نوافذ

عادي

اليمامة كوسى

يقول لي أصدقائي بأنني أقول كلمة “عادي” بتواتر كبير هذه الأيام وللحقيقة أنا مُدركة لهذا الأمر تماماً ولا أدري بم عليّ أن أجيبهم لذا أعود وأقول بصيغة ممازحة “كمان عادي!”.

في فترة ما كنتُ أصطدم بالكثير من الأمور وأشعر بأنها تفوق قدرتي على المرور بها دون إبداء “عدم عاديّتها” في نظري. كنت أندهش؛ على سبيل المثال، من المرحلة التي وصل إليها العالم بفعل التكنولوجيا الحديثة وأدوات الذكاء الصنعيّ، وممّا أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي من تغيرات في سلوكيات الناس وعاداتهم، كما كنت أندهش من مدى ملاحقة الناس للصيحات الرّائجة في موديلات الملابس والشعر وكلّ ما يخصّ التجميل والموضة.

كنت أندهش من مذيع الأخبار المثير للضحك، ومن الشريط الإخباري المثير للبكاء، من فعائل البشر السيئة إزاء بعضهم، ومن تصرّفاتهم غير اللائقة بإنسانيّتهم، من قدرتهم على النفاق والكذب بشكل تلقائي وبسيط، ومن الفروقات الشاسعة بين أشكالهم ومضامينهم إلى الدرجة التي تُقتَلع فيها الثقة بالانطباع الأول من جذورها، كنت أندهش أيضاً من قدرتهم على أداء الأدوار التي يتخيّلون أنفسهم يمثّلونها حتى وإن كانت لا تمثّلهم، ومن قدرتهم على افتعال المشاكل من لا شيء، من قوّتهم أو ضعفهم المبالغ بهما، من سذاجتهم في المسائل التي لا تحتاج إلى تفكير وبالكثير ممّا لا يمكنني استحضاره بالكامل لكن بإمكاني تذكّر مدى اندهاشي به عندما صادفته في الكثير من التصرّفات والأقوال والمواقف التي مرّت بي.

هذه الأيام أجد بأنّ عتبة إدهاشي أصبحت مرتفعة للغاية وليس هناك الكثير من الأمور التي تجعلني أقف عندها وأمنع نفسي من قول “عادي” أمامها. بالطبع هذه ال “عادي” لا تعني القبول بالفعل أو تبريره أو ترقيعه فأنا هنا بقولي “عادي” لا أقيّم الأمر بتاتاً لكنني أستطيع تفهّم سبب وجوده وحسب، وهذا ما يجعلهُ غير قادراً على إدهاشي. في الحقيقة أجد دوماً بأن الناس يستصعبون فهم الفرق الشاسع بين ما هو “صحيح” وبين ما هو ” غير صحيح لكن هكذا هو!” ولهذا أتفهّم تماماً مَن سيعتقدون بأنني أمنح هذه الأمور صحّتها عند وصفها بالعاديّة، وهذا ما لم أفعله بالطبع. كلّ ما في الأمر أنني أجد نفسي في محاولة دائمة لفهم ما حولي، وبما أنّ التكرار هو الذي يعزّز الفهم أرى بأنّهُ لا داعٍ للاندهاش بقلّة اندهاشي الحاليّة لأنّني أجد بأنّ  كلّ شيء من حولي يتكرّر تقريباً؛ الناس، الأحداث، والتفاعل الحاصل فيما بينهما.

الأمر الجميل الذي لا يجعلني أشعر بالاستياء من تكرار قولي لكلمة “عادي” هذه الفترة هو أنّ هناك بعض الأمور التي يبدو أنه من الصعب أن تكفّ عن إدهاشي رغم بساطتها؛ بيتُ شعرٍ بليغ قالهُ شاعرٌ على عجل دون أن يعلم كم من العيون ستتوقّف عندهُ وتغرق في أعماقه، منظرُ السماء الحالمة من بعيد وهي مزيّنة بقنديل الليل أو بقلادة النهار، تبدّل ألوان أوراق الشجرة التي أمرّ بجانبها كل يوم، اطمئنانُ غريبٍ إليّ وحديثه معي كما لو أنه يعرفني منذ زمن، ضحكةُ ذلك الطفل الذي ركض نحوي باندفاع باسطاً يدهُ الصغيرة باتجاهي لأُسلّم عليه دون أن يكون هناك سببٌ لذلك، إفضاءُ صديقٍ جديدٍ إليّ بأكبر أسراره، وداعة تلك المريضة التي قبّلتني بامتنان بعد أن أنهيتُ معاينتها وعلاجها، إنّ كلّ تلك اللحظات القليلة التي قد تبدو عاديّة في نظر الكثيرين تشغل الآن كلّ الأمكنة في صندوق دهشتي الصغير وهي لا شك تنتظر المزيد من الأشياء اللامعة الأخرى لتنضمّ إليها في قادم الأيام.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى