تحليلات سياسيةسلايد

“طائف سوري” يكفل وحدة الدولة وإدارات لامركزية

سيهانوك ديبو

بدأت الحرب الأهلية اللبنانية من لحظة انقسام وطني، وفقدان هوية وطنية جامعة، وانحسار أي دور لجيش وطني لا علاقة له بالسياسة، وفصل حالة الانتماء، وضعف العقد الاجتماعي في “سويسرا الشرق”. لكن، بإمكان اللحظات التاريخية أن تحول الأعداء والخصوم إلى شركاء في حكم دولة واحدة في مثال “اتفاق الطائف” 1989 الذي أسدل الستار على الفصل الأخير من حرب أهلية مدمرة أرجعت لبنان للخلف عشرات السنين.

 

ولأن الحلول لا تتأتى نتائجها الكاملة إلا في حال تطابق كامل وتكامل متطابق بين الذات والموضوع، لذلك لم تنته المخاصمات والشراكة من وسمها بـ”المحاصصة”. حلت الأزمة اللبنانية من خلال “رباعية الطائف” الذي أُقِرَ مبادئ عامة وإصلاحات سياسية محورية وقتئذ، وسيادة الدولة اللبنانية على كامل ترابه بعد إنهاء الحالة الميليشياوية والفصائلية اللبنانية وغير اللبنانية، وحل مشكلة المهجرين وتأكيد حق العودة الآمنة، وعلاقات طبيعية بين لبنان وسوريا من خلال عدة أمور منها ضمان انسحاب سوري تدريجي خلال سنتين، الانسحاب الذي صار قسريا متأخرا عن المدة الموسومة نحو خمسة عشر عاما من تاريخ الاتفاق.

ولعل الأبرز في الطائف اللبناني جاء متعلقا ببعده المعرفي من خلال نموذج حوكمة في إنضاج مصطلح “اللامركزية الإدارية الموسعة” الذي ظهر أول مرة في الفقه السياسي وتاريخ العلاقات الدولية وشكل الحكم. رغم أن لإطلالة المصطلح قصة تشبه سردية المنزلة بين المنزلتين، والسردية الجديدة المختلفة هنا ربما ستأتي بأنها نُزلت بين منزلتين: لامركزية سياسية، ولامركزية إدارية.

الطائف” سورياً: فرصة أن يبقى القرار 2254 في مكانه الصحيح

رغم تحذيرات غالبية المعارضة الوطنية السورية من ضمنها “حزب الاتحاد الديمقراطي”- وهو واحد من المكونات السياسية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا- من مغبة التدخل الخارجي (إحدى اللاءات الثلاث لهيئة التنسيق– التكتل المعارض لنظام الأسد)، لكن لم يكن التدخل الخارجي في سوريا على طول الخط سلبيا. والقرار الدولي 2254 للعام 2015 ومسودته الروسية ونصه المقر أميركياً وروسياً، يعد من أهم القرارات التي قاربت بمسؤولية حل الأزمة السورية وخاصة في هدف القرار ومقصده بـ”إقامة نظام ديمقراطي غير طائفي”. وجاء القرار صحيحا في تفاصيله الأربعة (محاربة الإرهاب، حكومة انتقالية بصلاحيات تنفيذية، انتخابات برلمانية، كتابة دستور جديد) ودور قيادي لـ”هيئة التفاوض” للمعارضة. ورغم أن الإدارة الذاتية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تم استبعادهما من هذه “االهيئة” (قيل لنا إنه بسبب فيتو تركي) لكننا كنا نقتنع أكثر بأن أي عملية حوار سوري لا تضم الإدارة الذاتية و”قوات سوريا الديمقراطية” وقوى وطنية سورية أخرى لن يكتب لها النجاح. لم نقطع الأمل وقتئذ ليس بسبب خفوت متناوب ونسبي لحالة استقطاب منصات المعارضة السورية  بمن يدعمها، إنما الثقة أكثر في الرياض وعواصم عربية وغربية، وفي موسكو أيضا. كان الشيء نفسه بالنسبة لعمان الموكل إليها مهمة تحضير ورقة تضم الجماعات المسلحة المرتبطة بالإرهاب التي توقفت حين وصل العدد لأكثر من ألف جماعة ومجموعة وفصيل بعلاقة عضوية مع “القاعدة” إما فكرا أو تنظيما أو كليهما.

والرياض التي حرصت في فترة سابقة على إعادة سوريا للجامعة العربية تحسبا من أي مشروع ماضوي سياسوي إقليمي بالدرجة الأولى، والرياض التي منحت لدمشق- العاصمة وليس النظام- أن تُرجِع الدور الذي يليق بسوريا، والرياض الذي أوقفت العقوبات المفروضة على شعب سوريا من خلال زيارة تاريخية لرئيس أميركا دونالد ترمب، وكان للنظام الحالي الانتقالي في سوريا أن يجعلها الخطوة قبل الأخيرة لإنهاء العقوبات. لكن مجموعة من الأسباب والأفعال لا تخلي مسؤولية السلطة الانتقالية من دماء في الساحل. وكان له أن يتوقف عند ذلك ويدفع بالتي هي أحسن إثر اتفاق العاشر من مارس/آذار العام الحالي بينه وبين “قوات سوريا الديمقراطية” لكن زاد مسؤوليته عبئا فيما حدث بالسويداء من أحداث مؤسفة. ودائما المشهد سوري والدماء سورية، ودائما عنوانه المأساوي: العنف والعنف المضاد.

رغم كل ما تقدم، وما يشوب المشهد السوري من تحديات داخلية وخارجية، يمكن القول إن الرياض بمكانتها، التي لعبت دورا في “الطائف اللبناني”، يمكن أن تقوم بدور كبير في سوريا. وقد نوه إلى ذلك أيضا الجنرال مظلوم عبدي قائد “قوات سوريا الديمقراطية” في لقائه الأخير  مع قناة “العربية” في نهاية يوليو/تموز، بقوله إنه يمكن للمملكة العربية السعودية أن تقوم بدور مهم في الحوار السوري.

تحديات جوهرية أمام “الطائف السوري

إذا قدر لمسار الأزمة السورية أن يرجع، ربما يتوقف بتمعن عند 30 أغسطس/آب 2020 تاريخ عقد اتفاق بين “مجلس سوريا الديمقراطية” و”منصة موسكو” السورية المعارضة في العاصمة الروسية الذي يمكن وصفه بالأكثر حيوية. والوصفة المقدمة من الاتفاق كانت لها الحظوظ أن تخطو بانسيابية نحو الحل السوري من خلال النقاط الخمس المعلنة بين الطرفين: وحدة سوريا والإدارة الذاتية كجزء من النظام الإداري السوري العام بصلاحيات في علاقة تكامل وصلاحيات المركز المعهودة وتؤكد قوة المركز والصلاحيات المشتركة بينهما في الوقت نفسه. والقضية الكردية كقضية وطنية سورية يجب حلها وفق العهود والمواثيق الدولية ضمن إطار سوريا الواحدة. و”قوات سوريا الديمقراطية” كجزء من مؤسسة جيش سوريا الوطني المحايد، ولهذه القوات خصوصية يتم الاتفاق عليها. ومقدرات سوريا لجميع السوريين. والعودة الآمنة للمهجرين، ورفض أي عملية تغيير ديموغراغي.

وهذه الوثيقة غير منفصلة عن اجتماعات سورية ومؤتمرات ولقاءات حدثت في سوريا وخارجها، فلا يمكن عزلها عنها، ولا يمكن عزل الوثيقة عن كل لحظة وطنية سورية. كما أن هذه الوثيقة بحكم سياق إنضاجها وإنتاجها لا يمكن عزلها عن أي مخرج أو اتفاق حدث في المنطقة والإقليم، ومن ضمنها رباعية “اتفاق الطائف” اللبناني 1989.

الدمج… الجزء والكل

حدود وخرائط سايكس-بيكو رخوة بالأساس وباتت أكثر هشاشة. ليس للموضوع علاقة بما بدر عن الزعيم السوري القومي أديب الشيشكلي، الذي استولى على السلطة عام 1949، حين قال: “سوريا هو الاسم الرسمي الحالي لذلك البلد الذي يقع ضمن الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار”. ولا علاقة بالذي قاله توماس باراك مبعوث الرئيس ترمب لسوريا ولبنان من أن “سايكس-بيكو انتهى وزمن التدخل ولى”، وليس بسبب مشاريع التوسع الإقليمية وخاصة من قبل تركيا وإيران، وليس بسبب المعابر العابرة للحدود والتي تطرقُ بقوة هذه اللحظة حدود سايكس-بيكو، ليس بسبب ما فعلته “داعش” قبل نحو العقد حينما محت جزءا من الخرائط، والمكونات المجتمعية والعشائر التي تحركت مؤكدة حضورها من خارج الحدود إلى داخل الحدود.

الأمثلة لم تنته ويبدو أنها ستستمر حتى انتهاء المشكلة وحل جميع قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها قضية الدولة والقضايا القومية ومسائل المكونات ومحور السلطة التشاركية في الدولة الوطنية أو المتعددة الوطنيات.

كيف نصل إلى دولة مستقرة؟ ما مستقبل “قسد”؟

أهم الخطوات التي يجب أن تكون في مقدمة أي أجندة متعلقة بسوريا هي الدولة الوطنية السورية التي لا تنفصل هذه اللحظات عن رباعية: مؤتمر وطني سوري عام، مبادئ دستورية أساسية ومحصنة يتم التوافق عليها بوسع آلية عدم المساس بها وعدها العمود الفقري للعقد الاجتماعي السوري وقيم الجمهورية السورية الثالثة، حكومة انتقالية موسعة بصلاحيات تنفيذية كاملة لفترة معينة يتم التوافق عليها تنتهي عملها حين عقد انتخابات تؤكد فصل السلطات وتؤسسها، وتأسيس رؤية عملية وحيوية لتأسيس جيش وطني غير عقائدي ولا يتدخل بشؤون السياسة.

“قسد” جزء من مؤسسة الجيش السوري. ويجب إدماج جميع مؤسسات الإدارة الذاتية بما يقابلها من مؤسسات النظام الإداري السوري العام. وهنا يجب بذل جهود معينة– يمكن أن تكون مبذولة في “الطائف” بدعم أميركي- كي يقرأ كل من طرفي الإدارة الانتقالية والإدارة الذاتية من الصفحة ذاتها، وبأن الدمج الذي وقعت عليه “قسد” لا يعني فقط أن “قوات سوريا الديمقراطية” من الممكن لها أن تغير حتى اسمها إلى فيلق عسكري سوري يتبع لوزارة الدفاع السورية، كما يمكن للمجالس العسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” أن تتغير إلى نظام الفرق التي تتبع لهذا الفيلق، وأن يتبع بشكل تنظيمي وإداري لهيئة الأركان السورية أو وزارة الدفاع.

وهنا، الاندماج يعني الانخراط والتكامل وليس الحل والاختفاء الكامل. ولكن الأمر ليس بعلاقة كيف يتم دمج نحو 120 ألف مقاتل من “قسد” في نحو 30 ألفا في وزارة الدفاع السورية، بل الأمر الأكثر تعقيدا أن أسباب ودوافع نشوء “قسد” لا تزال موجودة وتطرقُ الأبواب السورية، ولا ننسى إشكالية أن مراكز الاعتقال والمخيمات الخطرة غير الآمنة مهمة تسييرها وأمنها على عاتق “قسد” والتحالف الدولي العربي بقيادة أميركا ضد الإرهاب.

أما البنتاغون الأميركي الذي أقر استمرار شراكته مع “قسد” وإقرار ميزانية الشراكة حتى نهاية 2026 على الأقل، وقيام التحالف بالتعاون مع “قسد” قبل نحو الأسبوعين بتحييد أحد أخطر قيادات “داعش” المسؤول عن مجزرة قبيلة الشعيطات أكتوبر/تشرين الأول 2014، وتضطلع “قسد” بأدوار أكثر وطنية في عموم الجغرافيا السورية، ودورها المجتمعي النوعي في شمال وشرق سوريا، وأيضا في المناطق المحايدة لها وخاصة بالنسبة للعراق من مختلف مسائل ودواع أمنية، وغيرها من الأسباب التي تؤكد أن اندماج “قسد” في الجيش السوري مطلب “قسد”، وإبقاء خصوصية “قسد” ضمن ما تقدم مطلب وطني سوري. لا ضير من أي آلية وطنية سورية يتجنب من خلالها أي مغزى وتخوف.

وهنا نعتقد أن “الطائف اللبناني” وقدرته الفريدة في التمييز بين الفصائلية والمقاومة، يمكنه إنهاء سلاح الميليشيات وإبقاء حالة المقاومة التي تشير التقديرات إلى أنها كانت صحيحة لحظة الاتفاق على الأقل. يمكن لـ”الطائف السوري” في حال قدر عقده حل هذه المشكلة الإبقاء على “قوات سوريا الديمقراطية” بخصوصية تحت كنف الدفاع أو الداخلية أو كليهما.

سوريا موحدة… أقاليم ولامركزية؟

أما صيغة لامركزية الدولة السورية فيكتب لها البقاء مهما كانت هذه الصيغة. ورغم أن السلطة الانتقالية وما تقوم به من إجراء من طرف واحد بعيد عنها معظم شعب سوريا ومكوناته، سوى أنه يمكن التعامل بجدية تصل حد الإيجابية مع ما تقره. خمسة أقاليم تتألف منها سوريا كوحدة اتحادية: إقليم الساحل، إقليم شمال وشرق سوريا، إقليم الجنوب، إقليم البادية، وإقليم الشام أو الداخل.

يمكن لسوريا كوحدة اتحادية أن تتألف من خمسة أقاليم جغرافية وأن تتبنى مفهوما معرفيا سياسيا معاصرا خاصا بالوضع السوري: “اللامركزية الديمقراطية” (أقرت في مؤتمر القاهرة 2015) أو “اللامركزية الوطنية”. فليست المشكلة في الاسم إنما الإشكاليات تظهر في العملياتي من المسمى.

ربما لا يحتاج إلى عناء المتابعة في القول أن فئة واسعة من شعب سوريا، في هذه اللحظة مع نموذج الإدارة الذاتية المعمول به في شمال وشرق سوريا مع مزيد من تطويره وتصويب أخطائه ومعالجة العيوب التي اعترت “الإدارة الذاتية” منذ فترة التأسيس حتى اللحظة. لكن صار بحكم التأكيد أن أغلب السوريين ليسو مع الانفصال. لا انفصال عن سوريا ولا تنازل عن إدارة ذاتية للمكونات السورية أو لامركزية الدولة في سوريا. إن عموم شعب سوريا يثقون في أن الحلول المستدامة لها علاقة بالحكمة والصبر، ويمكن أن تكون اللحظة لصالح سوريا الحديثة هنا أيضا وعلى شاكلة الذي حدث في منعطف “الطائف اللبناني” قبل نحو 35 عاما.

مجلة المجلة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى