شكري المبخوت يتأمل «الأيام» … لا رواية ولا سيرة ذاتية
يرى الـــروائي التونسي شكري المبخوت في كتـــابه «سيرة الغائب، سيرة الآتي… السيرة الذاتية في كتاب «الأيام» لطه حسين» (دار رؤية) أن نص «الأيام» مخاتل، يستعصي على التصنيف ما بين الرواية والسيرة الذاتية. ويضيف أن طه حسين خلق نصه من معدن التردد واللبس؛ فلا هو من جهة جنسه الأدبي رواية تقرّ فتطمئن إليها نفسك، ولا هو سيرة ذاتية أوفت شروط هذا الفن حقها؛ تردد بينها مستمر والحلقة مفرغة؛ أراد بعض النقاد كسر طوقها فوقعوا في أحابيلها.
ولا يساور القارئ العادي لـ «الأيام» شك في أن الكتاب يروي بأسلوب طه حسين قصة حياة الرجل، ويدرجها في جنس السيرة الذاتية انطلاقاً من معارفه الحدسية بطرائق انتظام هذا اللون الأدبي. فكتاب «الأيام» يشف عن بعض قواعد كتابة السيّر ذاتية؛ مثل المنظور الاستعادي وازدواج البطل، فهو صبي تارة وكهل تارة أخرى. ويرتبط كتاب «الأيام» بنصوص سير ذاتية كتبها المجايلون لطه حسين مثل المازني، وأحمد أمين. وللكتاب؛ رغم طابعه التخيلي الأدبي؛ وشائج تشده إلى المجتمع المصري؛ عميقة؛ حتى أن بعض النقاد رأوه مرآة تجلو مظاهر من ذلك المجتمع فتحدثوا عن الوثيقة في «الأيام» صراحة أو عاملوا الكتاب -ضمناً- معاملة الوثيقة.
ويضيف المبخوت: «نقرأ (الأيام) فيستحيل علينا أن نقدر متى يبرز لنا الصبي في صورته الأصلية (إن وُجدت) ولا متى يبرز في صورة قدَّها خيال الناظر إلى ماضيه، فنرى طه حسين كهلاً ونراه صبياً في آن كأنهما واحد، أما حقيقة كل منهما، فلا حقيقة. كهل هو الصبي كأن الأيام لم تزده إلا ترسيخاً لصورته النموذجية متأملاً مترقياً في مدارج العرفان.
ويصف المبخوت الراوي الذي نحته طه حسين من حبر وورق بالماكر، حيث نعجز عن محاصرته، فهو كأبي قلمون في مقامات الهمذاني؛ في كل لون يكون. نراه مرة ناطقاً بما في سريرة الصبي كأنه هو، ونراه أخرى بعيداً منه مفترقاً كأنه لا توجد صلة رحم نصياً وتاريخياً بينهما. ويصاب القارئ أمام الصبي والكهل بالحيرة والتردد، ووراء كليهما يقف طه حسين متعالياً، يخفت صوته تارة ويعلو قوياً مزعجاً تارة أخرى.
ولكننا مهما اجتهدنا فلن نظفر بحقيقته في النص، والنص ملكه بموجب عقود قراءة السيرة الذاتية جميعها؛ يتخفى وراء الراوي؛ يدس صوته دساً رفيقاً فيمتزج الصوتان امتزاجاً فاضحاً غامضاً في آن. استمر طه حسين طوال «الأيام» على عادته هذه لا يشفي منا غليل السؤال عن حقيقته. هو الراوي ولكنه غيره. لعبة معقدة أحكم طه حسين تحريك عناصرها بعد أن أجرى الحديث وساق الكلام على ضمير الغائب.
وهذا الضمير –كما شهد أهل العلم باللغة والخطابات- هو اللبس عينه. فكان في «الأيام» فاصلاً بين الكائنات الواقعية والمجازية واصلاً بينهما في آن. ولم يسمّ صاحب «الأيام» البطل واكتفى الراوي بإطلاق بعض المفردات عليه، كالصبي أو صاحبنا، فظل مبهماً. والكتاب لا يتضمن قرينة على ربط بين المؤلف والبطل سواء بتوظيف العناوين الفرعية كذكر عبارة «سيرة ذاتية»، أو بإشارة الراوي إلى أن البطل يحيل على المؤلف.
بيد أن الميثاق الروائي غير موجود في الكتاب؛ لأن البطل غير مسمى، وبالتالي لا يعرف أن علاقته بالمؤلف قائمة على الاختلاف أم الائتلاف؟ ولا نجد كذلك شاهداً على أن النص متخيل من خلال عنوان فرعي على الغلاف. فحالة كتاب «الأيام» تدخل ضمن الحالات «غير المحددة»، بعبارة لوجون الذي يرى أن مفهوم السيرة الذاتية قوامه «عقد القراءة» وهو عقد مشترك بين المؤلف والقارئ، وبما أن المؤلف ترك العقد مفتوحاً غير موقَّع بصفة نهائية، فعلى القارئ –بحسب لوجون- أن يقرأ الكتاب كما يحلو له: فله أن يرى فيه رواية وله أن يرى فيه سيرة ذاتية.
ومـــا كُــتــــب عن «الأيام» قائم على التخمين وإقامـــة ضروب من المشابهة بين النص وما يعــرفه الناس عن حياة طه حسين انطلاقاً من بعـــض القرائن، كالعمى، وتعلّمه في الأزهـــر، وذكـــر بعض الأفراد الذين كوَّنوا عالمـــه الواقعي مـــثل الشيخ المرصفي ومحمد عبـــده في الجـــزء الثاني من الكتاب، وأسماء الكتب والمؤلفيــــن. وعيب هذه الطريقة في الاســتدلال يكمــن في قضائها على الفن وإقصاء النص بالالتجــــاء إلى ما هو خارج النص على نحو يُبقي «الأيام» في نطاق الوثيقة. وفي هذه الطريقة شيء من السذاجة يكون بمقتضاها اللبس الفني مردوداً إلى فضاء الوضوح الذي يمثله الواقع التاريخي.
وهنـــاك من النقاد من يرى أن كتـــاب «الأيام»؛ لا جنـــس له. إنه قــتل للجنس، لأن قدــره أن يكون بلا جنس. فإشكالية الجنس الأدبي في «الأيام» تعبر عن إشكالية اللحظة التي كُتِب فيها تاريخياً ونفسياً.
ويرى المبخوت أن التمييز هنا ضروري بين أن يكون كاتب السيرة الذاتية منطلقاً من حياته الفردية وبين أن يصوغها من وجهة نظر قد لا تخلو من «تحريف»، أو «انفعال»، أو» تزيد»، أو «حذف»، فالسيرة الذاتية لا تقول كل شيء. ولكنها سواء أُظهرت أم أُضمرت؛ يظل للإظهار دلالة مهمة بمقدار أهمية دلالة الإضمار و «التحريف» و «الانفعال». فلحظة التلفظ وثيقة الصلة بالملفوظ.
وقد أورد المبخوت جزءاً من حوار أجراه غالي شكري مع طه حسين عندما سأله عن تصنيف كتاب «الأيام» فقال الأخير: «لا أدري… هل تـــرونها مشكلة حقاً؟ رواية أو سيرة ذاتية؟ ما الفرق؟ الأدب كله سيرة ذاتية حتى حين يـــؤرخ الأديب لأحداث مضت أو حين يرمـــز بالأساطير إلى فكرة معاصرة. ويضـــيف بعد هذا: «لماذا تحرمونني من الوجود في «الأيام» حتى تسموها رواية؟ ومن ذا الذي قال لكم إن الرواية أعلى مرتبة من السيرة الشخصية في موازين الأدب؟».
صحيفة الحياة اللندنية