شبحُ أوباما يطارد سياسة بايدن في سوريا

 

كثيرة هي الملفّات التي سيجدها الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، متراكمة على مكتبه في البيت البيضاوي، عندما يتولّى رسمياً مهامّ منصبه في الـ20 من كانون الثاني/ يناير المقبل، ويتعيّن على فريقه الحكومي البتُّ في عدّة قضايا حاسمة، داخلية وخارجية. وعلى رغم أن السياسات الأميركية تظلّ دائماً في إطار عريض لا يغيّر من جوهره تعاقب الإدارات، جمهورية أو ديمقراطية، فإن فريق بايدن، العاجز عن تقديم أيّ طروحات جذرية سوى العودة إلى لحظة ما قبل 2016، يحتاج بطبيعة الحال إلى تنفيذ نوع من فكّ ارتباط عاجل مع مجموع السياسات الانعزالية التي طبعت السنوات الأربع الماضية من حكم الرئيس دونالد ترامب.

في الملفّ السوري تحديداً، والذي تتضاءل أهمّيته النسبية بالمقارنة مع بقية الملفات الساخنة، وباستثناء استدعاء بايدن لطاقم من الصقور لقيادة الحكومة الأميركية في الفترة المقبلة، ليست هناك أيّ إشارات واضحة إلى الآن حول تبلور تصوّر متماسك في شأن التعامل مع الحالة السورية خلال الفترة المقبلة، لا على المستوى القصير ولا حتى المتوسّط. ومن المرجّح، لذلك، أن تستغرق إعادة التموضع الأميركي تجاه دمشق بعضاً من الوقت، قد يمتدّ إلى الصيف المقبل، ولا سيّما أن «سوريا» ملفّ معقّد، يرتبط عضوياً وعملياتيّاً بنتائج التقدّم في ملفات أخرى، على رأسها التسلّح الإيراني، وتمدّد الهيمنة العبرية على الجزء العربي من الشرق الأوسط، ناهيك بتوابع الاحتكاك الفرنسي – التركي (عضوَي الناتو) شرق المتوسط.

لكن أيّاً يكن، فإن ثمّة شبحاً يحوم حول سوريا، مستبقاً أيّ صياغات ممكنة لسياسات فريق بايدن في شأنها. إنه باراك أوباما، وظِلّ حربه الطويلة التي أنهكت البلاد، من دون أن تنجح طوال عقد كامل لا في إسقاط النظام، ولا في ثنيه عن تحالفاته السياسية والاستراتيجية، بل ومنحت روسيا وإيران فضاءً للتمركز عسكرياً واقتصادياً في قلب منطقة لطالما عدّها الأميركي ساحة نفوذ حصرية له.

 ولا شكّ في أن الفريق الجديد، الذي يغلب أن يقوده في وزارة الخارجية أنتوني بلينكن، خَلَفاً للجمهوري مايك بومبيو، سيجد نفسه مضطرّاً، إن عاجلاً أو آجلاً، وفي ظلّ انعدام فرص الديمقراطيين لتطوير حلول «خلّاقة» تجاه سوريا، أقلّه بصفة عاجلة، إلى الانطلاق من سياسات أوباما تحديداً، سواءً للبحث عن أفق لسياسة متباينة مع مراوحة الجمهوريين مكانهم من دون تغيير يُذكر، أو لتبنّي منهج لتنظيف التركة المعقّدة والفاشلة بحسب كثيرين في واشنطن، والتي لن يسهل المضيّ قدماً في توجّه جديد من دون إزالة آثارها ومخلّفاتها في المنطقة، بدءاً من التواجد العسكري الأميركي المباشر في مناطق النفوذ الكردي وحول التنف على الحدود مع العراق، مروراً بأزمة اللاجئين السوريين التي تفاقمت ولا يبدو أنها في وارد الحلّ قريباً، وصولاً إلى الوجود المتزايد للإيراني داخل الإقليم الحيوي للكيان العبري، وإمكان إنهاء الحالة الشاذّة في إقليم إدلب عبر تفاهم روسي – تركي، وفوق ذلك كلّه بقاء الكتلة الصلبة للنظام السوري متماسكة ومسيطرة على الأمور.

كان بلينكن، الدبلوماسي المخضرم، ومسؤول الأمن القومي الرفيع المستوى في إدارة أوباما، وأحد أركان الحرب على سوريا، وصف في مقابلة أُجريت معه في أيار/ مايو الماضي سياسة أوباما تجاه سوريا بـ«الفاشلة»، مُردّداً الوصف نفسه الذي يطلقه الجمهوريون على تركة الرئيس الأسبق الفوضوية هناك. وردّاً على سؤال حول نهج ممكن مختلف لطاقم بايدن تجاه سوريا في حال وصوله إلى البيت الأبيض، نُقل عنه قوله: «لا مهرب من الاعتراف بأننا في الإدارة الديمقراطية الأخيرة فشلنا، ليس بسبب عدم رغبتنا في المحاولة، لكننا فشلنا عملياً. لقد فشلنا في منع وقوع خسائر مروّعة في الأرواح، فشلنا في منع النزوح الجماعي للسكّان داخلياً في سوريا، وبالطبع خارجياً كلاجئين. إنه أمر مؤسف، وسيبقى طَعمه المرّ في ذاكرتي دائماً».

ولكن ماذا في جعبة بلينكن لسوريا عند عودته وزيراً في حكومة بايدن؟ لا تبدو لدى الرجل أيّ وصفات جاهزة – وفق مقابلاته الصحافية الأخيرة – لما يمكن للبيت الأبيض أن يفعله في المنطقة لـ«تحقيق بعض النتائج الأكثر إيجابية». وفي مقابلة سابقة له من عام 2015، كان ألقى باللّوم في «الفشل» الأميركي هناك على شمّاعة مجموعة من القوى الخارجية: «أعتقد أن هناك الكثير من اللوم الذي يجب الشروع بتوزيعه، بدءاً من السوريين أنفسهم، إيران وروسيا وغيرهما من رعاة (نظام الأسد)، جميع الدول العربية، كما الدول المجاورة الأخرى»، وهذه كلّها عناصر ما زالت كما هي من دون تغيير تقريباً منذ عام 2016، باستثناء استعادة الدولة السورية زمام المبادرة وتمكّنها من استعادة السيطرة على أغلب أراضي الجمهورية مجدّداً بعد هزيمة «الجهاديين» الذين أطلقتهم واشنطن.

 واشتكى بلينكن وقتها، في معرض تفسيره انعدام الحماس الداخلي في الولايات المتحدة لدعم تدخل عسكري واسع في سوريا، من «العبء الثقيل الذي تركته الحرب على العراق»، كما الانعكاسات السلبية لـ«التدخل الصعب في ليبيا». ويبدو أن بلينكن، الذي اعترف وقت تلك المقابلة – عشية تولّي ترامب السلطة – بالصعوبة المتزايدة لتحقيق هدف إسقاط النظام، سيجد بعد خمس سنوات تقبّلاً متزايداً في مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن لحقيقة أنه بغير العمل العسكري الشامل – المستبعد – لا تتوفر لدى الولايات المتحدة خيارات سياسية واضحة للإطاحة بالرئيس بشار الأسد.

لكن ذلك لا ينبغي أن يُفهم بأيّ حال على أن بايدن سيقبل بمبدأ «إعادة تأهيل» النظام السوري مجدداً، وعلى الأغلب أن إدارته في ظلّ كلّ هذه المعطيات ستنتهي إلى الاستمرار في استراتيجية هجينة تُبقي دمشق تحت ضغط مستمرّ بوسائل عدّة اقتصادية وسياسية وعسكرية واستخباراتية: العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وتصعيدها، والحفاظ على وجود عسكري نشط في سوريا لحماية القوى الكردية كإسفين دائم في مواجهة سعي النظام إلى تحرير الأراضي السورية كافة، واستكمال برنامج سرقة النفط، ولكن أيضاً الضغط – عبر الطرف الروسي – لتحقيق المكاسب بالنقاط: كالتفاهم على حماية مناطق نفوذ أميركية، ودفع النظام إلى القبول بإجراء إصلاحات سياسية من شأنها أن تمنح بعض الفصائل المعارِضة وجوداً – ولو شكلياً – محميّاً في الداخل السوري، هذا بالطبع مع استمرار اللعب بالورقة السورية والمتاجرة بها كلّما سنحت الفرصة في «شطرنج» الصراع البارد بين واشنطن وموسكو.

إذن لن تكون هناك تحوّلات جذرية لتغيير الوضع القائم سوريّاً خلال السنوات القادمة، ما لم يخرج بايدن من السلطة مبكراً (78 عاماً)، أو يتداعى النظام السوري من الداخل (وهو أمر مستبعد بعد أن نجح في اختبار النار)، أو تتسبّب فوضى إقليمية مفاجئة في قلب كلّ الطاولة على جميع الفرقاء (وهذا قطعاً ليس من مصلحة الطرف الإسرائيلي في المعادلة).

 

 

صحيفة الاخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى