صوت نزيه أبو عفش الغائب: كم من البلاد أيتها الحرية !
صوت نزيه أبو عفش الغائب: كم من البلاد أيتها الحرية !… انطفأت منابر الشعر خلال العقدين الأخيرين في سورية ، وخاصة في فترة الحرب التي مرت، فلم تعلو أصوات الشعراء لتنتج ثقافة شعرية بين الناس، لا مع الحرب ولا ضدها، لا مع الحرية ولا ضدها، لامع النظام ولا ضده ..
والغريب أن الشعراء السوريين الذين وصلت قصائدهم إلى أسماع الناس في العقود الأخيرة، لما قبل الحرب، كفايز خضور وشوقي بغدادي وممدوح عدوان وعلي الجندي ونزيه أبو عفش كانوا تقدميين ويساريين وقوميين، وكان يمكن أن ينتعش صوت من بقي منهم حيا، فإذا الحرب تلغي وجودهم، تخيفهم وتجعلهم ينكفئون ليترجلوا من ذاكرة لم تعد قادرة حتى على حفظ أسماء الشهداء والضحايا.. بقيت بقايا ذاكرة لأمكنة مدمرة وهواجس حب، وكأن مصداقية ماقالوه من شعر سقطت على محك الأحداث الدامية في البلاد !
وإذا كان شوقي بغدادي أحد عمالقة الشعر السوري في نصف القرن الأخير قد أنجز ديوان “جمهورية الخوف” عن مأساة الحرب في سورية التي يعلو فيها صوت الوطن ومأساته (سنكتب عنه )، لم يكن يتوقع إطلاقاً ما حدث ويحدث لدمشق، وإذا كان الشاعر الراحل ممدوح عدوان قد كتب عن جوع نزيه أبو عفش الذي كاد يدفعه لأكل العصافير التي يقتنيها في بيته في أواخر السبعينات، فإن نزيه أبو عفش اليوم بدا أكثر يأسا وقلقا، فإذا هو يلتفت إلى الماضي ليرى رماد الحرائق التي خلفت هذا الدخان الذي نشاهده :
(( الآن، إذ ألتفت إلى الخلف (إلى خلفٍ امتدَّ قرابة سبعة عقود) لا أبصر إلا الرماد، ولا تلتقط حواسي إلا أصداءَ الغصات وما بقي من دخانِ الانهيارات والفجائع..))
هذا هو واحد من أولئك الشعراء الذين غابوا . اسمه نزيه أبو عفش. يعترف أن الشعر أصبح كابوسا، وكأنه لايريد أن يحكي عن جمهورية الخوف التي حكى عنها صديقه شوقي بغدادي .. يقوم نزيه أبو عفش بالتأريخ لنفسه من خلال الأحداث الكبرى التي مرت على بلاده :
(( ولدت في عامٍ مضيء. كان ذلك بعد بضعة أشهر من جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية (ما بقي من سورية). نعم، سأحلم أنني تنعّمتُ بمسرّاتِ هذه الذكرى.
لكن، بعد عامين لا أكثر، وهذا ما يتوجّب تذكُّره ويتعذّر أيضاً، أكون قد دخلتُ مرحلة الفطام، وتكون «إسرائيل» قد وُلدت لتوّها (وُلدت من عماء نفسها وعماء الكون) لتتنعّم بما بقي من الحليب في صدور أمهاتي وأمهات الناس أجمعين: إنها سنةُ انقلابِ العالم.
نعم، يتوجّب عليّ أن أتذكّر: أنا أكبر من «إسرائيل» بسنتين، «إسرائيل» سليلة الخرافات التي لن تلبث بعد ثماني سنوات من ولادتها – أي بعد عقدٍ من تورُّطي في الحياة – أن تتصرف وكأنها الأم الأولى (الأولى والأخيرة) لجميع صبيانِ وشيوخِ وأقزامِ أهل الأرض… كلِّ الأرض.
أتذكّر العدوان الثلاثي على مصر. أتذكّر شبابيك بيوتنا التي دُهنت بالأزرق النيليّ. أتذكّر الهلع. أتذكّر اسم «جول جمال» وصورته التي رسمها عمي. أتذكّر أنني، للمرة الأولى، سأتعرّف إلى معنى كلمتَي: «البطل، الشهيد».))
واقعيا ، وبعيدا عن مفاعيل النص الجميل الذي أرخ به لنفسه ولد الشاعر السوري نزيه أبو عفش في مرمريتا عام 1946، ومرمريتا ، كما تحكي عنها الموسوعات تقع في وادي النصارى في منتصف الطريق بين حمص وطرطوس وتبعد عن حمص حوالي 55 كم ومثلها عن طرطوس، ويحيط بها عدداً من الجبال الخضراء الرائعة، كما أنها تبعد عن الحدود اللبنانية الشمالية ما يقارب 12 كيلو متر كخط نظر مباشر.
عدد سكان مرمريتا غير ثابت في الشتاء بحدود 4000 نسمة بينما في الصيف قد يصل إلى 15000 نسمة حيث يفد إليها سكانها المغتربين من أمريكا وأستراليا وشتى بقاع العالم إضافة للسياح التي يزداد عددهم في كل سنه للتمتع بجو وطبيعة مرمريتا ومن أقدم عائلات مرمريتا عائلة عين الشايبة وسلامة ويازجي وصباغ.
من أهم الفنون التي تميز مرمريتا فن الزجل والشعر الشعبي فكل بيت فيها لا يخلو من شاعر زجلي كما أن القرية تذخر بالعديد من شعراء الفصحى ومن فنونها الأخرى الرسم والنحت والطرب والتصوير الفوتوغرافي ويعلل البعض سبب غلبة الفنانين في القرية إلى جمال بيئتها وطبيعتها والتي انعكست على جمال شعبها.
ونزيه أبو عفش الذي نحكي عنه تلقى تعليمه فيها، فلم يعرفه أحد إلا لكونه شاعرا كتب أشهر القصائد التي حركت الأجيال الجديدة في السبعينات والثمانيات وحتى التسعينات من القرن الماضي ، ومن عناوين الدواوين التي أصدرها :
وشاح من العشب لأمهات القتلى، شعر، بيروت 1975.
أيها الزمن الضيق، أيتها الأرض الواسعة، شعر، دمشق 1978.
الله قريب من قلبي، شعر، بيروت 1980.
تعالوا نعرّف هذا اليأس، كتابات، بيروت 1980.
بين هلاكين، كتابات وشعر، دمشق 1982.
ولايزال كثيرون يذكرون قصيدته المطبوعة كديوان : كم من البلاد أيتها الحرية!
وفيها يقول :
كم طلقة يستوعب القلب ؟
كم خنجرا يتحمل الجسد؟
كم من البلاد يلزم لانشاء الحرية؟
إن غياب الشعراء عن ضجيج الحرب لم يكن غيابا مخفيا فقد كتب سعيد الرفاعي عن الموضوع ، فقال إن الشاعر السوري نزيه أبو عفش فاجأ جمهوره البيروتي، بقوله إنه لن يقرأ شعرا هذه الليلة. ولأن نزيه أبو عفش شاعر حقيقي، قال إنه تورط، وإن مقدار ارتباكه أمام الجمهور “أكبر من دلال الفصحى”. وقال إنه ينظر إلى الثورات من خلال آلام الناس، وإنه كتب عليه ألا يكون مشابها اليوم لما كان عليه أمس ولما سيكون عليه غدا.
هذا التكثيف لحال نزيه أبو عفش، هو تكثيف لحالة الشعراء الذين انكفأوا خلال الحرب . لم يرتفع صوتهم ليعكس صورتهم التي شغلت الناس في فترات سابقة .
يذهب نزيه أبو عفش إلى كتابة اليوميات رغم أن سماح يوسف إدريس (رئيس تحرير مجلة الآداب البيروتية) قدمه في أمسية بيروتية : “شاعرا في كل شيء”، و”شاعرا في كل لحظة”، وهو “قصيدة تمشي على قدمين من ألم”، معربا عن حيرته إن كان صديقه أبو عفش “صديق أم قصيد”.
وبرغم هذه القناعة الكبرى بشعرية نزيه ، ينطوي الشاعر عن مخاطبة الناس بشعره، وربما كانت فجيعته بالخراب الذي عم البلاد التي كان يعتنق حريتها، فنأى عمن دعوا لهذه الحرية. خاف منهم ، وكثيرون كانوا أصحابه ..
وقد كتبت نادين باخص في صحيفة الأخبار اللبنانية عن نزيه أبو عفش كلاما مهما يتعلق برفضه الانضمام إلى الربيع العربي ونقلت عن سامر محمد اسماعيل قوله إن نزيه تأخّر في تثبيت موقفه حبراً رغم أنّ موقفه استُشِفّ منذ بداية الأحداث في سورية من خلال جمل افتراضية مكثّفة كتبها على حائطه على الفايسبوك، ومواقف عدّة رفض فيها أن يتحوّل إلى دميةٍ بخيوط، يمنحها مَن يرغب، تذكرة طيران بإقامة خمس نجوم كي تطير «باسم الثورة» إلى احد البلدان المحتضنة لـ«ربيع العرب» وتصير صوت الثورة الداخلية من الخارج.
وقالت نادين باخص: قبل هذا وذاك، كان نزيه «يتحسّس قلبه» حين كان أحد الذين انقضّوا عليه اليوم، يقول له: «أحبّك»، و«يشتمّ في ندائه العطوف طلاوة السمّ في اللقمة» إذا ما ناداه بكلمة «أخي»، لأنّه أدرك أنّ خلف هذا الكلام المعسول، تقبع غريزة الوحش في الانقضاض. وإذا بالذي كان يبدو حبّاً، ينقلب رصاصاً هستيريّاً يندفع من الأفواه ليخترق كلّ زاوية في الرّوح.
ماذا سيفعل السوريون لو أن نزيه أبو عفش رفع صوت شعره اليوم ؟!
هل سيكون صدى صوته القديم المدافع عن الحرية في ذاكرتهم ؟ هل سيخاف منه السوريون الذين فقدوا خلال الحرب، التي كان عنوانها الحرية ، فقدوا عددا من الضحايا والشهداء يقارب عدد شهداء حرب الاستقلال في الجزائر ، ربما يخاف نزيه أبو عفش من ذلك، وربما تكون قصائده نوعا من القوة الداعمة ليصمدوا أكثر فتنتصر بلادهم على الحرب .. من يدري؟!
على كل حال .. نريد جميعا قصائد نزيه أبو عفش، فهو الذي قال ذات يوم في ديوانه الرائع ((بين هلاكين)):
قليلا من الخجل أيها القديسون ..
قليلا من من القلب أيها الفلاسفة..
الخراب يستحوذ على العالم ..
وأنتم تتكئون على الماضي !!
إليكم عني ..