عالم الرواية وعالم الروائيين
لعل العلاقة بين الرواية والروائي هي صلب ما يعبر عنه، ويتصدى له النقد تجاه هذا الفن، ابتداء من نشوة الفكرة كمرحلة أولية يتحاور فيه الواقع مع المتخيل إلى تجسيد هذا الواقع والمتخيل وخروجه إلى حيز الفعل الروائي الناطق بصور الحياة وتنويعاتها المختلفة في نسق إنساني، يحمل الإجابة عم كثير من الأسئلة التي تدور في الأذهان.
إن الروائي الذي يبحث عن قانون الرواية، ويتأهب دائما إلى الدخول إلى عالمها المتوازن الرحيب دائما ما يجد نفسه في مختبر مكدس بالمعلومات والعلاقات المتبادلة بين المتخيل والواقع، والتاريخ والإنسان، والزمان والمكان، والأرض والسماء، والأبيض والأسود، وكثير من الثنائيات والمتناقضات التي تحمل دلالات الواقع المعيش، ولعل ذاتية الروائي تظهر بصورة أو بأخرى في الكتابة السردية وهذا ما يسمى بالإبداع الواعي.
وكتاب “الرواية والروائيون .. دراسات في الرواية المصرية” للناقد شوقي بدر يوسف، الصادر مؤخرا عن “وكالة الصحافة العربية – ناشرون” يؤكد أن عظمة الرواية تكمن في أنها بدءًا من إطلالاتها الأولى عند الرواد أصبحت بمثابة الفعل الحياتي، والتصوير الدقيق لأفق الواقع اليومي للإنسان وممارساته، ومواقفه مع ذاته ومع الآخرين، حيث أصبح الفعل الروائي من أعظم الاكتشافات التي حققها الإنسان لملاحقة كافة أشكال التطور الفكري والأدبي، والتفاعل على صعيد العلاقات مع البشر، وتأسيسا على ذلك فإن الفعل الروائي أخذ يقوم بنفسه بمهمة صعبة، وهي التعبير عن الحياة، والـتأكيد على دلالاتها باعتبارها تيارًا متجددًا متحركًا معقدًا، أخذ يسمو انطلاقًا من هذا المفهوم على أجناس أدبية أخرى كالفعل الشعري والفعل الفلسفي اللذين يحددان أنشطتهما في الشعر والفلسفة فقط، في حين أن الروائي لم يكتفِ بحصر نفسه داخل مفهوم خاص وثوابت جامدة لا تتحرك، بل على العكس من ذلك، تحولت الرواية إلى تعبير حياتي متجدد ومتطور.
وعلى هذا تمكنت الرواية من سحب نفسها من دائرة الجمود والانطلاق في فضاء رحب متحرك، ولم يعد النص الروائي يتضمن مادة جامدة نحتت في وقت ما وكفى، بل أصبح حالة من التفاعل النشط، المتعدد الرؤى، والتأويل، والدلالة، وأصبحت المهمة الملقاة على عاتق الروائي هو أنه جعلنا ننخرط في عالمه التلقائي الذي يصنعه لنا، وأن نعايش ما هو مرصود داخل فعله الحكائي، وما هو متصل بشخوصه ومواقفه وأحداثه.
ثمة ما هو أكثر أهمية من هذا كله، وهو أن على الروائي (تحريرنا) من عالمنا الواقعي المفسد، وسوقنا إلى عالمه المتخيل الأكثر إشراقًا وفضيلة حتى ولو كان تصويره للواقع على أساس مذر ومهين وتجسيده لشخصيات ساقطة ووضيعة، ومن ثم فقد أصبحت علاقة الكاتب بالواقع اليومي لمجتمعه وثيقة متعددة الأطراف ومهما بدا أنه يعتزل بنفسه حين يتعامل مع الكلمات، فإنه ليس كيانًا منفصلًا عن الكيانات التي تجعل لوجوده معنى، ولذا فإن علاقته بضميره، وضمير مجتمعه، وضمير أمته، وضمير الإنسانية هي علاقة أبدية لا تنفصم عراها مادامت الحياة مستمرة ومنطلقة إلى الأمام.
ظواهر إبداعية
ومن خلال ممارسته للنقد التطبيقي يؤكد الناقد شوقي بدر يوسف في كتابه أن عناصر عامة يمكن تمييزها ونستطيع أن نستنتج منها صيغة معاصرة لما يحدث في الرواية: أحدهما أن كثيرا من الروائيين اليوم لا يستريحون لاتباع الأساليب القديمة التي حققتها الإنجازات الروائية في تاريخها السابق، وسعوا إلى إعادة خلق، وتجريب أشكال جديدة عبر التساؤل والجدل المستمر حول الأساسيات، فالقواعد التي قامت عليها الرواية في عهودها السابقة جاءت من مصدرين أساسيين، الجماليات الواقعية لرواية القرن التاسع عشر التي تؤكد على المرجعية الأساسية للحكي، والتعبيرية التاريخية للرواية، متمثلة في خطاب يعتمد على “الحبكة” و”الشخصية” والسرد المباشر، والآخر على الجماليات الحديثة لرواية أوائل قرن ماض، وهي تؤكد دائما على المصادر الشكلية والرمزية للعمل الروائي، متمثلة في إعطاء أهمية كبرى للقالب والشكل والأسطورة ومصادر التراث الأخرى في مناحي الخلق المختلفة.
وتناول شوقي بدر بالنقد التحليلي عدة ظواهر إبداعية من خلال الدراسات التي ضمها الكتاب من بينها: البطل الشعبي في روايات نجيب محفوظ، لطيفة الزيات والبحث عن الزمن المفقود، زمان الوصل لمحمد جبريل وأسئلة الرواية، القرية وعالم يوسف القعيد الروائي، ما وراء الواقع في رواية “الزهرة الصخرية”، سطوة المكان والواقع المهمش في رواية “ليالي غربال”، الأنثربولوجيا ورواية التاريخ “نوة الكرم نموذجًا”، رواية “عباس السابع والبحث عن الزمن الضائع”، “الكوميديا الشيطانية ورواية الفانتازيا”، “رأس إسماعيل بين حلم الإيديولوجيا وحلم الواقع”، “إشكالية الاغتراب في الرواية المصرية”.
ويؤكد المؤلف أن النماذج الروائية التي انتخبها لكتابه جاءت وفق رؤيته الخاصة عن علاقة الرواية بالروائي، يقول عنها “إنها علاقة جدلية أن نحاول إبرازها مما سبق نشره في الدوريات من دراسات عنيت أول ما عنيت عن وضعية الروائي نحو فنه، وهي تمثل في الحقيقة نوعًا من التوحد بين الذات الكاتبة، وما كتبت، إنها علاقة بين الروائي السارد والعملية السردية المتضمنة وجهة نظره، ورؤيته تجاه الواقع”.
والنماذج المختارة للدراسات المنشورة في الكتاب، لا تمثل كلها كنه العلاقة الجدلية القائمة بين الروائي والراوية، ولكنها تمثل علاقة النقد مع النص من خلال رؤى الكاتب وتجاربه تجاه واقعة، وتجاه النص السردي الذي يصل ويتلقى ويؤول، ويجد طريقه من عقل الروائي إلى ذهن وقلب المتلقي.
إنه عالم الرواية وأيضًا عالم الروائيين، ربما هي نماذج اخترناها من كتابات بعض الروائيين، ولكنها ليست كل الرواية، فعالم الرواية من الرحابة والاتساع ما يعجز الناقد والمتلقي أن يلم به كله، لذا فهي محاولات رأينا أن تكون، وأن تمثل حالة من العلاقة بين الروائي وروايته.
ميدل إيست أونلاين