طـه حسـين.. الهجـوم المعرفـي التشـكيكي (وارد بدر السالم)
وارد بدر السالم
طه حسين الأمس.. هو طه حسين اليوم.. لم يتغير سِفْر النظرية الحسينية ولا قيد أنملة، ولكن تغيرت الحال وتغيرت إنتاجية الثقافات واختلف النسق الفكري كثيراً بين الأمس واليوم، ومع كل هذا بقي طه حسين حتى الآن علماً من أعلام التنوير الفكري، وبقي جدله قائماً مهما تعددت منافذ الجدل في استراتيجيات الحداثة الأدبية ونزوعها الى مغايرات المناهج البحثية القديمة .
ذهب الأمس برؤاه واستخلاصاته ومناقبه، وبقي اليوم جسرا بين هذا وذاك في جدلية الحياة الثقافية المستمرة في حداثتها اليومية واستنتاجاتها الجديدة، بينما طه حسين يخلّف وراءه ثروة فكرية وأدبية لا تزال حيّة وماثلة وشاخصة في المتن الأدبي العربي العام.
في تقصي الأثر الأدبي والثقافي العام لتجربة طه حسين (1889 ـ 1973) المعرفية الشاملة ثمة محطات بارزة في مسيرة هذا العميد لا تشيخ مهما كانت المستحقات التاريخية التي تبلور نتائج جديدة عن تاريخية الآداب والفنون والأفكار والثقافة بشكلها العام، وما توصل اليه طه حسين في فترته الذهبية من استنتاجات مهمة في تحريه المتعدد عن استحقاقات زمنية برموز وأسماء أدباء وشعراء وظواهر شعرية وفكرية في مراحل مختلفة من تاريخية الأدب العربي يعد بمجمله بانتقالة مهمة في تفسير وتأويل الأثر الثقافي المتروك، بل وحتى جزء من الأثر الديني ذاته الذي أخضعه طه حسين تحت منظار المبدأ الديكارتي الحدسي والظني. وهو ما لفت الأنظار اليه لكونه تجرأ على الدخول في المقدس بطريقة الشك، وهو ما لم يفعله أحد من مجايليه فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
كان طه حسين قريبا من التاريخ البعيد. ربما كان الرجل يحرث بعمق في الشعر الجاهلي وأدبه بشكل عام. ربما كانت له آراء غير قابلة لأن تُتَبنى بسهولة ما دام منهجة قائما على الشك ولا غيره، فهو المتنور الألمعي المتقدم على عصره بمراحل كما يريد معجبوه. والباحث؛ بشك دائما؛ عن جمرة الحقيقة بين ثنايا التاريخ وسجلات الآداب والعلوم المتعددة التي تلقفها دارساً، منقباً، باحثا ً، مستنيراً بثقافة موسوعية ومدرعاً بحصيلة معرفية رافقته منذ نشأته الدينية والأدبية الأولى، ولعل الشيخ مجمد عبده هو من أتقنه علمية التحرر من القيود الثقيلة القديمة وبصّره في الكيفية التي تمكنه من أن يقود وعياً جديدا في المحيط العربي والثورة على القديم الراسخ مما تركه الأقدمون من نصوص قارّة أو شيوع تقاليد ثابتة تؤخر عمليات الإصلاح الاجتماعي والثقافي العام.
موسوعية طه حسين وراءها شيوخ متنورون واساتذة معرفة ومصلحون اجتماعيون ومفكرون غربيون وجهابذة لغات ورجال دين منفتحون تبسطوا في المعرفة الدينية وتركوا في قراءاتها بصمات معرفية جديدة في تلقي الأثر الديني وأدبياته، كما تركوا لمسات شخصية كانت تنذر المتعصبين والعصابيين المصابين بفوبيا الدين، بأن ثمة من يستعين بالمنطق والسلوك والتفسير والاجتهاد بل وحتى الشك، ليصل الى نتائج ليست بالضرورة ترضي هذا الطرف أو ذاك؛ ممن تمسكوا بثوابت نصية وقرروا ألا يغادروها بل زادوا من صنمية الكثير من النصوص تحت شعارات وملفات معروفة. لذلك نجد طه حسين منذ بواكيره الأولى أخذ على عاتقه أن يكون ضمن الرعيل المتنور الذي تعلم كيف يقرأ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي وكيف يُخضع الأثر الأدبي، والشعري منه على وجه الخصوص، لعمليات كيميائية لاستخلاص متونه الصحيحة وإحالته على مرجعياته الأساسية تاريخيا في أقل تقدير. ومن ثم لاستقرائه بمنهجية معروفة. سواء اتفق معه من يريد الإتفاق أم لم يتفق من آثر أن يبقى في الخط المحرّم من الثقافة القارّة. لهذا كان على طه حسين أن يواجه طبقات من التعصب الديني والأدبي ممن تشكلوا في فترات سابقة وعدّوا ثوابت الأدب والشعر والدين لا يطالها طائل ولا يرقى الشك اليها. وعليه أن يواجه سيولاً من الاتهامات المباشرة كترويجه للثقافة الغربية وتشكيكيه ببعض مفاصل الكتاب المقدس بإنكاره وجود النبي ابراهيم على سبيل المثال وشكه في نسب النبي محمد وغيرهما!
الصراع
ولا بأس أن نشير الى منابت طه حسين العلمية كي نبقى في صورة الرجل الدؤوب الذي يتقصى العلوم والمعارف والثقافات واللغات، وهو ما يعني ان طه حسين كان موسوعة متكاملة من العلوم والآداب؛ ففي الجامعة المصرية تتلمذ على يد كل من أحمد زكي في دروس الحضارة الإسلامية، وتتلمذ على يد أحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة، وكان أستاذه في التاريخ والجغرافيا المستشرق جويدي. اما في الفلك فتتلمذ على كرنك نللينو وفي اللغات السامية القديمة على يد المستشرق ليتمان، وفي الفلسفة الإسلامية على يد سانتلانا وفي تاريخ الحضارة الشرقية القديمة درس على يد ميلوني، وفي الفلسفة على يد ماسينيون وفي الأدب الفرنسي على يد كليمانت. ودرس في جامعة باريس التاريخ اليوناني على غلوتسس والتاريخ الروماني على بلوك والتاريخ الحديث على سيغنوبوس وعلم الاجتماع على اميل دوركايم، وقد أشرف هذا ومعه بوغليه على اطروحته عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية بمشاركة من بلوك وكازانوفا.. فهل هناك أرفع من هذه الحصيلة المعرفية والذخيرة الثقافية التي جمعت العلوم والآداب والفنون والحضارات في كف واحدة؟
ثقافة الآخر
استيعابه ثقافة عصره وألمعيته في احتواء التراث العربي ومخزوناته الثرية، إضافة الى كونه مطلعاً بشكل واف على جدليات الحضارات الغربية القديمة والمعاصرة، جعل منه عالماً جدلياً له حجته ومنطقه ونظريته الظنية أمام حلقات ثقافية كان يسوؤها مثل هذا الانفتاح المعرفي الشامل والجدل المنفتح على ثقافة الآخر. وهو ما أخِذ عليه في كل مراحل حياته الكتابية لا سيما في منتصف العشرينيات من القرن الماضي حينما أصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي توصل اليه بعد مزيج من الشك والاستقصاء الى إنكار الشعر الجاهلي وعدّه منحولا وانه كُتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين. وهو الأمر الذي خلق له مناوئين في المنهج والفكر فتصدى له أعلام كبار كمصطفى الرافعي وأحيل على القضاء وكتبت عنه الصحافة المصرية كثيراً، وبدا أن منهجه التشكيكي غير قادر تماماً على أن يكون هو المنهج والنظرية والأسلوب وعدّه البعض ورطة علمية ومنهجية في ثقافة طه حسين وأنه امتثل لثقافة الغرب في تكوينه الظني والحدسي لا سيما عند استاذه مرغليوث وغيره ممن تماشوا مع خط ديكارت في الظن والتشكيك قبل قبول النتيجة او الاستخلاص البحثي. بمعنى أن فرضيته في موضوعة الشعر الجاهلي وتقصياته في الفكر الإسلامي عامة ودعوته الى فصل اللغة العربية عن محورها القرآني لم تقم على أسس علمية منهجية، بل هي ورطة مدفوعة الأجر بانتهاجها المادية الغربية وتماهيه مع الأوْربَة كدليل متين الى انتهاج سياسة علمية في تحليل الآثار الفكريـة والأدبية.
الكثير من إثارات طه حسين تقدم وتقادم الزمن عليها. وربما عدّت من أخطائه الشنيعة، فالتمرد على لغة القرآن لم يكن له سبيل للانتشار بطريقة طه حسين القائمة على فصل اللغة العربية (الإسلامية) عن اللغة العربية اليومية هو ما أوقعه في إشكالات مع رهط من المتعصبين ومتفلسفي الفكر الإسلامي وبالتالي أوقعه تحت ضغط محيط يومي يتقيد باللغة القرآنية ولا يحيد عنها، ثم اأن تقبيحه للأدب العربي ومنجزاته التاريخية في السرد والشعر والخطابة أفصح عن تأثر بل انتماء الى الآخر بطريقة لا مواربة فيها. فهو القائل: (لا أختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع. وهو في الواقع فرق ما بين العقل السامي والعقل الآري. فالأدب العربي سطحي ويقتنع بالظاهر. والأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل..). وقد لا يكون هذا الرأي مستشريا اليوم لأسباب كثيرة، لكنها تبقى وجهة نظر قيلت في زمنها، فالأكاديميات العربية وجامعاتها تدرس الأدب الجاهلي من حيث هو ادب عربي خالص سبق ظهور الإسلام بمسميات شعرائه الكبار، ولم يعد أحد اليوم ينكر أيام العرب وأسواق العرب والأقوام البائدة واصالة الأدب العربي والشعر الجاهلي الذي لم يصنعه رواة العصور الإسلامية المتأخرة، وامرؤ القيس وعنترة بن شداد والبحتري كما تنكر لهذا طه حسين في جدله الشكّاك الذي أخذ من وقته كثيراَ. كما لم يعد أحد يصدق أن الإسلام ظهر في امة راقية ذكية لا تحتاج الى الكثير من الفصاحة القرآنية وليست جاهلة وبدوية تعبد الأصنام وتمشي وراء حدسها وكانت تحتاج الى مخلّص بقامة النبي محمد، وبالتالي فإن لغة القرآن هي التي جاءت على سبعة أحرف قريشية النسب والزمان والمكان، وفي الوقت ذاته تقدمت العلوم كثيرا وكانت الكثير من المكتشفات الأثرية أفصحت عن معلومات جديدة وخطىً قديمة سلكت هذا الدرب أو ذاك وتركت وقائعها في هذا وذاك من المكان والزمان. مثلما لم يعد أحد يصدق الآن أن بعثة النبي محمد وحياته كانت اسطورة وضعها علماء اليهود والنصارى والأحبار، وان قصة ابراهيم واسماعيل وهجرتهما الى مكة أسطورة هي أيضا ً بوضعٍ من اليهود، وان اللغة العربية متخلفة قياساَ الى لغات العالم الأخرى.
تتبع خصوم طه حسين حركاته وسكناته وأحصوا عليه سطوره وحروفه وما وراءها من شكوك، وكان هو يملي الكتاب تلو الكتاب والظن إثر الظن بطريقته التشكيكية المعهودة حتى قال عنه العقاد انه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير… وهو حراك ما انفك من المواجهة بين طرفي معادلة غير منسقة قطبها الواحد طه حسين وأقطابها في المعسكر المضاد كثيرون يرفضون الحوار والتجديد والجدل والوثيقة الممكنة، حتى وصفه أعداؤه بأنه لم يكن عربيا ولا عروبيا، مثيراً فتنة كبيرة بين المحافظين المسلكيين أصحاب الطرابيش وبين قطبه الوحيد الذي ظل ممسكاً بزمام المبادأة والتصحيح بقدر مهم من الهجوم المعرفي التشكيكي دائماً، فهو المبصر الوحيد الذي لا تدافع عنه عصور العميان بوصف نزار قباني.
صحيفة السفير اللبنانية