طه حسين ونقد ثقافة ما قبل الحداثة (د. سليم نزال)
د. سليم نزال
لا اعرف كم هناك من يذكر طه حسين الان بعد مرور 40 عاما على رحيله، خاصة ان معظمنا قد تربى في مرحلة الفكر القومي عبر نموذج حكم الرجل الواحد او الحزب الواحد. وفي زمن الفكر القومي اليساري وهي على انواعها اتفقت عن قصد ام عن غير قصد على تغييب مرحلة ورموز عصر النهضة. ولذا فان الكارثة الاولى التي حلت على العرب حسب ظني هو تلك القطيعة التي حصلت مع فكر مرحلة التنوير. واغلب الظن انه لو تم البناء على فكر عصر النهضة او الاستمرار بالعمل التنويري، لربما اتخذ التاريخ العربي مسارا غير المسار الذي اتخذه.
ربما كان طه حسين من آخر التنويريين العرب ان لم يكن اخرهم بالفعل. كان فكره وآراؤه تنتمى لمرحلة القلق الاولى التي عرفتها المنطقة العربية في مرحلة ما يمكن تسميته بالبحث عن الذات. اكتشف العرب انه غابوا الف عام غابوا فيه عن مسرح التاريخ وفكروا أنه حان الوقت لكي يستعيدوا دورهم وأمجادهم؟
لذا تركز النشاط التنويري في البدايه على السعي لتحريض العرب على استعادة دورهم الذي تخلوا عنه (البساتنة واليازجى) ولذا لم يكن من المستغرب ان تسيطر فكرة الخلاص من الاستباد والترقي على فكر التنويريين العرب في تلك المرحلة التي كان جل الوطن العربي يخضع للسلطة العثمانية ولاحقا لاحتلال الدول الاوروبةه (عبد الرحمان الكواكبي . شبلى الشميل . فرح انطون .. الخ).
لقد أدركت النخب العربية في تلك المرحلة ان الضعف والتخلف والهزائم ليست الا نتيجة لوضع عام مهلهل لا يمكن علاجه الا باعادة النظر في مجموع الفكر السائد.
ومن خلال الاشكاليات التي طرحت مثل مسألة التعليم ومسألة المرأة ومسألة العدالة ومسألة الوحدة ومسألة بناء الدولة الحديثة نرى ان جل هذه الاشكاليات كان تصب نحو فكرة التقدم والترقي.
من وجهة نظري على الاقل, لعل اهم حدث ساهم في طرح الاسئلة الكبرى في تلك المرحلة هو اكتشاف العرب للعالم الخارجي الذين كانوا معزولين عنه بقرون، وهذا الاحتكاك بحد ذاته (احتلال نابليون لمصر . رحلة الطهطهاوي الى باريس والبعثات المصرية الاولى للدراسة والكلية السورية في بيروت .. الخ).
كل ذلك أثار السوال الذي طرح بقوة حول الاسباب التي جعلت الاخرين يتقدمون والعرب لم يتقدموا. ولم يكن الاخرون فقط اوروبا بل كانوا أيضا دول اسيوية مثل اليابان التي أثار انتصارها على روسيا عام 1905 فرحا عربيا لأنهم رأوا امكانية قوة اسيوية ناهضة على الوقوف امام قوة اوروبية.
لذا يشكل فكر طه حسين امتدادا واستمرارا لافكار تلك المرحلة التي كانت تنشغل بالسؤال الكبير كيف يتقدم العرب وكيف يمكن لهم الانتقال من مرحلة الدولة السلطانية الى مرحلة الدولة الحديثة؟
فلقد شهدت تلك المرحلة مقابسات مهمة على صفحات الاهرام وسواها تناولت مسائل عديدة لها علاقة بالسوال المركزي كيف يمكن للعرب ان يتقدموا؟
وعلى هذا النحو حصل الانقسام على خلفية ان هناك من كان يرى التقدم يتم عبر نسخ التجربة الاوربية، وكان هناك من يرى بالنموذج الاسلامي الحل، وكان هناك من يرى الأخذ بالنموذجين.
كان طه حسين اكثر قربا حسب اعتقادي برؤية نسخ التجربة الاوروبية خاصة انه درس في باريس و تأثر بالفكر الغربي خاصة (ديكارت) عبر منهج الشك الذي طبقه في بعض ما كتبه مثل كتاب (في الشعر الجاهلي). كما بدا ذلك واضحا في ارائه في هوية مصر المتوسطية.
وحسب اعتقادي لا يوجد هوية كهذه لكنها كانت سعى منه ان يبحث عن هوية لمصر تلتقي فيها مع اوروبا (وان يخرج فيها من اسيا!) وهذا الامر يعكس حسب وجهة نظري تأثير القومية المصرية التي ولدت في ذات الوقت التي ولدت فيها القومية العربية على يد مثقفي بلاد الشام الذين عاش جلهم في مصر. ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلت من فكرة القومية المصرية تتماهى وان تدريجيا مع فكرة القومية العربية بسبب غياب الحدود الثقافية بين الفكرتين.
على كل حال كان على طه حسين مواجهة الزوبعة التي قامت ضده بسبب شكه بصحه ما وصل من الشعر الجاهلي في الكتاب المذكور. وكان عليه كما حصل مع علي عبد الرزاق من قبله الذي رفض فكرة الدولة في الاسلام في كتابه (الاسلام واصول الحكم) ان يواجه عاصفة من الاعتراضات من مؤسسة الازهر التي اعتبر انه تمرد عليها وهو الذي تخرج منها قبل ذهابه للدراسة في فرنسا!
في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) يناقش طه حسين اشكاليه الهوية المصرية التي لا يعتبرها هوية شرقية وهو طرح ينسجم الى حد كبير مع رؤيته لمستقبل مصر. لكنه في الوقت ذاته يركز على اللغة العربية معارضا استخدام اللغة العامية وهي افكار طرحها البعض.
لكن يلاحظ ان طه حسين عاد قليلا نحو جذوره الاولى اي ربما بات أقل ثورية وبات يكتب في التاريخ الاسلامي مثل (على هامش السيرة) و(مرآه الاسلام) .. الخ.
كان طه حسين يربط التقدم الاجتماعي والسياسي بمدى تقدم العلم والثقافة لذا ليس من المستغرب ان يكون من اوائل الداعين لتأسيس جامعة الملك فواد. وفي الزمن الحاضر الاكثر قلقا ربما في التاريخ العربي كله ما زلنا نرى ذلك الانقسام الحاد بين من يريدون تبني النموذج الاسلامي، وبين من يريدون الاستفادة من الحداثة لتطوير مشروع وطني يشبه ربما افكار طه حسين بالتمسك بالهوية الوطنية والانفتاح على الثقافات الاخرى، مع فارق واحد ان الاصلاحيين الذين كانوا يطرحون افكار تبني النموذج الاسلامي أمثال محمد عبده، كانوا يختلفون كثيرا عما نراه الان من اسلام سياسي تصادمي وعنفي.
على كل الاحوال لا شك ان أفكار طه حسين التنويرية سواء لناحية اعتبار التعليم كالهواء والماء او في سعيه نقد ثقافة ما قبل الحداثة كان يلعب دورا تنويريا مهما في مرحلة قلقة من تاريخ بلادنا. وكان بحق امتدادا لهذا الجيل العظيم من التنويريين العرب ممن لعبوا دورا كبيرا في ما بات يعرف بالنهضة العربية التي بدأت في القرن التاسع عشر.
ميدل ايست أونلاين