شيء من العبث في نتائج جائزة بوكر (فيصل درّاج)
فيصل درّاج
كان في إنشاء «جائزة القاهرة للرواية العربية» حدث ثقافي – أدبي احتفى بالإبداع الروائي، الذي بدا جنساً كتابياً عربياً مسيطراً. جاءت بعده «جائزة البوكر للرواية العربية» بطموح أكثر اتساعاً، اعتماداً على إمكانات مادية وجهاز إداري ذي خبرة، وارتباطاً بجائزة أدبية بريطانية مرموقة. بدت «البوكر العربية»، وفي قبول أقرب إلى البداهة، جائزة الرواية العربية الأولى.
وبما أن بدايات الأمور تظهر منقوصة، شاب عمل الجائزة، منذ دورتها الأولى، بعض الخلل أشار إليه، في حينه، نقاد أدبيون معنيون بنزاهة التحكيم وبموضوعية المعيار الفنية. لم يتغير الأمر في دورات لاحقة، حافظ الخلل على موقعه، إلى أن بدا فاقعاً في دورة الجائزة الأخيرة لعام 2013، حيث تجلى قصور في التحكيم يخالطه عبث سعيد.
اخترق الخلل الدورة الأخيرة لجائزة البوكر العربية مرتين: مرة أولى حين استبعدت من «القائمة القصيرة»، ومن الطويلة أيضاً، أعمال إبداعية لا يجوز استبعادها، أغفلها النظر التحكيمي، كما لو كانت الكتابة الروائية العربية تدور في غرف مغلقة، يمتلك مفاتيحها «نقاد ثقاة»، مغتبطون بأحكامهم. واخترق الخلل ثانية «القائمة القصيرة»، حيث ذهبت الجائزة إلى ما ذهبت إليه، مستبعدة ما يجب أن تذهب إليه.
أي لائحة قصيرة؟
يتوجب الوقوف أمام الأعمال التي انتهت إلى «اللائحة القصيرة»، التي تعبّر افتراضياً عن الإبداع الروائي العربي لعام 2013. من هذه الأعمال رواية السوري خالد خليفة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، الذي كانت روايته السابقة «مديح الكراهية» قد كرّمت في الدورة الأولى للجائزة. غير أن ما تمتعت به روايته السابقة من إتقان افتقر إليه عمله الجديد، على مستوى الرؤية والبنية في آن. فقد قام العمل على أطروحة «النسيج الاجتماعي المفسد سلطوياً»، أو شمولية فساد السلطة والمجتمع، التي ترجمها المؤلف بشخصيات متعددة. جاء قلق البنية الروائية من أولوية المقولات المجردة على السرد الروائي، الذي وضع معنى الرواية في إرادة المؤلف لا في تفاعل العلاقات الروائية. لذا تحضر الشخصيات حين يريدها الروائي أن تحضر، وتسير في الطريق الذي عيّنه لها، وتتطوّر تيهاً وضياعاً كما أراد لها أن تتطور، الأمر الذي منع عن الرواية الرؤية الواضحة التي تصل بين أزمنتها المختلفة، وترك الواقع والشخصيات في قبضة المؤلف يفعل بهما ما يشاء.
أراد المغربي يوسف فاضل، في عمله «طائر أزرق يحلق معي» أن يعطي رواية رومنطيقية عن الفقد والحرمان، تذكّر، ولو من بعيد، برواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي. قصد إلى شخصيات معذبة وحائرة وأوجد لها أمكنة أليفة وسطّر، أحياناً، فصولاً مشرقة. غير أن هذا العمل، الذي كتبه روائي لا تنقصه الموهبة، اتسم بفائض لغوي يتجاوز موضوعه، كما لو كان الواقع في علاقاته المختلفة طبقات من الكلام، ظنها المؤلف نثراً روائياً، من دون أن يدري أن تراكم الكلام، الذي لا مرجع له، يحوّله إلى «إنشاء مدرسي جميل لا أكثر». وبسبب سيطرة الكلام على غيره، بدت الشخصيات ساكنة أو شبه ساكنة، وبدا «الرصيد اللغوي» قلقاً يُغرق علاقات الرواية في كلام لا ضرورة له. عالج يوسف موضوعاً «نواته» الفقد والحرمان وأدرجه في غلاف لغوي فضفاض تاركاً الخطاب الروائي يبحث عن علاقاته في أثير الكلام. قد يكون في رواية فاضل شيء من البريق، كما هو الحال في رواية خليفة، غير أن الروايتين ينقصهما الاتساق الروائي.
يشكّل المصري أحمد مراد، في عمله «الفيل الأزرق» الحالة الأكثر إرباكاً في التقويم، فهو واضح الموهبة من البداية، وواضح الجهد الفني والاستقصاء المعرفي، لا ينقصه المتخيّل الرهيف، ولا اللغة التي تحتاجها مادته الروائية، التي دخل إليها من باب العصاب و «علم النفس» والكشف عن «جريمة». لكنه أذاب الفعل الروائي في دائرية من التفاصيل المتمادية التي لا تنتهي، أرهقت الرواية وترهق القارئ أيضاً، وذلك تقصداً للإبهار وكشفاً عن «مهارة الصنعة». اشتق من موضوعه الأول موضوعاً ثانياً موازياً يكسر «الحبكة البوليسية» إن صح القول ويذهب إلى عالم «الذِهان» أو ما يشبهه. انتهى إلى حكاية مزدوجة عن الذات والموضوع لا تنتج خطاباً موحداً، ذلك أن قصدها الإبهار. ومع أن التنقيب داخل «النفس الإنسانية» موضوع روائي بامتياز، فإن انصراف الكاتب إلى الصنعة والإبهار منعاه عن إنتاج خطاب روائي موحد. فقد بقي داخل الحكاية، كما لو كان المكان والزمن التاريخي عنصرين خارجيين تماماً، وهو ما لا يأتلف مع معنى الكتابة الروائية.
والأرجح، كما يعلن هذا الروائي الموهوب، الذي عبث بموهبته، أن شكلاً من أشكال الرواية المصرية الحديثة قد أخذ بالانحسار، فالمكان لا يتكشّف في ملامحه إلا صدفة، ولا مكان لامتلاك الحاضر المعيش، الذي هو جوهر الكتابة الروائية. قبل زمن قصير غادر الرواية المصرية المبدع الرهيف محمد البساطي، الذي كان يقول كل شيء عن مصر بلغة مقتصدة، بعيداً من مواطنه أحمد مراد، الذي لم يقبض على «حقيقة الحاضر» وهو يدور في 436 صفحة. هذه رواية جديرة بالترحاب والمكافأة، وإن كانت فيها شوائب متعددة.
الرواية الأقل فنية
قد تكون رواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد» التي أرادت أن تعبّر عن مأساة بغداد، هي الأقل فنية بين الأعمال الفائزة. فقد ألصق الروائي على عنوان روايته «هوية موضوعه»، فاستقدم فرانكنشتاين إلى بغداد، فللاسم جاذبيته الوافدة، واتخذ لذاته موقع ميري شيلي، التي عالجت موضوعاً له خصوصية مغايرة. استحضر المؤلف رعب بغداد من الاسم الجاهز، واختصره في إنسان هامشي يلهو، في شكل فقير، بأوصال مقطعة. ولذلك ضاع الرعب المعيش في تجليات خارجية بسيطة: الانفجارات، البيوت المهدمة، الغبار وغيرها من «العناصر السينمائية» بقدر ما احتجب البشر الذين هم الموقع الفعلي للرعب الدامي.
دار رعب المدينة بين شخصيات متناظرة تكرّرها أفعالها بشكل سكوني، كما لو كان الروائي يصف ولا يسرد، معتبراً «الوصف السكوني» إعلاناً عن روح المدينة. صادر اسم فرانكشتاين الرعب الحقيقي الذي يجب الحديث عنه، وذلك في لعبة إشارية مضحكة مبكية، تشير إلى رعب مجرد ولا تقترب من الذين يعيشونه. ما أنقذ الرواية، أي الجزء الوحيد فيها الذي يصف ويسرد، ماثل في شخصية «المجنونة»، تلك العجوز المسيحية المؤطرة بالأطلال والأطياف والأشباح، والتي لا يجبرها الرعب على مغادرة بيتها القديم. كان بإمكان الروائي، الذي صاغ صوره بلغة صحافية عادية، أن يرصد مسار العجوز البغدادية، التي بدّدها زمن مرعب، من دون أن يستعين بميري شيلي، التي تحدثت عن احتمالات الثورة الصناعية، بعيداً من «صناعة طائفية» تقتل على الهوية.
الروايتان الجديرتان بصفة «تحفة أدبية صغيرة»، بلغة الفرنسيين، هما رواية إنعام كجه جي «طشاري»، وعمل المغربي عبدالرحيم لحبيبي «تغريبة العبدي المشهور بولد الحمْرية». فالأولى منهما تميّزت بنثر أدبي رفيع واستثمار مدهش للتفاصيل اليومية الصغيرة وشفافية إنسانية عالية وقدرة على النفاذ إلى طبقات الإنسان العراقي الذي ألزمه الرعب المتوالي بالهرب إلى لا مكان، من دون أن يفارقه أبداً الوجع العراقي واستبداد الأطياف. وتضمنت الثانية استقصاء أدبياً ولغوياً، واشتملت على متخيل خصيب يستولد متواليات حكائية متناتجة، وقدرة على محاكاة لغة «الرحلات العربية القديمة»، ليس المحاكاة، بمعنى التقليد الكسول، بل المحاكاة المبدعة، التي نرى فيها المؤلف قبل أن نرى «الرحلات العربية» التي تقف وراءه.
ليس في هذا الكلام هجاء للجائزة، ولا ما هو أقل من الهجاء بكثير، ذلك أن جائزة البوكر العربية لعبت، ولا تزال، دوراً متميزاً في التحريض على الكتابة الروائية والتنافس في حقلها. لكنها المسؤولية الأخلاقية – الأدبية، التي تقضي بالدفاع عن جائزة يجب عدم العبث بها، بخاصة حين يصبح العبث قاعدة من قواعدها، وبشكل لا يمكن القبول به.
يذكر أن الدورة الأولى للجائزة، وكنت فيها عضواً في لجنة تحكيم اختير بعض أعضائها باستسهال كبير، منعت رواية علوية صبح «دنيا» من الوصول إلى «اللائحة القصيرة»، مع أنها كانت من الروايات العربية الأكثر أهمية ذاك العام. وفي دورة لاحقة مُنعت الجائزة عن عمل ربيع جابر الكبير «أميركا» وذهبت إلى آخر لاعتبارات لا تقوى على الوقوف. ومن العبث كل العبث ألاّ تصل هذا العام رواية هدى بركات «ملكوت هذه الأرض» إلى «اللائحة القصيرة»، وألاّ تحظى رواية الجزائري واسيني الأعرج بالتقدير التي هي جديرة به. والأكثر إدهاشاً، لمن يعرفون معنى الأحكام الأدبية والمعالجة الفنية، أن تكون روايات تجريبية غائبة عن اللائحتين القصيرة والطويلة، لا لشيء، ربما، إلا لأن «النقاد الثقات» لم يقرأوها، أو قرأوها ولم يقفوا على وجوهها الإبداعية. لا ضرورة، إبعاداً للحرج، ذكر أعمال روائية عربية أخرى حرية بالاهتمام استبعدها «النقاد الثقات» الذين لهم أحكامهم الفنية الطريفة، التي قد ترى في اسم فرانكشتاين وحده معياراً فنياً!
حين يتحدث النقاد عن الإبداع الروائي يشيرون، ضمناً، إلى السلسلة الروائية الإبداعية، التي ينتمي إليها هذا الإبداع، متوقفين أمام الإضافة النوعية التي يتعيّن بها الإبداع الجديد الذي تليق به الجائزة، ذلك أنه لا إبداع بلا جديد، ولا جديد بلا إضافة نوعية. فما هي الإضافة الروائية الحاسمة التي جاءت بها بعض «روايات البوكر» هذا العام؟ هناك تقويم جدي قليل وعبث مجتهد أكثر جدية؟ والمطلوب فصل حاسم بين النقد الأدبي المسؤول والعبث.
صحيفة الحياة اللندنية