أحوال الدنيا

صنع أخطر شر، و لأكثر من 50 عاما كتم السر!!

د. فؤاد شربجي

صنع أخطر شر على البشرية وأخفى فعلته عن الجميع، وحفظ سره حتى عن عائلته لأكثر من 50 عاماً. ولم يكشف الأمر إلا قبل مماته بقليل. ونشرت تفاصيل حياته وما فعله بعد وفاته الأسبوع الماضي. انه “ريتشارد غاروين” مصمم وصانع القنبلة الهيدروجينية. ولإدراك مدى شرها وخطورة ما صنعه يكفي أن نعرف أن هذه القنبلة في إحدى التجارب عليها انفجرت بقوة تعادل 600 ألف مرة قوة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما. والمعلومات تقول أن باستطاعة هذه القنبلة إفناء ومحو الحياة عن منطقة تعادل مساحة فرنسا.

‏مات غاروين في الثالثة والتسعين من عمره. وكان أوباما قد قلده أرفع وسام في الولايات المتحدة دون أن يكشف سره يومها. واحتفل الإعلام الأمريكي به بعد موته كبطل قومي باعتبار أنه، وبعد أن صنع القنبلة الهيدروجينية ، شعر بهول خطرها وشرها على الإنسانية. وبدلا من الغرق في الاكتئاب، كما حصل مع صانع القنبلة الذرية أوبنهايمر بعد قصف هيروشيما بقنبلته، نشط غاروين في السياسة وعمل مستشاراً للرؤساء الأمريكيين في مجال الحد من انتشار واستعمال أسلحة الدمار الشامل. وكان مستشاراً لـ 13 رئيس أميركي. متجاوزاً كيسينجر الذي أعطى المشورة لـ 12 رئيساً. وبسبب نشاطه في الحد من انتشار واستعمال هذه الأسلحة، عده الأمريكيون أحد “رواد السلام” مع أنه صانع أخطر وأبشع شر في العالم.

‏الأعلام الأمريكي أبرز من حياة الرجل عبقريته. حيث بين أنه انجز تصميم القنبلة الهيدروجينية وهو في الثالثة والعشرين من عمره. واستمر في الابتكار في مجالات الكمبيوتر والاتصالات والفضاء و و و  ألخ. ويكفي أن نعرف أنه في السنة التالية لعمله في شركة أي بي أم سجل 47 براءة اختراع. وهذا مقياس لمعنى ومدى استمراره بالبحث والإنجاز. كما ركز الإعلام على وفائه لأستاذه أنريكو فيرمي الذي سعى لتقليده ومحاكاته في البحث والإنجاز وظل يذكر فضله عليه. الأمر الأكثر تركيزا في الإعلام الأمريكي عنه كان حفظه وكتمه لما انجزه من شر. وأخفى سر ما فعل 50 عاما. حتى عائلته لم تعرف. حتى زوجته فوجئت عندما علمت. وهذه القدرة على حفظ السر لهذه السنين الطويلة فيها قدرة شخصية هائلة. ويبدو أن الدافع لها كما قال هو خوفه من تسرب الأمر إلى الآخرين. فتصبح حياته وحياة عائلته مهددة. ركز الأعلام الأمريكي على هذه المزايا في الرجل بشكل يجعل الخطر الهائل لما فعله من شر باهت ومهمش تجاه صفاته الشخصية وإنجازاته. وهو لم يشعر بأي مسؤولية أخلاقية أو سياسية تجاه ما فعل وصنع. وقال (بيدي أو بيد غيري كان سيتم اختراع وصنع هذه القنبلة. أنا فقط سرعت الأمر). وهذا فيه تبرئة للنفس بشكل موارب.

‏في سيرة هذا الرجل معان مهمة. أهمها العمل والمثابرة منذ العشرين من العمر حتى ما بعد التسعين. وقال عنه أوباما (لم يواجه مشكلة قط إلا عمل عليها حتى حلها) وهو جعل مذكراته تحت بند (حاولت.. أنها مهمة مستحيلة). وتظل القنبلة الهيدروجينية كما قال أستاذه فيرمي (شيء شيطاني) وقال كاتب سيرته عنه (العالم الأكثر تأثيرا، والذي لم تسمع عنه من قبل). مع ملاحظة أنه قال (الأكثر تأثيرا) وليس الأخطر تأثيرا.

‏من جهة الأخلاق الإنسانية فإن ما صنعه غاروين أخطر شر يهدد البشرية. ويرقى إلى أبشع صور الإرهاب. من جهة السياسة هو أنتج لبلاده سلاحا تردع به أعداءها وتخيف بواسطته منافسيها. وحكاية ريتشارد غاروين تكشف مدى تعارض السياسة مع الأخلاق. وتفضح أكثر مدى استهانة السياسة بحياة البشر من أجل الحفاظ على التفوق والعظمة والردع.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى