شوقي بزيغ: ليست شطارة أن تكون فوضويا في الكتابة
قدم الشاعر اللبناني شوقي بزيغ تسع عشرة مجموعة شعرية خلال رحلة طويلة تمتد منذ أوائل السبعينيات حتى الآن، شكلت خصوصية رؤيته وتألق صوته الشعري، وقد فاز أخيرا بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الشعر بدورتها الـ 15 حيث جاء في حيثيات فوزه “لما يمتاز به من تجربة شعرية أصيلة، تشمل ثلاث قضايا محورية، (الوطن، والمرأة، والزمن)، حيث استفاد من أشكال الموروث المختلفة؛ وتنفتح تجربته على الأنساق الجمالية الحديثة التي تبرز فيها من العمق الإنساني والخيال الخلاق”.
القتينا الشاعر وكان لنا معه هذا الحوار حول تجربته الممتدة على مدار أربعة عقود من الكتابة وتطوراتها وملامح مراحلها، بالاضافة إلى ما عايشه خلال هذه العقود داخل الساحة الشعرية والثقافية اللبنانية والعربية.
يقول شوقي بزيغ “العنصر البارز والأهم الذي تستند إليه تجربتي هو الطفولة، مثل كل كاتب طبعا لكن القيمة المضافة التي أستطيع أن أتحدث عنها هنا هي المساحة الواسعة للطفولة. الفضاء الواسع والذي يتصل بكافة الجهات التي أحاطت بمسقط رأسي، فأنا أنتمي لقرية في الجنوب اللبناني مطلة على مدينة صور. كان يمكنني صغيرا أن أرى البحر المتوسط من جهة، وأرى قمة جبل حرامون من جهة ثانية، وأرى جنوبا الحدود الشمالية لفلسطين وشمالا صيدا، هذه المروحة من الجهات، وهذا الفضاء الواسع والمفعم بكم لا يحصى من الألوان، من الروائح، من الأصوات، أماكن مكسوة بأشجار سنديان والملول والزعرور. كم وافر من الشجر ومعظمه شجر بري، وهناك أيضا روافد مياه تأتي من الجبل الأعلى من جهة فلسطين وتحيط بقريتي ثم تذهب باتجاه البحر، كل هذا وفر لي مخيلة واسعة تستند إلى الطبيعة والعناصر الحسية التي يحتاج لها الشاعر للكتابة.
أقول هذا لكي أخلص إلى الإستنتاج بأن هناك مراحل عدة مررت بها ولكن كانت دائما تسندني المفردات واللغة والصور القادمة من جهة مسقط الرأس، طبعا في البداية لأنني نشأت في السبعينيات، كانت تجربتي عبارة عن صراع متواصل ما بين الانتصار للأيديولجيا الذي حكم مرحلة السبيعينيات، يعني نمو اليسار الجديد والأحزاب التي كانت في الجهة القومية والماركسية، وما سوى ذلك، وانضممت حينها إلى تنظيم ماركسي يساري، حيث كنت دائما مطالبا بكتابة “شعبية” تصل للجمهور، وبين نداء آخر يأتي من جهة الحداثة حيث تتلمذت في كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية على أدونيس، وخليل حاوي وعلى يمني العيد، وعلى شعراء ونقاد كبار، فكانوا يأخذونني إلى الجهة المقابلة المتصلة بتحديث اللغة والإصغاء إلى صوتي الداخلي”.
ويضيف بزيغ “فعلا تبدو دواويني الأولى محصلة لهذا الصراع، يعني من جهة هناك عوامل لها علاقة بالانتماء وبالقضايا المحيطة بي، قضايا المقاومة والجنوب والوطن وما سوى ذلك، ومن جهة ثانية كنت أحاول أن أذهب إلى مناطق مختلفة تبدو في دواويني الأولى مثل قصيدة “الطواف في رحاب صاحب العصر”، وهي تحاول أن تقارب مسألة المهدي من زاوية فلسفية، بينما المرحلة الثانية والمهمة في شعري بدأت في أوائل التسعينيات، وقد خلدت إلى صمت عميق استمر لمدة خمس سنوات متواصلة، لأني شعرت أنني أمام مفاصل كبرى ومنعطفات في تجربتي، يعني إما أن أكرر نفسي أو أجدد لغتي أو أخلد إلى الصمت، ولأنني لم أكن جاهزاً بعد لتجديد تجربتي ولغتي وعالمي صمت خمس سنوات كاملة دون أي قصيدة بين 1985 و1990 .
عندما خرجت قصيدة “مرثية الغبار” والتي نشرت ضمن مجموعة تحمل هذا الاسم، بدت أن هناك نقلة في الموضوعات، في المقاربات في التخفف من الغنائية الإنشادية أو السيولة البلاغية وما سوى ذلك، ونحوت باتجاه مقاربات أخرى للأشياء، التأمل ومسألة التراث وموضوعات تخص حياة المعيشة، وليس القضايا الكبرى، وربما وهذا شيء طريف.
ربما المحطة الثالثة بدأت مع الزواج، يعني بعد ديواني “سراب المثني” وبعد “قمصان يوسف” و”كأني غريبك بين النساء”، و”فراديس الوحشة” وغيرها، أيضا أصابتني السكتة الشعرية الثانية، لأني من المعتقدين دائما أن الزواج يفسد الكتابة، لأنه يستند على أرضية مختلفة تماما، لها علاقة بالاستكانة والطمأنينة، والذهاب إلى تفاصيل الحياة النثرية التي لا تشبه الشعر في شيء، هذه المادة التي ترتبط بالشغف، والذهاب بالأعصاب نحو مداياتها القصوى، هذه يتلفها الزواج، وما حصل فعلا أنه شكل لي صدمة في عام 2003.
بقيت أكثر من 3 سنوات دون أن أكتب شيئا، وفجأة ظهرت لي مناطق ومساحات أخرى في الكتابة، مثلا كانت المرأة تشكل عنصرا أساسيا في شعري وربما ثلث ما كتبته ينتمي إلى قصيدة الحب، هذا الجانب تراجع بعد الزواج، لأنه لكي تكتب شعر حب يجب أن تحب، والزواج يتحول إلى ألفة وصداقة واستكانة. وهذا شيء جميل، ولكنه لا يمكن أن يكون دافعا للشعر على الأقل حسب رأيي، ولذلك ترى منذ امريء القيس وحتى آخر شاعر ولد حديثا في أماكن الوطن العربي النائية، نادرا ما كتب أحد لزوجته إلا قبل أن يتزوج منها أو بعد أن ماتت، فخرجت بمجموعة شعرية بعنوان “صراخ الأشجار”.
يعني بدأت أدخل إلى مناطق مختلفة ثم “فراشات في ابتسامة بوذا”، يعني العرفان والتأمل الداخلي ومكاشافات النفس، وهناك دواوين مثل “مدن الآخرين” وكأني أقول في هذا الديوان إن كل ما هو ممتلك لا يعول عليه.. سواء كان امرأة أو مدينة أو مكانا، ثم إلى “أين تأخذني أيها الشاعر”، وأخيرا “الحياة كما لم تحدث”.
حتى من عناوين المجموعات ترى أني اتجهت نحو الحكمة أو التأمل الفلسفي والوجودي، وهذا ما ذكرني بقول سقراط، “عليك أن تتزوج، فإما أن تعيش سعيدا إذا كانت المرأة جيدة وخلوقة، وإذا كانت غير جيدة تصبح فيلسوفا.. أزعم أنني قد جمعت بين الحالين نسبيا على قدر ما يسمح به المسرح الفاسد للزواج، لأنني أعتبر أن فساد الزواج لا يأتي من طرفيه فقط .. يأتي من المسرح، لأن كل شيء يحتاج إلى مسرح، الجريمة تحتاج إلى مسرح، والكتابة تحتاج، والحب يحتاج إلى أرضية ملائمة، هذه باختصار المحطات الثلاث الأبرز لتجربتي.
ورأى بزيغ أن طبيعة الرؤية الشعرية التي آمن بها وثبتت معه تمثلت في قناعته “أنه لا يمكن أن يكون هناك شعر حقيقي خارج القلب.. وأقصد هنا بالقلب، ليس فقط بالمعنى الكشفي وهو معنى أساسي ـ الحدوس الكشفية المرتبطة بالقلب لا بالعقل ـ لكن أقصد الماء في اللغة، أقصد الهواء، الأكسجين، العذوبة، يعني باختصار الغنائية، لكن مع فارق بأن هذه الغنائية كانت في البداية ربما غنائية إنشادية، لأنها كانت ترتبط بقناعة ما في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، لأن الشعر يستطيع أن يحرض ويغير بالمعنى المباشر، ويلتزم بقضايا ذات طابع ربما سياسي أو عقائدي وما سوى ذلك، لكن حتى في تلك الفترة لأنني كما قلت لك دائم الإطلاع ولدي أسئلة في داخلي، كنت أحاول أخفف منها عبر الهواجس المتصلة بالمعرفة، ولكن الغنائية بعد ذلك أصبحت أكثر كثافة واتجهت نحو الدراما، نحو التعدد الصوتي، نحو البنية المركبة للقصيدة، ولذلك أفدت كثيرا، مثلا من أفتتاني بالرواية، لأني أؤمن بإنه في داخل كل قصيدة خيط سردي ما ينظم عناصر القصيدة المتباعدة، وإلا تحولت إلى مجرد رصف باهت للصور، لكن تكتسب حياة، يجب تتحول إلى جسد، وجسد له نظامه، وطبعا الكتابة الشعرية على وجه التحديد كما يقول نيتشه هي رقص مع القيود، يعني هي ليست فوضى كلية، ليست شطارة أن تكون فوضويا في الكتابة، لأن أي شخص يستطيع أن يحدث فوضى ويهدم ما يشاء، لكن من داخل القيد، وهذا القيد ليس بالضرورة أن يكون على الوزن والقافية فقط، حتى بقصيدة النثر بنية القصيدة تستطيع إذا كنت موهوبا بالفعل أن تصنع فوضاك الخاصة بك.
هذا التضاد ما بين النظام والفوضى، أو القدرة على إنشاء الخلطة السحرية بين الاثنين، بين الغنائية وبين البعد التأملي أو المعرفة، لا أٌقول الفكر، لأنه دائما يحضرني، عندما أقول الفكر، البعد الذهني والكتابة المنطقية الصارمة، وأنا لا أؤمن بهذا النوع من الكتابة على الإطلاق.. فالشعر هو حالة شغف بامتياز، هو أن تكتب بالشرايين، تكتب بالعصب، لذلك هذه أشياء حافظت عليها وحرصت على الحفاظ عليها، وطبعا مع تنقيحها باستمرار، وأنا لست شاعرا مطمئنا إلى ما أنجز، أنا دائم القلق ودائما مهجوس بأنه بإمكاني أن أفعل أفضل مما فعلته.
ورفض بزيغ أن يكون شعراء السبعينيات قد سيطروا على مشهد الثمانينيات والتسعينيات والآن انطفأ وهجهم وحضورهم، وقال “أعتقد حين كنت مسئولا عن الصفحة الثقافية في جريدة السفير أجريت حواراً مع الشاعر الصديق أحمد عبدالمعطي حجازي، وكنا نتحدث عن صراع الأجيال في الشعر، فقال كلمة أحببتها، قال هناك صراع أعمال وليس صراع أعمار، أحببت هذا الجناس الناقص كونه يصيب بدقة الحقيقة، ليست المسألة في أن جيل انطفأ وجيل صعد، على الإطلاق، الشاعر كما تعلم ولك تجربتك في هذا المجال كائن غير زمني، ليس متصلا بالزمن بمعناه المحدود، أي بفترات زمنية، وإلا لكان بالضرورة اللاحق أفضل من السابق، باعتبار يضيف إليه من المعطيات التي يكسبها بفعل التراكم الحضاري، بينما الواقع أن مسار الشعر هو مسار سيريالي غير منتظم في سياق، لو كانت الحداثة متصلة في الأجيال، لكان بالضرورة مثلا شريف الراضي أشعر من المتنبي لأنه أتى بعده، ولكن هذه ليست حقيقة أو واقعا قائما، رغم أن هذا شاعر وهذا شاعر، أو أبو العلاء أفضل من المتنبي، على أهمية الشاعرين الآخرين، فالمسألة باعتقادي مسألة حساسية، ومسألة طبعا بالإضافة إلى الموهبة قدرة الشاعر على تجديد نفسه باستمرار، وإعادة صياغة نفسه، وعلى خلق نسخ من نفسه.. أحيانا تكون متغايرة، ينقلب على ذاته.
وأنا أؤمن أن صراع الشعر الأساسي ليس مع الآخرين، وإنما مع ذاته، مع المنجز منه، ولذلك هو يصنع لنفسه أسقفا، ولا يستطيع تجاوزها، وهذا له تمثلاته في كثير من التجارب، يعني فيه شعراء كتبوا قصائد أو مجموعات لم يستطيعوا تجاوزها، فالمهم أنك تستطيع أن تتجاوز نفسك، أما مسألة أنه شعراء السبعينيات انطفأوا فلا أرى ذلك، يمكن أن يبهت هذا الشخص أو ذاك، لكن لا نستطيع أن نقول أنهم بهتوا. لنعطي مثالا على هذا لا أستطيع القول أن شاعرا مثل منصف الوهايبي في تونس أو محمد اللوزي مثلا قد بهتا، لا أستطيع أن أقول إن جيل الإضاءة في مصر بهت، فالعديد من أبناء هذا الجيل لا يزال نابضا بالشعر، مع حزني على الذين رحلوا مبكرا مثل حلمي سالم، في لبنان أعتقد أن شعرا مثل محمد علي شمس الدين، وجودت فخر الدين وإلياس لحود ما زالوا يكتبون وحاضرين في المشهد، وهكذا دواليك، أيضا في المشهد الفلسطيني والأردني هناك شعراء لهم شأن، فالمسألة أنه من الذي يتطور، ومن الذي يقف مكانه، ومن الذي أصيب بالسكتة الشعرية، هذه لا نستطيع أن ننعت بها جيلا من الأجيال.
وحول التزامه التفعلية على عكس الكثير من رفقاء جيله الذي تحولوا إلى قصيدة النثر في السنوات الأخيرة، أكد بزيغ إيمانه بالحرية، “ليفعل كلٌّ ما يراه مناسبا، وما ينطبق على شاعر لا ينطبق على الآخر، فنحن لسنا فرقة كشفية، وعلينا أن نلبس الثياب نفسها، كما كان يحدث في الأنظمة الشمولية، ومازال يحدث.. ليختر كل ما يلائمه، لكن يجب أن أوضح هنا، لم أكتب قصيدة النثر لأنني لا أجيدها، وليس لأنني لا أحبها، أنا مع تنوع المشهد الشعري العربي، تتفتح عشرات الورود في حدائق الشعر، والحدائق لا تصنع من نوع واحد من الورود، وعلى بعض شعراء قصيدة النثر من المتزمتين أن يعلموا بأنهم يناقضون جوهر ما قامت عليه قصيدة النثر، وهو الحرية. يجب أن يرضوا بالأساليب الأخرى وإلا فإنهم كما ذكرت يتناقضون مع أنفسهم، هم صاروا على ثقافة النمط الكلاسيكي، فكيف نستبدل نمطا بنمط آخر، وكذلك الأمر ينطبق على التفعيلة، أنا أقول بأن الأساليب الشعرية تتجاور، ولا يجب بعضها بعضا على الإطلاق، لا ينسخ بعضها بعضا.
فيما يخصني أنا لا أجد نفسي إلا في التفعيلة، بمجرد أن أفكر في الكتابة، الأعراض تأتي إلىّ متصلة بالإيقاع، وهذا شيء لا يجب أن أعتذر لأحد عنه على الإطلاق.. هذا نمط كتاباتي وطريقة علاقتي باللغة، تحضر مباشرة الأشياء مع إيقاعها، وإن كنت أحسن كتابة قصيدة النثر لفعلت.. لكن أنا شغوف جدا بالنثر الأدبي، أنا كاتب نثري، وأكتب في الصحافة، وأشعر بمتعة غامرة وأنا أكتب النثر، لأني أشعر أن كل المعجم أمامي، وهو اختبار حقيقي لموهبتي. هنا لا يترضي الشاعر الأوزان والقوافي والتناظرات التعبيرية، ولكن المعجم متاح له، وعجينته الحقيقية تظهر من خلال نصه النثري.
ورأى بزيغ أن توظيفه للتراث الإسلامي والمسيحي أمر متصل ببيئته وتكوينه الوجداني والديني بالمعنى العميق للدين، وليس بالمعنى الضيق أو الطائفي، لأنه في الجنوب اللبناني نشأت في بيئة كانت وما زالت حتى الآن محافظة دينيا، ولها طقوس متصلة بكربلاء، طقوس عاشورئية، طقوس الحزن والتفجع الجماعي، والندب، والذي وجدت أن له صلة بحضارات الشرق القديم، البابلية والآشورية والسومرية والكنعانية وغيرها، وتبين أن الطقوس نفسها كانت تقام لأدونيس بعد أن قتله الخنزير البري حسب الأساطير الشرقية القديمة، مسألة العلاقة بالموت والقيامة، لأنه ينبعث بعد توسلات عشتار بأن يعود إلى الحياة، حتى أيضا وجدت أن فكرة المسيح مرتبطة بنفس الطقس، والتي هي في جوهرها مبدأ زراعي، مبدأ حبة القمح التي تدفن في التراب أشهرـ ثم تنبت وتخسف بعد ذلك.
هذا الشيء أصبح جزءاً من صياغتي الوجدانية والروحية، وأحببت أن أعيد إنتاج بعض الرموز الدينية والتاريخية والأسطورية بشكل مختلف، أعيد قراءتها، مثلا بقصيدتي “قمصان يوسف”، كنت أسمع عن قميص يوسف، ولكن وجدت من خلال قراءتي المعمقة لسورة يوسف بأن شخصية يوسف تتجلى من خلال القمصان، أو جمال يوسف، وأن هناك ثلاثة قمصان تشكل تجليات وتنظيرات للجمال اليوسفي، القميص الأول الذي صبغه أخوته بدم كذب ورموه في البئر، والقميص الثاني الذي مزقته زليخة من الخلف، والقميص الثالث الذي أرسله يوسف مع أخوته إلى أبيه في مصر، وكان يعقوب أعمى فأبصر حين شم ريحة القميص، فلعبت على القمصان الثلاثة كحالة من حالات صناعة الجمال، وكأن القصيدة تقول بإن الإنسان لا يولد جميلا، ولكنه يصبح جميلا، والجمال يصنع.
في قصيدة “مريم” أتحدث عن التمزق التي عاشته مريم بين انتصارها لأنوثتها من جهة ولأمومتها من جهة، وهي خسرت الاثنتين معا.. طلب منها أن تضحي بأنوثتها من أجل أن تكون أما، وعندما أصبحت أما فقدت ابنها، بصرف النظر عن مسألة التفسير الإسلامي أو المسيحي لمسألة الصلب.
“رقصة سالوميك” في ديواني ما قبل الأخير، حين جعلت سالوميك تحب يوحنا المعمدان أو النبي يحيى، ولأنه رفضها فهي قتلته وانتصرت لأنوثتها الجريحة. يعني إعادة قراءة للتاريخ.. فكل قصيدة تشتغل على محل، ليلة ديك الجنة الأخيرة، تشتغل على مسألة الغيرة، ولكنني في القصيدة جعلت ديك الجنة يقتل نفسه، لأن العاشق الحقيقي لا يستطيع أن يقتل من يحب. لأنك إذا أنتجت الوقائع التاريخية كما هي، فأنت لا تفعل شيئًا.. وفي نفس الوقت حولت الواقع إلى سؤال كوني وجودي، لا يمس فقط المنطقة التي خرج منها الرمز، ولكن يصبح له بعدا إنسانيا.
وأكد بزيغ أنه ضد تسمية زمن الرواية، صحيح أن الرواية رائجة في العالم، ولكن هذا لا يعني أن الشعر انتهى، الشعر يبدو الآن كأنه أبو الفنون المريضة كما كانت الدولة العثمانية قبل 150 عامًا، ولكن جميع الأبناء يريدون قتل هذا الأب، لأنه هيمن على الزمن، على التاريخ عبر آلاف السنين، ولكن في نفس الوقت هم بدونه لا شيء، لا رواية بلا شعر ولا لوحة ولا موسيقى ولا مسرحية.. ربما الشعر يتراجع كفن مستقل، لكن منسوب الشعرية لا يتراجع، ممكن أن يكون زمن للرواية والشعر معا، وللفن التشكيلي تعبيرات مختلفة، طبعا لدي تفسير لما يجري بأن الأرض تعبت بعد حروب عالمية متعددة، وبعد قرون من الفلسفة والفكر والغوص فى الأعماق، ومن أيضا الحداثة الشعرية التي تحتاج إلى الكثير من الجهد لسبر غورها، النصوص الحديثة، كأن هناك نوعًا من التعب الذي جعل الناس يركنون إلى ما هو سهل، لغة سهلة، فرأوا في الرواية هذه السهولة.
الشيء الآخر أن الرواية تسمح للبشر بأن يقيموا خارج حيواتهم الأصلية، يذهبون إلى حيوات موازية، فيستقيلون من واقعهم الذي هو أصلا بائس ومحبط، تمام كما يحدث عند الحضور في دور السينما عندما تسدل الستائر الخلفية ينفصل المشاهد عن الواقع، ثم يقيم في الحلم، في المتخيل، ومادة السينما هي رواية، في مقابل أن الشعر يرهق كما ذكرت، لكن لنسأل أنفسنا سؤالا واحدا، كم مرة تستطيع أن تقرأ الرواية، أنت كقارئ، أكيد مرة واحدة وفي أحسن الحالات إذا كانت لماركيز أو يوسا أو أحد من الكبار تقرأها مرتين.. لكن أنت تقرأ الشعر آلاف المرات، وهو مستغلق بحدود معينة، هناك سحر ما يجعلك تعيد القراءة ولا تمل، شيء مثل صوت وحيد المغني كما يقول ابن الرومي “أهي شيء لا تسأم العين منه أم لها كل ساعة تجديد”.
هذا الفوران الجمالي الذي لا يمكن أن يستنفذ، كالصورة شعرية للمتنبي “وقفت وما في الموت شاك لواقفي كأنك في جفن الردى وهو نائم”، كلما قرأناها أحسسنا بمتعتها، إذا الشعر مصنوع ليس فقط للمؤقت، مصنوع للأبدي، وهذا يسميه أوكتافيوباث الأقلية الهائلة.. التي لو كانت أقلية في فترة فإنها تراكم نفسها باستمرار.
ميدل ايست أونلاين