لقد مرّ وقتٌ طويل على آخرِ مرّةٍ كتبتُ فيها شيئاً جديداً، ربّما عليّ الاعتراف بأنَّ سطورَ البدايةِ هي الأصعبُ بالنسبة إليّ، وقد يُشاركني في ذلك الكثيرُ ممّن يكتبون، إلّا أنني أُرجِّحُ أن يكون السبب وراء تلك الظاهرة الشائعة مختلفاً فيما بيننا، فبينما يعاني كاتبٌ ما من جوعٍ مضنٍ لأفكارٍ جديدة تَصْلُح لأن يكتب عنها؛ أجدُ بأنّ مشكلتي مع البداية تقبع على الضفة المقابلة تماماً، فأنا ممتلئةٌ بالأفكارِ والكلماتِ والحروف حدَّ التخمة!
الأمرُ شبيهٌ بتلك اللحظةِ الحاسمةِ التي تتسابقُ فيها حجومٌ هائلة من المياه المحبوسة وراء سدٍّ عالٍ كي تكون أوّل المتذوّقين للحريّة، الجميعُ يستحقّ العبور والجميعُ سيعبُر في لحظة ما، ولكن في ذاتِ الوقت الجميعُ يريد أن يصل أوّلاً!
هل تستطيعون أن تتخيّلوا معي شدّة الاختناق الذي تُقاسيه قطراتُ الماء حينها؟!
هذا ما يحدث عندما أنوي أن أعود لأفتح مفكّرتي وأكتبَ من جديد ولا سيّما بعد فترة انقطاع طويلة، فأنا أريدُ أن أكتبَ عن الكثير من الأمور التي حدثت أو التي تحدث، أو ربما عن تلك التي قد تحدث.
كلُّ شيءٍ من حولي يدعوني للكتابة عنه، بدءاً من شعاع الشمس الرفيع الذي يتسلّل من النافذةِ صباحاً وحتى طراوة الوسادة التي أشعرُ بها ليلاً قبل أن أغفو، فعلى الرغم من كوني قارئة كتبٍ متواضعة جداً وذلك بحكم دراستي للطبّ بمقرراته الكثيفة التي تذكّرني دوماً بإشارةِ – ما لا نهاية – التي تعلّمناها في الرياضيات؛ يصعبُ عليّ منعُ نفسي من قراءةِ كلّ ما حولي باهتمامٍ بالغ، وما فعلُ القراءة سوى ذلك الشعورُ الذي ينبتُ فينا حينَ نطالعُ العالم من حولنا ثمّ نهمسُ لأنفسنا بأننا قد فهمنا، ولا يختلفُ الأمرُ في نظري سواء أكنّا نطالع الكتب أو الناس أو الطبيعة أو الأشياء!
نعم إنني أقرأُ وأشعرُ بكلّ ما حولي، أقرأُ الفرحَ المُتعَبَ على وجوه الواصلين بعد طريقٍ وعرةٍ ملأى بالصخور، أقرأُ الأملَ المهتزَّ في تلويحاتِ الأهالي حين يودّعون أبناءهم من الشرفات وهم ذاهبون لمدارسهم، أقرأُ الإعجابَ الخجول في الالتفاتة القصيرة التي تحاول ألّا ينتبه إليها أحد، أقرأُ الحبَّ اليائسَ الذي يهدّئُ روعَهُ باختلاق المشاجرات على الدوام!
أستطيعُ أن أقرأ العتابَ الرقيق في غضب الأمهات، والقلقَ العميقَ من غدٍ ضبابيّ في تنهيدات الآباء. أقرأُ الخوفَ المتلعثم على شفاه المرضى حين يسألون الأطباء عن حالهم، أقرأُ الألم الذي يعتصر فؤادَ مَن يتعجّبُ أصدقاؤه من نومه لأكثر من نصف اليوم. أقرأُ القهرَ المستتر في دمعةٍ تعاند الجفنَ بقوّةٍ لكيلا يفضحها ضعفها فتنسكب!
أستطيعُ أن أقرأَ الحزنَ الدفين الذي يحاول كتمانه مَن يغرقون بنوبة ضحكٍ مطوّلة على أمرٍ سخيف. وأن أقرأ الحسرة المريرة في أصواتِ الكبار عندما يكرّرون الأغاني القديمة. كما وأقرأُ الخيبات المتتالية في ذلك الصمتِ العجيب لدى مَن يتوجّب عليهم الصراخ لكنّهم لا يفعلون!
أقرأ أيضاً ذلك الأرقَ المُرهقَ الذي يحفرُ ودياناً سوداء حول عيون مَن يحلّ بضيافتهم. أقرأُ الشجنَ المسافر في الشرود المتكرر، والحيرة البائسة في القراراتِ التي لا تقوى على الظهور، كما أقرأُ قائمةَ الخذلان المختبئةَ وراء اللامبالاة التي تصبغ الحياة بلونٍ واحد!
أقرأُ الإيماءات المرتبكةَ عند مَن يتصنّعون شخصياتهم ويكابدون العناء لكي يخفوا نواقصهم. أقرأُ الغيرةَ الخرقاء التي تجلبُ الخرابَ لكلّ صفةٍ جميلة في صاحبها. أقرأُ الكذبَ المقيتَ الذي يشعُّ من العيون الجبانة. كما أقرأُ الرّياء المُضحِكَ الذي يؤدّيه بمهارة من يحسبونَ العالمَ مسرحيةً تمثيليّة!
نعم إنّني أقرأُ كل ذلك وأكثر، وما كتاباتي جميعها سوى بضع محاولاتٍ لتليينِ المشاعر البشريّة بالمياه كي تصبحَ صلصالاً طريّاً أكوّنُ فيه منحوتاتي الخاصّة عن الإنسان والحياة والكون.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة