شخوص سمير قسيمي بمصائرها المعلقة

الاغتصاب ومفاعيله المتمادية على ضحاياه هو الموضوع الذي يحرّك الأحداث، ويرسم مسارات الشخصيات ومصائرها في رواية «تسعون» للكاتب الجزائري سمير قسيمي (روافد للنشر والتوزيع). فهذه الواقعة التي لا يستغرق ارتكابها سوى بضع دقائق تترك آثارها المدمرة على العمر كله، وهي آثار لا تقتصر على من وقع عليه فعل الاغتصاب فقط بل قد تمتد لتطاول من قام بهذا الفعل، على أن معالجة الرواية الموضوع لا تقتصر على الاغتصاب بمعناه الجنسي بل تلمح في مواضع متفرقة إليه بالمعنى السياسي أيضاً، فاغتصاب السلطة هو الوجه الآخر للموضوع، ولكل من الوجهين مفاعيله وآثاره المتمادية، على الأفراد والجماعات.

تشكّل الوقائع في الرواية التي تحدث في زمن قصير لا يتعدى بضع ساعات، وفي مكان محدد هو محطة القطار وجوارها، الإطار الذي تتم من خلاله استعادة الذكريات التي توغل في أعمار الشخصيات، وتمتد على أماكن متفرقة، وتستأثر بمعظم المادة المروية، فحركة الشخصيات في المكان وجواره تصطدم بوقائع معينة تتيح لكل منها استعادة ماضيها وعلاقاتها الملتبسة بالآخرين، وهي شخصيات مثقلة بالماضي، غير متصالحة مع الحاضر، وقلقة من المستقبل، تنوجد في مكان روائي غير مستقر، فمحطة القطار وما يجاورها من طرقات هي أماكن مؤقتة وليست أماكن إقامة. وهكذا، نكون إزاء مجموعة من الشخصيات غير المتصالحة مع زمانها، غير المستقرة في المكان، تقطّعت بها السبل، انطلقت من أماكن لا تستطيع العودة إليها وتتوجه إلى أخرى لا تبلغها لاعتبارات داخلية وخارجية، فهي معلّقة على حد الانتظار.

تدور الأحداث في الجزائر العاصمة، وبالتحديد في «محطة الجزائر» للقطار وما حولها، ويشاء الكاتب أن يجمع في ذلك المكان، في مناخ عاصف مناخيّاً وسياسيّاً، ثلاثة أفراد من أسرة واحدة مفككة، الأب والأم والابن، تقطّعت بهم السبل، فلا يعرف أحدهم الآخر حتى وإن اصطدم به، كما حصل مع الأم والابن، وهم في حالة بحث أحدهم عن الآخر.

في الوقائع، يشكّل تأخّر حسان ربيعي، الرجل الطويل البشع الذي يعاني انفصام الشخصية، العامل في البريد المركزي، عن موعد القطار الذي يقلّه إلى بيته في ضواحي العاصمة، بسبب انشغاله بامرأة متسوّلة عند نهاية الرصيف المؤدي إلى محطة القطار، بداية لأحداث أخرى، يفوته القطار، ينتظر آخر، يُحتجز فيه مع آخرين بسبب انقطاع الكهرباء حتى إذا ما جرى تحريرهم منه بفعل تدخّل خارجي، يعود للانتظار والبحث عن سيارة تقلّه إلى بلدته.

خلال هذه الوقائع وما يكتنفها من تأخّر وانتظار واحتجاز وقلق وتشرّد وهرب… يستعيد ذكريات تضارع الوقائع قسوة، ومنها اغتصابه طفلاً في قبو المدرسة الابتدائية، وتخلّي أمه عنه صغيراً، وعدم اعتراف أبيه به، ومعاناته الانفصام منذ اغتصابه، ومعالجته بالأدوية ما أصابه بالعجز الجنسي. على أن استعادة الذكريات كانت مرهونة بوقائع معينة، فانقطاع الكهرباء وسيطرة الظلمة على القطار تذكره بظلمة القبو الذي احتُجز واغتُصب فيه، على سبيل المثل، وحضور الماضي كان يتم على دفعات وبالتقسيط بوقائع الحاضر، فتجري استعادة الذكرى مراراً، خلال الوحدات السردية، وينكشف في كل مرة جزء منها، حتى تتكامل الصورة بانتهاء الرواية.

على مقربة من المحطة، كانت ثمة امرأة عجوز تتحرّك من الجسر المقابل لحديقة عامة عبر السلالم باتجاه المحطة لتنتظر في بهوها، تتأمل في صورة طفل صغير، وتبحث عن مكان آمن بعد أن جرى نشلها، حتى إذا ما غادرت المحطة، وسمعت إطلاق رصاص من مكان قريب، تعود إلى المحطة، فتصطدم بابنها الذي تحمل صورته طفلاً، ولا تعرفه رجلاً، وتسقط أرضاً. خلال انتقال المرأة من الجسر إلى المحطة، تطالعها وقائع تثير فيها ذكريات أليمة، فنعرف أنها تعرّضت للاغتصاب من قبل ابن عمها الذي يتخلّى عنها وعن الجنين لذي تحمله، مشكّكاً في أبوّته له، وأغضبت أباها الذي لم يتخلّ عنها وأبدى تفهّماً لها يتنافى مع عقلية ذكورية يُفترض أن تكون متحكّمة بأبناء جيله، وما لبثت أن تخلّت لاحقاً عن طفلها وزوجها لتغادر البيت، ذات فجر، وتنصرف إلى الدعارة. وهنا، تتنكر لأبيها وتربيتها ومواقفها السابقة.

في مقهى مجاور، كان ثمة رجل عجوز يخوض حواراً مع صاحبه، يُشتم منه أن العجوز كان صاحب المقهى وقد آلت ملكيته إلى محاوره رابح الذي كان عاملاً فيه، بسبب سوء تدبيره وتبديد أمواله في المقامرة والنساء، وهو اليوم يتآكله الندم، ويبحث عن ابن له لم يسبق أن رآه. ويتبيّن من الذكريات التي يستعيدها أنه هو عبدالعزيز الذي خان عمّه، واغتصب ابنته، وتخلّى عن ابنه، وجرّ عليه غضب أمّه، وانتهى به المطاف يتسوّل مكاناً يبيت فيه، فتقوده قدماه إلى «محطة الجزائر»، لعلّه يجد سيارة تقلّه إلى بيت ابن خالته، في إحدى الضواحي.

وهكذا، يجمع الكاتب أفراد الأسرة المفككة الثلاثة في مكان واحد، في ظروف مناخية وسياسية غير مؤاتية، ولا يتيح لهم فرصة اللقاء، فكأن الأقدار التي عبثت بكل منهم في الماضي تأبى إلا أن تواصل عبثها في الحاضر، فيتجاورون في المكان نفسه، ولا يعرف أحدهم الآخر، ولا يكون بينهم لقاء. هي شخصيات معلّقة بين ماضٍ يطاردها، وحاضر يحاصرها، ومستقبل يهرب منها. هي شخصيات منتظرة في أماكن موقتة.

تتنوّع مفاعيل الاغتصاب في الرواية، وتختلف من شخصية إلى أخرى، فالأم مليكة تتخلى عن ابنها وزوجها لتتزوّج من آخر وتنصرف إلى ممارسة الدعارة والتشرّد، والابن يُصاب بانفصام الشخصية والعجز الجنسي، والأب المغتصب يفقد كل ما لديه ويتشرّد ويحلم برؤية ابن لم يعرفه. إن اقتصار الوقائع في الرواية على بضع ساعات وامتداد الذكريات على مدى سنوات يشكّلان إشارة إلى استغراق الشخصيات في ماضيها وهروبها من حاضرها، وإلى فضاء روائي غارق في ماضويّته يحيل إلى عالم مرجعي مماثل له. كما أن تراوح المكان الروائي بين مكان مظلم (القبو)، ومغلق (القطار)، ومؤقت (المحطة)، وعابر (الجسر والرصيف)، يشير إلى سيطرة الموقت والعابر والمغلق والمظلم على الفضاء الروائي، واستطراداً العالم المرجعي الذي يحيل إليه.

في روايته، يُسند سمير قسيمي عملية الروي إلى راوٍ عليم بصيغة الغائب في معظم الوحدات السردية، ويُسندها إلى شخصيات مشاركة في الوحدات الأخيرة (حسان ربيعي، عبدالعزيز ربيعي، أحمد مولاي)، على أن الوحدة التي ترويها هذه الشخصية الأخيرة تبدو مقحمة على النص، على مستوى الشخصية، على الأقل، ويمكن حذفها من دون الإخلال بالبنية الروائية. ويفتعل الكاتب بعض الوقائع لاستدعاء الذكريات، فيقع في عدم التناسب بين الواقعة المفتعلة والذكريات المستعادة، من حيث الأهمية. ويأتي رسم بعض الشخصيات ليطرح مسألة التلازم بين الشخصية وسلوكها، فالأب الشيخ القريشي يتخذ مواقف متقدمة في الدفاع عن ابنته المغتصبة تبلغ حد اعترافه بأنه والد ابنها ليمنح الأخير اسماً ونسباً، وهو موقف شجاع يتناقض مع عقلية ذكورية يُفترض أن تطبع مواقف جيله. والأم مليكة تنتقل من تربية محافظة في كنف أبيها إلى سلوكيات منحرفة لاحقاً. وهي نفسها تبدو مستهترة ولامبالية حين توافق على احتجاز ابنها في القبو وتنساه عدة ليالٍ ثم حين تكتشف تعرّضه للاغتصاب تدّعي على الجاني.

«تسعون» رواية تطرح موضوعاً مسكوتاً عنه، وهو على قدر كبير من الحساسية. ولعلّها تحيل من الاغتصاب، بالمعنى الجنسي، ومفاعيله المتمادية، إلى اغتصاب السلطة، بالمعنى السياسي، وما يترتّب عليه من مفاعيل أكثر تمادياً.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى