عام 2014.. قافلة الراحلين الكبار واستعادة الكنوز المطمورة
عند منتصف هذه الليلة تدق الأجراس معلنة بداية عام جديد. ولكن أيضاً هي أجراس لإعلان انتهاء عام حمل معه الكثير من الأحداث والتفاصيل التي سيبقى بعضها ـ من دون شك ـ حاضراً في «ذاكرة الثقافة» بمعناها الأوسع. عام مرّ، عرفنا فيه تناقض اللحظات التي تراوحت بين الفرح والحزن. وما هذه اللحظات سوى تمهيد للسنة المقبلة، التي لا بدّ من أن تحمل في طيّاتها كل هذا التناقض أيضاً.
في أي حال، قد يكون من الصعب، فيما لو قررنا أن نستعيد أحداث هذه السنة المنصرمة، أن نُلمّ بكل تفاصيلها «العالمية». إذ لسنا على بيّنة إلا بالقليل منها، أي تلك التي وصلتنا أخبارها، أو بالأحرى تلك التي تقع على تماس معنا، من حيث أننا نجد فيها ما يحاكينا. من هنا، ليست الأسطر اللاحقة، «جردة كاملة»، بل هي انتقاء شخصي إذا جاز القول، لما يبدو لنا أنه يشكل أبرز أحداث العام الماضي، على الصعيد الثقافي.
من هذه الأحداث أبدأ بـ «غيابات» بعض الوجوه البارزة، التي غادرتنا وتركت «إرثا» ثقافيا، من الصعب أن يمضي سريعا، إذ سيبقى حاضراً لأجيال مقبلة. بداية، هناك رحيل المايسترو الإيطالي الشهير كلاوديو أبادو عن عمر 81 عاما، بعد صراع طويل مع المرض. وهو أحد وأشهر وأهم قادة الفرق السيمفونية في العالم الذين عرفوا كيف يعطون مذاقاً خاصاً في طريقته بقيادة الأوركسترا، وقد وضع اسمه مع كبار فناني هذا النوع، لدرجة أنه لا يمكن تجاهله، حين يتطرق الحديث الموسيقي عن كبار قادة الفرق الاوركسترالية. وتتمثل طريقته بهذه الحركة الواثقة والأنيقة، لا من يديه فقط، بل من جسده كلّه، كذلك تلك التعابير التي لا تتوقف عن الظهور على وجهه، وكأنها امتداد للموسيقى التي يعزفها، أو لنقل كانت الموسيقى تكتب أسرارها على وجهه وهو يقود العازفين.
لكن وبعيدا عن ذلك، لا بدّ من أن نذكر أن إحدى نجاحات أبادو كانت في الحفلات التي أقامها «للطلاب والعمال» وما ذلك إلا شهادة عن رغبته الدفينة في فتح أبواب الموسيقى الكلاسيكية أمام أشخاص «أقل تمتعاً ومعرفة بهذا الفن».
ماركيز
وإذا شكل «أبادو» صفحة موسيقية كبرى في العالم، فلا بدّ من أن الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يشكل بدوره صفحة أدبية رائعة، وبرحيله تغيب صفحة كبيرة من أدب أميركا اللاتينية والعالم. لم يكن ماركيز اسما عاديا في تاريخ الأدب، بل عرف «كيف يكون الأدب بأسره». عرف كيف يخلص للكتابة (ولا شيء سواها)، كيف يُغيّر وجه الكتابة الروائية بما سميّ «بالواقعية السحرية». السحر هنا، لم يكن سوى استعادة لتاريخ العادات والتقاليد، ليضعها مجددا في قالب آخر يبحث عن حقه في الحياة، وعن حقه في كتابة التاريخ الذي لا يسيطر عليه «اليانكي». (مثلما كان يردد دائماً).
من «مئة عام من العزلة»، الرواية التي جعلت اسمه حاضرا دوما، إلى القول إن «العزلة لم تعد ممكنة» (بعد إصابته بالمرض الذي قضى عليه)، تبدو مسيرته مليئة بالترحال والهجرة والنضال، لكن أيضا مليئة بكتابة لن تُنسى بسهولة، لتتوزع على المقالة الصحافية والقصة القصيرة والرواية والسيناريو السينمائي. لكن الأهم في ذلك كلّه، أن الكلمة بقيت، وأن تاريخ أميركا اللاتينية يقرأ عبر رواياته من «ليس لدى العقيد من يكاتبه» إلى «خريف البطريرك»، و»من مئة عام من العزلة» وصولا إلى «وقائع موت معلن». عديدة هي الكتب التي جعلتنا نعيد اكتشاف التاريخ، أي نعيد اكتشاف ذواتنا. أليس الأدب هو هذا الرهان على أننا نعيش الحياة؟
غورديمير
وإذا كان ماركيز يمثل «صوت أميركا اللاتينية»، بمعنى من المعاني، فإن صوتا روائيا آخر كان يمثل بدوره، صوت قارة أفريقيا: الروائية الجنوب أفريقية نادين غورديمير، التي رحلت عنّا أيضا في العام المنصرم، والتي عرفت كيف تكون سندا حقيقيا للتشهير بنظام التمييز العنصري الذي كان سائدا في بلادها، (مواليد العام 1923).
وعت غورديمير، هذه الجريمة الإنسانية باكرا، وهي من قادها إلى «الوعي» كما إلى الكتابة، لتكون كتابتها كفعل سياسي، إذ تجد أن الكاتب لا يعيش أبداً في عزلة عن مجتمعه. من هنا اعتبرت أن التمييز العنصري جريمة كبرى لا يستطيع أحد أن يدافع عنها. لذلك رددت دائما أنها «أفريقية بيضاء البشرة وليست بيضاء من جنوب أفريقيا».
هذا الالتزام الذي أسهم في كثير من الأحيان بإبراز وجهها كمناضلة مما خنق صورتها ككاتبة فيبقى قبل أي شيء، التزاماً كتابياً. لم تكتب يوماً منشورات أو نصوصاً دعائية، لذلك كانت تقيم دائماً حداً فاصلاً وأساسياً ما بين نشاطها «كمواطنة» وما بين عملها الأدبي. من هنا لم يتأثر إبداعها أبدا بنهاية حقبة سياسة التمييز العنصري، بخلاف دوريس ليسينغ مثلا التي انتهى بها الأمر منذ زمن باختيار المنفى الانكليزي.
من غيابات السنة الماضية أيضا لا بدّ من أن نذكر انتحار الممثل روبن ويليامس، أحد أهمّ ممثلي الشاشة الكبيرة، الذي عرف كيف يطبع اسمه مع سلسلة من الأعمال المميزة مثل «مجتمع الشعراء الموتى» أو «صباح الخير يا فيتنام» وغيرها من الأفلام التي ستبقى عالقة في ذاكرة محبي السينما، مثله مثل زميله فيليب سايمور، الذي جسد في دور بديع حياة الكاتب ترومان كابوت، في واحد من أجمل الاقتباسات السينمائية.
زفايغ
لا بدّ من أن يقودنا الغياب إلى ظاهرة ما، عرفها العام المنصرم، ويجوز لنا أن نقول فيها إنه «ظاهرة ستيفان زفايغ»، الكاتب النمساوي. إذ بعد مرور اثنين وسبعين عاما على رحيله منتحرا لا يزال يشكل ظاهرة حقيقيـة في عالم النشر، حيث لا تتوقف الدور العديدة في العالم عن إعادة طبع كتبـه التي لا تزال تبـاع منهـا مـئات الآلاف من النسخ.
من هنا، قد يكون ممن يشكلون استثناء حقيقيا في عالم الأدب. إذ عرف النجاح وهو بعد على قيد الحياة، كما أن «النجاح» هذا لا يزال يلاحق كتبه بعد انتحاره احتجاجـا لما آلـت إليه أوروبا في زمن النازية. في أي حال، تقول الأرقام (نقلا عن «مؤسسة دراسات السوق») أن مبيعات كتبه وصـلت في السـنوات العشر الماضية إلى 3.2 ملايين نسخة، أي أن كتبه بيعت بمعدل 320 الف نسخة كل عام.
ليس الأمر عاديا، لكاتب بعد كل هذه العقود على رحيله. ربما ثمة فكرة صغيرة تقال: لن يختفي الأدب أبدا بغياب صاحبه.
كنوز
من «الظواهر» أيضا التي عرفها العام المنصرم، اكتشاف «ثروة فنية وأدبية» تعود إلى زمن «الاتحاد السوفياتي». إذ تمّ الكشف عن 12000 «شيء خارق وصور ولوحات وكتب أدبية» كانت مخبأة بعناية في أحد مخابئ الدولة، وتحت الحراسة المشددة. إذ راكمت الدولة في هذا المخبأ الأعمال التي مُنعت والتي «تمّ القبض عليها» بسبب أنها كانت تمثل «الإيديولوجيا البورجوازية» المتناقضة مع إيديولوجيا النظام، مع العلم أنه كان يمكن لأعضاء الحزب والمقربين من الدولة أن يطلعوا على ذلك.
من بين اللوحات التي ظهرت إلى العلن، بعض رسومات فاسيلي ماسيوتين (الذي زين برسوماته أعمال تشيخوف)، ولعل أبرز ما لفت الأنظار، لوحته التي تمثل إمرأة تمارس العادة السرية. هناك أيضاً الكثير من «الغرافورات» (أعمال حفر) اليابانية التي قيل عنها إنها أعمال «حسية» لم تكن تتناسب مع أخلاق الدولة السوفياتية، لذلك تمّ منعها من التداول في السوق. أضف إلى ذلك الكثير من الأعمال والمخطوطات التي تنتمي إلى الأدب البورنوغرافي.
حروب النشر
من سمات العصر التي تلفت النظر، ما حدث خلال العام المنصرم من حرب في عالم النشر (إن جاز القول)، إذ صدر بيان وقعه أكثر من 300 كاتب من العالم رفضوا فيه رفضا قاطعا «احتجازهم كرهينة» من قبل «أمازون» (أكبر شبكة بيع للكتب في العالم الالكتروني)، ناهيك عما قيل إن «حربا تجارية» تقوم بها الشركة المذكورة ضد «هاشيت» التي تعتبر من أكبر دور النشر في العالم، التي اتهمت «أمازون» بأنها تخوض هذه الحرب ضد الدور الأميركية المنضوية تحت جناح «هاشيت» الدار الأم، متوسلة أساليب غير شرعية: إطالة مدة تسليم الطلبيات ورفض القيام بالحسومات المتوجب عليه القيام بها أو حتى رفضها تسجيل طلبات الزبائن.
موديانو
وكما في كل عام، لا بدّ لـ «جائزة نوبل للآداب» من أن تكون «حدثا» ثقافيا بالرغم من كل ما تثيره من غبار حولها. الحدث هذه السنة، كان باتريك موديانو الذي اعتبرته اللجنة الملكية كاتب فن «الذاكرة الذي استحضر من خلاله مصائر إنسانية هي الأصعب فهماً، كما أنه كشف النقاب عن (مفهوم) الاحتلال».
موديانو كاتب «شوارع باريس أيضا وسيرها»، وكأنه بدوره يبحث عن «الزمن الضائع»، في تلك المدينة المتحولة، لكن المحتفظة بتاريخها وذاكرتها.
صحيفة السفير اللبنانية