شدّ وجذب فجمود بين تونس و النقد الدولي
لا توجد مؤشرات توحي أو تعطي انطباعا بأن تونس وصندوق النقد الدولي سينتهيان قريبا إلى اتفاق من شأنه أن يفضي لافراج الصندوق عن برنامج تمويلي بنحو 1.9 مليار دولار تحتاجه السلطة التونسية بشدة في مواجهة أزمة مالية طاحنة واضطرابا في ماليتها العامة.
وتقود ايطاليا جهودا لانتزاع دعم أوروبي لتونس ومساعدتها في الحصول على قرض من النقد الدولي بما يخفف من حدة الأزمة المالية وبما يساهم أيضا في مساعدة السلطات التونسية على كبح موجات الهجرة من سواحلها إلى السواحل الأوروبية.
ورغم ذلك لا يبدو الأمر يسيرا كما يعتقد البعض بالنظر إلى حالة التوتر الناشئة بين الرئيس التونسي قيس سعيد وصندوق النقد الدولي، ليبقى القرض الذي تحتاجه تونس بشدة عالقا في حالة الشد والجذب بين الطرفين واشتراطات لا يقبلها سعيد.
ويكيل الرئيس التونسي الانتقادات الشديدة للصندوق ما يصعب عملية حصول بلاده على تمويل جديد من هذه المؤسسة الدولية وفقا لخبراء ومصادر مطلعة على الملف.
والأحد الماضي وخلال توقيع مذكرة تفاهم مهمّة بين تونس والاتحاد الأوروبي بشأن ملف الهجرة غير النظامية، هاجم سعيّد مجددا هذه المؤسسة المالية معتبرا أن “النظام النقدي العالمي لم يعد من الممكن أن يستمر بنفس الشكل والمضمون”.
وأكد في كلمة ألقاها أمام رئيسة المفوضية اورسولا فون دير لايين متحدثا عن الصندوق “تنسحب عليه اللعنة القديمة كان من الأفضل لك ولنا أنك لم تولد أو أنك لم تر النور قطّ”، داعيا إلى ضرورة إيجاد سبل جديدة للتعاون خارج إطار النظام النقدي العالمي الحالي.
وكان الصندوق أعطى ضوءا أخضر أول لتونس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بإعلان موافقة مبدئية، لكن منذ ذلك الحين تعثرت المفاوضات حول هذا القرض البالغة قيمته 1.9 مليار دولار وتوقفت المشاورات بين الطرفين منذ نهاية العام 2022 ولم تتقدم قيد أنملة.
ويبلغ دين تونس 80 بالمئة من إجمالي ناتجها المحلي وهي بحاجة ماسة إلى تمويل لتسديد رواتب موظفي القطاع الحكومي (حوالي 680 ألف موظف إداري وما لا يقل عن 150 ألف في الشركات العامة)، فضلا عن نفقاتها الأخرى.
لكن سعيّد يكرّر رفضه “الاملاءات” المتأتية من خبراء صندوق النقد الدولي والتي تتعلق بمراجعة سياسة الدعم وإصلاح الشركات الحكومية وتقليص كتلة الأجور في القطاع الحكومي.
ويعتبر الخبير الاقتصادي والباحث في الجامعة التونسية آرام بالحاج أن “الاتفاق معطل بسبب رفض قيس سعيّد للإصلاحات التي اقترحتها حكومته وقدمتها لصندوق النقد الدولي، ولا سيما التي تتعلق برفع الدعم”.
ويرى بلحاج أنه “إذا لم يحصل توضيح لموقف تونس بنهاية أغسطس/آب المقبل، سيُقضى على اتفاق الصندوق”.
ويؤكد الخبير الاقتصادي في الشؤون المصرفية عز الدين سعيدان أن “المفاوضات متوقفة تماما وتونس هي التي تعرقلها” وأن الاتفاق “عفا عليه الزمن” لأنه يجب إعادة النظر في الملف من جديد استنادا إلى المعطيات الجديدة المتعلقة بنسبة النمو والتضخم والعجز.
وقال “الرئيس رأى في هذه الإصلاحات أمورا من شأنها أن تعاقبه سياسيا” إذا ما قوبلت برفض شديد من التونسيين.
وأتى التأكيد من مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور الذي قال في منتصف أبريل/نيسان الماضي، إنه لم يتلق “أي طلب من تونس لمراجعة برنامجها”. وقال مصدر مطلع على الملف “منذ ذلك الحين لم يحدث شيء”.
ومطلع يونيو/حزيران استبعد سعيّد مجددا إزالة الدعم مقترحا حلولا بديلة تتمثل بفرض ضريبة على الأغنياء، غير أن المؤشرات الاقتصادية لا تشير إلى انفراج قريب للأزمة المالية، فقد بلغ عجز الموازنة 8 بالمئة في العام2022، أتى ثلثاه من دعم قطاع المحروقات الذي ارتفعت أسعاره اثر الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويضيف المصدر المقرب من الملف “لا يوجد حلول تحل مكان الزيادة التدريجية في أسعار المحروقات والمضمنة في برنامج صندوق النقد الدولي”، والتي تمتد على أربع سنوات.
وينصح سعيدان بعدم اللجوء مجددا لحل زيادة الضرائب، لأن الدولة أصلا “ذات عبء ضريبي هو الأعلى في إفريقيا” وبلغت “الحد الأقصى”.
لكن ماذا لو قررت تونس الاستغناء عن صندوق النقد الدولي، فهل يمكنها الصمود أم ستتخلف عن سداد ديونها؟
ويتوقع أن تكون الحكومة التونسية قادرة خلال العام 2023، على الوفاء بآجال تسديد استحقاقات تقدر بنحو 21 مليار دينار، بما في ذلك 12 مليارا (حوالي 4 مليارات يورو) بالعملة الأجنبية. ويبدو ذلك ممكنا بفضل عائدات قطاع السياحة وصادرات الفوسفات وانخفاض أسعار الطاقة، وفقا للخبيرين.
ويقول آرام بلحاج “لكن في غياب اتفاق، سيصبح الوضع أكثر صعوبة. وستكون مخاطر التخلف عن سداد الديون كبيرة جدا خلال عامي 2024 و 2025”.
ويقول سعيدان “يبدو أن تونس اختارت إعطاء الأولوية لسداد ديونها، لكن هذا سيتم على حساب توريد المنتجات الأساسية”.
وخلال الأشهر القليلة الماضية سجل في الأسواق التونسية نقص متقطع في التزود ببعض المواد الغذائية الأساسية على غرار الدقيق والأرز والسكر أو الزيت النباتي أو البنزين.
ولهذه الأزمة المالية تداعيات وخيمة أخرى، فالدولة شبه عاجزة عن تمويل أي استثمار جديد، الأمر الذي يجعل البلاد تمر بركود اقتصادي مع نمو ضعيف يبلغ حوالي 2 بالمئة وبطالة تزيد عن 15 بالمئة. كذلك، تسعى الدولة بشكل متزايد إلى الاقتراض الداخلي عبر المصارف المحلية، مما يقوض سمعتها الدولية.
ووجد سعيد الذي تولى الرئاسة في العام 2019 نفسه في مواجهة ضغوط شديدة اجتماعية وسياسية ومالية منذ أن اتخذ إجراءات استثنائية في 25 يوليو/تموز عزل بموجبها منظومة الحكم السابقة التي هيمن عليها الإسلاميون
ويقول خبراء إن الرئيس التونسي الذي يخوض معارك على أكثر من جبهة في مقدمتها مكافحة الفساد، يواجه وضعا صعبا وأن الأزمة التي ترزح تحتها تونس ليست أزمة ناشئة بل هي نتاج تراكمات سنوات من حكم الترويكا التي قادتها حركة النهضة الإسلامية منذ العام عقب إطاحة ثورة شعبية بنظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي.
ويعتقد شق من التونسيين أن سعيد قادر على إعادة التوازن المالي لبلاده بحكم أنه يتمتع بكاريزما وأنه لا يلتفت للوراء في التعاطي مع خصومه السياسيين ومعظمهم من منظومة الحكم السابقة.
لكن شقا آخر يعتقد أنه يجب التعاطي بواقعية مع الأزمة وأن العناد دون بدائل ودون توفر إيرادات بديلة لن يقود إلا إلى المزيد من تدهور الأوضاع. كما يأخذون على الرئيس التونسي فتح أكثر من جبهة في وقت واحد وهو أمر يثقل كاهله ويشتت تركيزه في معالجة الأزمة المالية والسياسية.