُ الشَّكَّ أو التأويلَ، بعدَ تأكيدِهِ في لقائِهِ قادةَ القُوى والفصائل الفلسطينيّة ومُمثّليها عقبَ حوارات الجزائر، أنّهُ “على الرغم من الحرب التي تتعرّضُ لها سورية، لكنّها لم تُغيِّرْ من مواقفِها الداعمةِ للمُقاوَمة بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وذلك انطلاقاً من المبادئِ والقناعةِ العميقة للشَّعبِ السُّوريِّ بقضيّةِ المُقاوَمة من جانب، وانطلاقاً من المصلحةِ من الجانب الآخر، لأنّ المصلحةَ تقتضي أن نكونَ معَ المُقاوَمة”، مُؤكِّداً أنّ”المُقاوَمةَ ليست وجهةَ نظرٍ، بل هي مبدأٌ وأساسٌ لاستعادةِ الحقوق، وهي من طبيعةِ الإنسان”، وأضافَ الرئيسُ الأسد: “إنّ سورية التي يعرفُها الجميعُ قبلَ الحرب وبعدَها لن تتغيّرَ، وستبقى داعمةً للمُقاوَمة”، كما وجّهَ الرئيسُ بشّار الأسد التحيّةَ إلى المُقاوِمينَ، كُلِّ المُقاوِمينَ في غزّة، وذلكَ في لقاءٍ معَ عددٍ من قادَةِ المُقاوَمة في أيّار عام ٢٠٢١م بعدَ معركة “سيف القدس”، مُؤكِّداً أنَّ أبوابَ سورية مفتوحةٌ لكُلِّ فصائل المُقاوَمة الفلسطينيّة، وسورية في صُلْبِ محورِ المُقاوَمةِ لكيانِ الاحتلال الإسرائيليِّ سياسيّاً وعسكريّاً، وهو مادفعَ الأمينَ العامَّ لحركةِ الجهاد الإسلاميِّ في فلسطين زياد نخالة إلى القول: إنَّ الصاروخَ الأوّلَ المُضادَّ للدُّروع الذي أطلَقَتْهُ “سرايا القدس” في اتّجاهِ مركبةٍ صهيونيّة في غلاف غزّة خلالَ معركة “سيف القدس” حَصَلْنا عليه بدعمٍ من سورية، وقد وصلَ إلى غزّة عبرَ ميناء “اللاذقيّة”، ولهذا فلا غرابةَ أنْ يدعمَ العدُوُّ الصهيونيُّ المجموعاتِ الإرهابيّةَ في سورية، وأن يعتديَ باستمرار على مواقع الجيشِ العربيِّ السُّوريّ في مُحاوَلةٍ منهُ للنَّيلِ من الدولة السورية وإضعاف مواقفها الداعمة لحركات المُقاوَمة الفلسطينية واللبنانية، وفي هذا الإطار كانَ استهدافُ الاحتلال الصهيونيّ للشهيد المُجاهد جهاد عماد مغنية ورفاقه في مدينة القُنيطرَة السورية المُحرَّرة، على مَقرُبةٍ من الحدود الفلسطينيّة، وكذلك استهداف الشهيد سمير القنطار، وفي هذا اعترافٌ صهيونيٌّ واضحٌ بحجم الدعم السُّوريِّ وفاعليّتِه لقُوى المُقاوَمة، وإذا كانَ القائدُ الشهيدُ عزُّ الدِّين القسّام، ابن مدينةِ جبلة السُّوريّة، قد انطلقَ قبلَنحوِ مئةِ عامٍ ليُسانِدَ الثورةَ الفلسطينيّةَ عامَ ١٩٣٦م، فإنّ سورية لاتزالُ حتّى اللحظة، وستبقى أبداً، الدَّاعمَ الأكبرَ لقُوىالمُقاوَمةِ وحركاتِها في فلسطينَ ولبنان، كما أنّها كانتْ، ولاتزالُ، قلبَ العروبةِ النابضَ، وهي التي لاتزالُ تحملُ شرفَ عدم التَّواصُل معَ العَدُوِّ أو التوقيع معه، ودفعَتِ الأثمانَ من أجلِ دعمِ المُقاوَمة، وَفْقَ ما أكّدَهُ القائدُ الشهيدُ حسن نصر الله في الخطاب الذي ألقاهُ في مُناسبةِ الذِّكرى الرابعةَ عشرةَ لانْسِحابِ الجيش الصهيونيِّ من لبنان، وهو ما أعادَ تأكيدَهُ مِراراً في خطاباتِهِ في أثناء الحرب الصهيونيّة على غزّة بعدَ “طُوفان الأقصى“، ففي كلمةٍ لهُفي مُناسبة الذِّكرى الثامنةِ لاستشهاد القائدِ مُصطفى بدر الدين قالَ الشّهيدُ نصرُ الله: “إنّ أحدَ الأهداف الرئيسة للحرب الكونيّة على سورية أنْ تُصبِحَ في الدائرة الأميركيّة،خاضعةً لها ككثيرٍ من الأنظمة، أو أنْ تغرقَ في حربٍ أهليّةٍ مُدمِّرة”، مُؤكِّداً أنّها “تجاوزَتِ الحربَ، ولاتزالُ في موقعِها تُشكِّلُ ساحةَ دعمٍ وإسنادٍ رئيسةً لجبهات المُقاوَمة”.
ممّا تقدّمَ يُمكِنُنا القول:إنّ سورية كانتْ، ولاتزالُ، الداعمَ الأكبرَ لقُوى المُقاوَمةِ الفلسطينية واللبنانية وفصائلها، وإذا كانتْ صواريخُ “فجر ٥” و”الكورنيت” شاهداً على الدَّعْمِ السُّوريِّ الكبير بأشكاله كافّةً لقُوى المُقاوَمة فإنَّ صواريخَ “فادي١” و”فادي٢” تشهدُ على قُوّة العلاقة وتَجذُّرِها، وعلى الدَّعْمِ غيرِ المحدودِ الذي تُقدِّمُهُ سورية إلى المُقاوَمة بفصائلها كافّةً، إيماناً منها بأنَّ العملَ المُشترَكَ هو السبيلُ الوحيدُ لتحرير فلسطينَ وإفشالِ المُخطَّطات التفتيتيّة والطائفيّة التي يشتغلُ عليها العدُوُّ لضَرْبِ دُوَلِنا وإضعافِ نَهْجِنا المُقاوِم، تمهيداً لاحتلالِ مزيدٍ من الأراضي وتصفيةِ مزيدٍ من المُقاوِمين.
إنَّ أقلَّ ما يُقالُ في الحوارات والنِّقاشات، التي نَشْهَدُها،أنّها غيرُ بريئة، وتنطلقُ من رغبةٍ في انتهازِ الفُرَصِ للإساءة إلى سورية، دولةً وشعباً، وتعملُ على إصْدارِ الأحكامِ وإثارةِ الجدَل، فالحربُ لاتزالُ مُستمرَّةً، ولم تتوقّفْ، ومواقفُ الدَّعْمِ والمُسانَدةِ محكومةٌ بتَطوُّرِ المَعارِك، وسورية تعرفُ قرارَها المُناسِبَ، وتتّخِذُهُ في الوقتِ المُناسِب.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة