صـداقـة الفيسبـوك

أذكر منذ سنوات و أنا في ” مالمو ” و هي مدينة في جنوب السويد أنني كنت أتجول و حدي في شوارع قريبة من الفندق الذي نزلت فيه حين توقفت أكثر من مرة على الواجهات الزجاجية لبعض المحلات لاحظت فيها صفوفاً من الفتيان و الفتيات و قد جلس كل واحد منهم وحيداً في مواجهة كمبيوتر خاص به في معزل عن الجالسين إلى جواره بحاجز يفصله عنهما و هو يراقب باهتمام جهازه محركاً أصابعه فوق بعض مفاتيحه من حين لأخر ، و قد يتكلم كمن يحدث نفسه ، و قد يكتفي بالإصغاء ، و لكنه على العموم يظل طويلا مأخوذا بعزلته و ما يراه أو يسمعه على الشاشة الصغيرة أمامه غير عابئ بأحد.

عرفت أنها محلات عامة مفتوحة لمن يرغب، حيث تقدم له حاسوباً يتواصل عبره مع معارفه لقاء مبلغ محدد حسب وقت استخدامه لما قُدم له . كانت محلات تشبه المقاهي غير أنها لا تجمعه بمن يعرفهم، فهؤلاء الذين يتحدث معهم أو يتصل بهم كتابة لا وجود لهم في المكان الذي هو فيه .

كانت أمكنة صامتة بالرغم من الحشد الغفير المؤلف من أفراد يمارس كل منهم بمفرده هوايته بمعزل عن الآخرين.

لم تنتشر هذه المحلات في بلادنا إلا منذ بضع سنوات و قد خطر لي مرّة أن أجرب الدخول إليها و استخدم أجهزتها و لكن مشاغلي الكثيرة صرفتني عن هذه الهواية و اكتفيت بسؤال بعض الشبان الذين أعرفهم عن هذه المحلات فأجابوني أنهم يزورونها كثيراً و قد صار لهم أصدقاء من الجنسين في بعض المدن العربية البعيدة و الأوربية و أنهم استغنوا عن الصداقات المحلية إلى حد كبير فلم أملك نفسي من أن أسألهم و أسأل نفسي هل هي صداقة حقيقية تلك التي يفتخرون بها ؟

لقد استطاعت الحضارة الحديثة فعلا بأجهزتها الإلكترونية أن تخلق مناخاً آخر مختلفاً للعلاقات الإنسانية لا أعتقد أنه في الإمكان تسميتها صداقات ، فالصداقة كانت شبيهة بالعشق أيام زمان و حين كنت أقول :

” فلان صديقي ” فقد كنت أعني أنها علاقة من لحم و دم و أن معرفتي بهذا الصديق أحاطت بأعمق صفاته الأخلاقية و الثقافية و أن ما يربطني به ليس مجرد حوار من بعيد لبعيد و إنما هي حياة مشتركة متكاملة و ليست مجرد صوت أسمعه أو صورة أشاهدها على الشاشة … علاقة تسمح لي بعناق صديقي و مصافحته و قد أقرض خده أو ذراعه معاتبا إياه أحياناً أو مداعباً .

صحيح أن نظاماً أكثر اتساعاً للعلاقات قد نشأ مع نظام الفيسبوك و صار ممكناً التفاخر بكثرة أصدقاء الواحد منا في العالم أجمع ، و لكنهم في الواقع ليسوا الأصدقاء الذين يسهرون لسهرنا و يفرحون لفرحنا و يساعد الواحد منا الآخر في الأزمات دونما منّة أو تقصير ، إن علاقات الفيسبوك طريفة حقاً و لكنها لا ترقى إلى مستوى الصداقات الشخصية المباشرة و ذلك لأنها تمحو الصفات الحميمية للعلاقات البشرية و تحيلها إلى مجرد خيط براق في شبكات عنكبوتية .

هذا هو ثمن الحضارة الحديثة كما يبدو أن نشاهد زهر البرتقال ولا نشم أريجه ، و تبهر عيوننا أضواء القماش الحريري و لا ننعم بملامسته ، و ما أدرانا ماذا ستقدم لنا الحداثة أكثر حين يُسمح في الطب استنساخ صديق لنا مهدد بالموت بشخص آخر مشابه له تماماً .. ترى .. هل يعوضنا فقدان الصديق نسخة مطابقة له ؟! .. آه على الأصدقاء الذين فقدتهم بالموت أو السفر البعيد بلا عودة و لم أعوضهم أبداً !..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى