طه حسين العقلاني التنويري هل كان يُخادع المسلمين؟ (احمد زين الدين)
احمد زين الدين
يصعب على الباحث أن يستأنف الحديث مجدداً عن عميد الأدب العربي طه حسين، كأن الصلة انقطعت معه بانصرام أجل طويل على وفاته، كما يحصل عادة في انقطاع الكلام عن حالة أو ظاهرة عابرة تمضي الى غير رجعة، أو تنحلّ من دون أن تترك اثرأً، أو بقية في النفوس أو العقول. فالرجل سليل الخالدين، ومن العسير اختزاله أو اختزال منزلته الأدبية والفكرية في ما دوّنه فحسب، من مؤلفات ودراسات ريادية غزيرة ومتنوعة ذاعت بين القراء، وتداولها النقاد بالقبول او الرفض. وهذه المنزلة لا يمكن الإحاطة بها لمجرد التذكير بما تراكم بين أيدينا من محصوله الأدبي والفكري الضخم. فاسم طه حسين يتجاوز ما كتبه، ويقترب من كونه أمثولة ثقافية بارزة في حياة العرب المعاصرين. وإذا كان لم يكترث في حياته باحتذاء غيره من أعلام الثقافة والسياسة المشهورين، الذين يضمون تحت اجنحتهم لفيفاً من المريدين، ينتمون إليهم مباشرة، وينشرون آراءهم على الملأ، فإن أجيالاً من الأدباء والمفكرين العرب اقتفوا خطاه، ورفعوا لواء فكره التنويري، من دون أن يقلدوه، لأن الرجل عصي على التقليد، بسبب وحدانية تجربته ومعاناته. بيد أن تجديد الحديث عنه اليوم يضعنا في قلب الإشكالية التي عانى منها طه حسين في زمانه. إشكالية ما برحت ماثلة في أذهاننا، وإلى أجل غير مسمى. عالقة على الدوام بين الثنائيات التي نتلجلج بين خيوطها المتواشجة، ونصارع للتملص من أحابيلها وعقدها. ثنائية القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، والدين والدنيا. ثنائية اتخذت عند طه حسين بُعداً رمزياً بين البحر والصحراء، على حدّ ما تخيّل المفكر المصري علي مبروك. أما البحر فيمثّل التنوير المنبعث من ضفة البحر المتوسط، ودولة الحداثة المتأوربة التي انبهر بها طه حسين، لكنها أخلّت بوعودها معه، بأن مارست دورها الكولونيالي على أرض مصر، وهو دور يتعارض مع إرثها التنويري الذي ينادي بحرية الانسان والشعوب. بينما تمثل المخيال السلفي، في ظل هذا الاختلال الذي صبّ في طاحونته، بصورة الصحراء التي تحاول اليوم إعادة إنتاج ذاتها، وإنتاج رموزها وطقوسها وسلوكها وأزيائها، على شكل تديّن بدائي نكوصي.
مخالب الظلامية
المشهد العربي الثقافي والسياسي اليوم شديد القتامة، وقد بات للقوى الظلامية براثن ومخالب أصلب وأقوى بكثير مما كان عليه الوضع في عصر طه حسين، ثلاثينيات القرن الماضي. فتلك القوى الدينية التي وقفت في وجهه عهدذاك، وهاجمته هجوماً صاعقاً، ورمته بالإلحاد والكفر والعمالة للأجنبي وتقويض الثقافة العربية الإسلامية، بقيت ملتزمة حدود المناظرات والمعارك الكلامية، أي حدود العنف الرمزي، ولم تستخدم، كما هو سائد اليوم، أدوات القتل والاغتيال والنفي. وطه حسين طوال مسيرته ظل مصدر تشكيك وتوجّس من قِبل كثير من مناوئيه، ولقي عنتاً منهم وضيقاً، واتُهم بأنه خدع المسلمين ومكر بهم، و«لغّم» أصول الدين الإسلامي المعروفة من داخله. وقد ردّ الداعية أنور الجندي على فكرة راجت في أوساط الناس بأن طه حسين بدّل آراءه في سنواته الأخيرة، وتراجع عما كتبه سابقاً. ردّ بالقول إن طه حسين غيّر أساليبه ووسائله في سبيل الوصول إلى قلب القارئ المسلم. ومن أجل هذه الغاية تخلى عن اسلوب التهجم المباشر على الإسلام، فأظهر قبولاً به، فكان كتابه «على هامش السيرة» تكفيراً عن «الشعر الجاهلي» وكتابه «الشيخان» تكفيراً عن «مستقبل الثقافة»، ليدس السم في ثنايا كلامه. والواقع ان الرجل الذي ترعرع في بيئة استفحلت فيها الأمية، وشاعت في أرجائها الترّهات الدينية، كان مضطراً الى المناورة والمداورة والتقية لبلوغ مأربه. وبالرجوع إلى مذكرات سكرتيره محمد الدسوقي، الذي لازمه في سنوات حياته الأخيرة، يتبين لنا، اذا صدق ما يرويه الكاتب عن طه حسين، ان الرجل كان يُظهر أحياناً عكس ما يستبطن من آراء بالأدباء والسياسيين والحكام في زمانه. ولست أزعم قياساً على ذلك، أن طه حسين يكيد الإسلام، أو يقدح به علانية أو سراً، أو أنه يستهزئ بتعاليمه، او يقدّم مثالبه على محاسنه. بل إنه يحاول بطريقته الملتوية ربما، أن يزعزع المسلمات العقلية المتوارثة، واليقينيات الدينية الشعبية والتقليدية، وأن ينظر إلى الموضوعات التي بين يديه نظرة مجرّدة من الأهواء، أو منزّهة عن الأوهام والأباطيل والفرضيات. وهذه الطريقة هي دأب مفكرين عرب معاصرين، مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وفؤاد زكريا وحسن حنفي وسواهم، ممن نقرأ بين سطورهم ما دقّ وخفي من ظاهر كلامهم، في ظل ظروف مماثلة لظروف طه حسين وبيئته، بل هي أشد وطأة عليهم. وفي هذا المقام لا ينكر طه حسين الدين، وإنما يضعه في حيّز الشعور الفردي وينافح عنه، ما دام الدين في مفهومه خبرة إيمانية شخصية، تنفصل عن أي مرجعية خارجية مفروضة عليه.
خميرة ثقافية
طه حسين كان شخصية إشكالية بما تحمل هذه الكلمة من انقسام على النفس بين وعي نخبوي طليعي، ووجدان وطني مصري يوغل في وطنيته تاريخياً وثقافياً وتراثياً وإسلامياً، على ما يذهب إليه عبد الرزاق عيد في أطروحته عن طه حسين. وهذه الإشكالية هي أحد تجليات شخصيته الخصبة والفائقة الحيوية. إشكالية عقلانية تقوم على مفارقة تراوح بين تبنيه عقلانية طليعية، وإيمانه بإرث تنويري ديموقراطي يُخضع كل الأفكار إلى مبضع النقد والتعليل والتشريح، من جهة، وبين شروط عصره التاريخية الاجتماعية التي تجبره على التكيّف معها، بكل ما تنطوي عليه من فشو التيارات الرجعية والمعتقدات الشعبية الخرافية والأسطورية، من جهة أخرى. وعليه فإن الادّعاء بأن انبهاره بالغرب بلغ حدّ الذوبان، ومحو خصوصيته الحضارية التي ألمّ بفلسفتها وأدبها نثراً وشعراً غير دقيق. إنما شكّلت كتاباته بمجملها خميرة تفاعل ثقافي بين الحضارتين الشرقية والغربية. بل إن هذا العلماني، الذي لم يقبله المتديّنون لعلمانيته، ولم يقبله العلمانيون لتديّنه، حسب عبارة عيد، إنما كان يصبو لا إلى علمانية فرنسا الملحدة التي تنحو إلى إعدام الحياة الدينية في الفضاء العام، بل الى تبني القيم التي بلورتها الثورة الفرنسية التي أفضت فيما بعد إلى مسارها العلماني. وعلى رأسها قيم المساواة بين البشر، وتعظيم شأن العقل، والإذعان لمتطلبات المنهجية المجردة من كل عاطفة أو هوى، ورفض المسلمات الإيمانية القبلية، كما جاء في مندرجات المذهب الديكارتي، وفرض المعايير الموضوعية والعقلية القابلة للنقد والتمحيص. لذلك فرّق فيصل دراج في دراسته عن طه حسين بين علمانية الغرب التي اشتُقت من صعود العلم ومعطيات المجتمع الصناعي. وعلمانيته القائمة على ضرورة طلب الحرية والتقدم اللذين يحتاجهما مجتمعه الراكد، ليكون قادراً على مواجهة تداعيات التقدم الأوروبي السريع واللحاق به.
إصلاح شمولي
من الدروس المستفادة من حياة طه حسين وفكره، أنه لم يكتف بموقعه الأدبي، بل أخذ بتصور فكري شمولي لإصلاح النفس والمجتمع والتعبير عنهما. ولم يقتصر على مجال من دون آخر، فكانت دعوته إلى اقتفاء المنهج العقلي طريقاً متشعّب الاتجاهات، عرّج منه على التربية والتعليم، كما على الأدب والحياة الاجتماعية والسياسية. فسعى الى إصلاح التعليم في مصر ومجانيته، وتحسين أوضاع المعلمين، وإنقاذ التعليم الجامعي من مظاهر البيروقراطية، ودعا إلى استقلالية الجامعة، والى حرية البحث العلمي،. وفي الأدب كان مجدداً، وحدّد المعايير الأسلوبية التي تقوم على تخليص الأدب من شوائبه، لا سيما تعلق النقاد بشخصية الشاعر أو الكاتب واستقصاء مزاجه وفرديته، عوض الحديث عن علاقة الأدب بتصوير الحياة والمجتمع. ووقف ضد التصنع في الكتابة، وتكلّف الكُتّاب العبارات المكدودة التي تشق عليهم وعلى القارئ معاً. وحرص على مراعاة اختلاف الأذواق من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر. لأن الذوق الأدبي يجب أن يلائم الناس ويعبّر عن حياتهم. ومن الإسراف كما يقول: أن نستعذب لغات الأجيال الماضية وأساليبها لنصف بها أشياء لم يعرفوها، وضروباً من الحس والشعور لم يحسوها، ولم يشعروا بها. وحاول طه حسين أن يدافع عن الأفكار الليبرالية ضد الهيمنة الدينية وضد السلطة الثيوقراطية والحكم المطلق. وآمن باختلاط الجنسين، وأنكر فريضة الحجاب على المرأة لأنه مقيد لحريتها الفطرية، وأعلى من شأن الرقص والغناء والتمثيل والموسيقى، بحسبان هذه الفنون من مرتبة المُثل العليا والمبادئ السامية.
وإذا كان من المألوف في سياق الحديث عنه، وضع كتابه «في الشعر الجاهلي» في بؤرة الضوء، فقد أُشبع الكتاب درساً وتمحيصاً، وأراق حبراً كثيراً، وما عاد بمضمونه أمراً يهمنا، بقدر ما تعنينا الظروف التي أحاطت به، والمواقف المتشنجة التي اتُخذت حياله، والتي نراها في أيامنا تتجدد، وتستعيد دورها وزخمها، وتسدّ منافذ الحرية بالفتاوى المستنسخة التي تكفر الأصوات المجاهرة بمخالفة الشائع والمتداول من الأفكار. أما كتابه «الأيام»، وهو الآخر من أولويات إرث طه حسين، فأرى أن الكتاب شكّل في حينه فرصة سانحة لا للحديث فحسب عن حياته الشخصية برغم تميّزها وثرائها، بقدر ما كانت انعكاساً لحياة الجماعة، ونقداً لاذعاّ للتربية الدينية التقليدية المغلقة. لكن السيرة الذاتية في النص العربي اليوم كما الرواية، تقدّمت عن «الأيام» خطوات واسعة نحو خلع الأبواب الموصدة، واختراق المضمر، والمسكوت عنه في الحياة والنفس.
هل تصدّع المشروع التنويري العقلاني العربي الذي حمل رايته طه حسين؟ يمكن الإجابة بنعم حزينة ومؤسفة في ظل الاستنفار الإيديولوجي الديني الطائفي والمذهبي على مسرح الأحداث، وغياب أفق المستقبل، وراء ظلال العصبيات وأشباحها، والهويات الجارحة والمأزومة، ونُذر النهايات الدامية.
صحيفة السفير اللبنانية